عمى الزمان

9

د. مراد وهبة

يلزم في البداية بيان معنى مصطلح «عمى الزمان» الذي صككته على غرار المصطلح الشائع في علم النفس وهو «عمى الألوان» الذي يعني فقدان القدرة على التمييز بين الألوان بسبب اقتصار الرؤية الحسية على لون واحد فقط وهو إما الأسود أو الأبيض. وهكذا يمكن القول إن «عمى الزمان» يعني فقدان القدرة على التمييز بين آنات الزمان: الحاضر والماضي والمستقبل بسبب اقتصار الرؤية العقلية على آن واحد فقط وهو الحاضر، والذي يعني غياب كل من الماضي، والمستقبل. وإذا كان الماضي في أصله رؤية مستقبلية كانت قد تحققت في الوضع القائم، وعندما دخل هذا الوضع في أزمة ألزمته الضرورة على الدخول في الماضي ومن ثم قيل عنه إنه أصبح في وضع مضى. وفي هذا السياق يلزم القول إن «عمى الزمان» ليس إلا عمى المستقبل. وإذا حدث هذا النوع من العمى فماذا تكون النتيجة؟ التخبط في التحرك في الحاضر من غير تمييز بين تحرك وآخر، وبالتالي يمتنع تبرير الانحياز إلى تحرك دون آخر. ومعنى ذلك حدوث فوضى يمتنع معها القول إنها فوضى مبدعة، بمعنى أنها فوضى مولدة لنظام ما على حد تعبير العالم البلجيكي إيليا بريجوجين الحائز على جائزة نوبل في عام 1977 في كتابه المعنون «مولد نظام من فوضى» والذي دفعه إلى هذا التصور مردود إلى أنه يقف ضد العلم التقليدى الذي يركز على الاستقرار والتنسيق والاتساق، وهي سمات النسق المغلق المتميز بأنه لا يرى سوى التقدم في خط مستقيم. ولكن مع بزوغ التغيرات الاجتماعية السريعة يكاد يقترب من الفوضى. ومع ذلك يظل السؤال مثارًا: كيف يمكن أن يقال عن فوضى إنها مبدعة لنقيضها وهو النظام؟ وتبريري لهذا السؤال يستند إلى تعريفي للإبداع بأنه قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل إحلال وضع قادم محل وضع قائم مأزوم. وفي سياق هذا التعريف يمتنع تناول مصطلح الفوضى المبدعة باعتبار أن الفوضى لا تستقيم مع الإبداع ومن ثم يلزم الاكتفاء بالفوضى من غير أى إضافة.

وتأسيسًا على ذلك كله يلزم تناول مصطلح «عمى الزمان» إزاء ما هو حادث في السودان. والسؤال بعد ذلك: لماذا هذا اللزوم؟ الجواب عندي مردود إلى المسار السياسي للسودان، وهو مسار له قصة عندي جديرة بأن تُروى بدايتها في عام 1971، عندما دعيت لأن أكون أستاذًا زائرًا بجامعة الخرطوم من أجل المساهمة في تطويرها في اتجاه التنوير، ألا أن مقاومة حزب الإخوان كانت عنيفة إلى الحد الذي منعت فيه توزيع كتابي الذي ألفته خصيصًا للصف الثالث الثانوي بناء على مطلب من الوزير. وإثر ذلك الحدث قررت إلغاء إعارتي بالرغم من اعتراض الوزير الذي أُقيل بعد ذلك من منصبه ثم اعتقل. وبعد ذلك ظل حزب الإخوان متحكمًا في السودان لمدة ثلاثين عامًا.

وفي عاما 2003 اشتعلت حرب دارفور التي كانت السبب في نشأة الميليشيات المسلحة. وفي 15 أبريل من هذا العام انطلقت الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، إلا أن هذه الحرب قد تحولت إلى حرب مدن، أو بالأدق إلى حرب شوارع، ومن ثم أصبحت المنازل امتدادًا للشوارع بلا حواجز، وبالتالي أصبح الكل في حالة حرب حيث لا فرق بين مدني وعسكري، بل لم يعد ثمة تفرقة بين النوم واليقظة إلى الحد الذي فيه النوم تداخل مع الكابوس. وهنا تكمن محنة السوداني، لأن الكابوس يكون محاصرًا بالرعب والفزع ومنتهيًا بالصراخ والبكاء لفترة طويلة من الزمن. ومع التكرار يرتد الإنسان إلى مرحلة الطفولة التي تتميز بطغيان الكابوس. والأسوأ من ذلك أن ذلك الكابوس قد يمتد حتى يصبح عالميًا.

وقد كان عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السابق ثاقب الرؤية عندما قال في 12/4/2023: إذا كان السودان سيصل إلى نقطة حرب أهلية حقيقية فإن سوريا وليبيا واليمن ستكون مجرد مبارزات صغيرة. وفي هذا السياق أعتقد أن ذلك سيشكل كابوسًا للعالم. وتأسيسًا على هذه الرؤية يمكن القول إنه مع سيادة هذا الكابوس فإن البشرية تكون في هذه الحالة مرتدة إلى طفولة تتميز بعمى الزمان، حيث تنتفي التفرقة بين آنات الزمان. ومن هنا يلزم إثارة هذا السؤال المأساوي: هل العالم على وعى بمغزى الكابوس السوداني؟ أشك في أن يأتى الجواب بالإيجاب. ولا أدل على ذلك من أن دول العالم ليست مهمومة سوى بأمر واحد وهو إجلاء رعاياها عن السودان بدون إحداث أي ضرر لهم. ومع ذلك فإن الهم بذلك الأمر الواحد لم يعفها من قبول آلاف المهاجرين من السودانيين دون إذن سابق. ومن هنا فإن الفوضى الحالية في السودان يكون من نتائجها المحورية عمى الزمان.. وبذلك يضاف عمى الزمان إلى مرض آخر معد وهو كورونا. وإذا كان مرض كورونا قد وجد علاجًا شافيًا، فهل في إمكان عمى الزمان أن يجد علاجًا شافيًا؟ إلا أن هذا السؤال ينطوي على سؤال أخطر: هل نحن على وعى بخطر هذا العمى؟ أظن أن حرب السودان كفيلة بأن تدخلنا في ذلك الوعي؟ فإذا كانت كذلك فبها ونَعمت. وإذا لم تكن فإن العالم يكون إذًا في الطريق إلى الكابوس على حد قول عبدالله حمدوك.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا