المعرفة

1

د. مراد وهبة

كان “مسار فكر” هو عنوان كتاب كنتُ قد أصدرته في عام 2011، واعتبرته الجزء الأول من غير أن يكون في ذهني الجزء الثاني الذي يمكن اعتباره مكونًا من تفكيك الفكر إلى كلمات، ثم تحليل مسار كل كلمة لمعرفة بدايتها ومسارها. ويكون هذا إثراء للفكر ذاته ومزيدًا من الوعي بالقانون ذاته الذي يحكمه على نحو ما جاء في تقديمي للجزء الأول والذي جاءت في سطره الأول هذه العبارة: مسار من الفعل سار، أي مشى. والسؤال إذن: ما هو القانون الذي يحكم الفكر في مساره؟ ثم أضيف: ما هو القانون الذي يحكم الكلمة في مسارها؟

والسؤال بعد ذلك: لماذا اخترتُ كلمة المعرفة «بداية لهذا الجزء الثاني؟ الجواب عندي مردود إلى سببين: السبب الأول يكمن في العبارة التي اختتمتُ بها الجزء الأول وهي على النحو الآتي: التعايش البشري في عالم مسئول ومتعاون مع بداية القرن الحادي والعشرين يصلح أن يكون بداية الجزء الثاني من مسار فكر. والسبب الثاني يستند إلى السبب الأول في سياق البحث عن الكلمة التي يمكن أن تكون بداية للكشف عن هذا التعايش البشرى، وقد عثرتُ عليها في العبارة الأولى الواردة في السطر الأول من كتاب “ما بعد الطبيعة” لأرسطو، وقد جاءت على النحو الآتي: “كلنا يشتهي المعرفة بحكم الطبيعة. والمغزى هنا يكمن في عدم التفرقة، في سياق اشتهاء المعرفة، بين الصغير والكبير.” وقد يكون هذا المغزى صادمًا بحكم ما اعتدنا عليه من القول إن الطفل يولد بلا عقل في البداية، ولكنه مع التطور يبدأ العقل في التكوين حتى يكتمل. وأنا على الضد من هذا الرأي الشائع إذ الطفل يولد بعقل مكتمل، ولكنه لا يتضح لنا إلا مع قدرة الطفل على اكتساب اللغة، إلا أن هذا الوضوح المتأخر لا يدل على عدم وجوده إذ هو موجود منذ بداية مولده. ولا أدل على ذلك من صراخ الطفل عند خروجه من الرحم، فهو لا يصرخ بسبب الألم إنما بسبب التناقض الذي ولدته الدهشة من وجوده في عالم جديد مغاير لعالم الرحم. ويمكن القول إن ثمة تناقضًا بين إحساسه بالأمان وهو داخل الرحم، وإحساسه بعدم الأمان وهو خارج الرحم. الطفل إذن منذ البداية في حالة دهشة، والدهشة هي أساس التفلسف على نحو عبارة أرسطو في كتابه “الميتافيزيقا”. وهو أمر يستلزم أن يكون فيه عقل الطفل مكتملًا بالضرورة. وأظن أن هذه العبارة صادمة إلا أن هذه الصدمة يمكن أن تزول بعد إثارة السؤال الآتي:

كيف يفهم الطفل لغة هو يجهلها قبل أن يكتسبها؟

إنه يفهمها استنادًا إلى ما يراه من الإشارات والانفعالات التي تبدو على وجوه المحيطين به، وهو لا يلبث أن يترجمها بعقله، ولكنه يعجز عن التعبير عنها لغويًا. وهو في هذه الترجمة يوحي بالمعنى إلى عقله، ومع التطور يتعلم الطفل كيف يربط لفظًا ما بشيء معين دون الاستعانة بالإشارات والانفعالات. ثم يتعلم كيف يطلق لفظًا واحدًا على عدة أشياء في آن واحد. وفي هذه المرحلة، يتم تكوين المعاني الكلية ومن ثَمَّ فإن الطفل يدرك أن الاسم ليس من خصائص الشيء الجوهرية، أي أن الاسم يكون في هذه الحالة مجرد رمز للمسمى. وفي هذه المرحلة أيضًا، فإن اللغة لا تختلف عن سائر الحركات التي يؤديها الطفل لإحداث الآثار فهي وسيلة وأداة في خدمة العقل. والخلاصة هي أن مرحلة فهم اللغة سابقة على استخدامها. والمغزى هنا أن العقل هو رائد اللغة. وفي هذا السياق أقول إن ضبط اللغة مرهون بضبط الفكر، وعكس ذلك ليس بالصحيح. وهذا القول يفضي بنا إلى ضرورة إعادة النظر في تدريس اللغات أيًا كانت ومنها لغتنا العربية. فثمة رأي شائع في تدريس اللغة العربية يكمن في التركيز على قواعد النحو دون التركيز على قواعد العقل. وأنا على الضد من هذا الرأي الشائع، لأن قواعد العقل سابقة على قواعد اللغة، بل إن قواعد العقل يمكن أن تكون مانعة من سقوط الطفل في الأخطاء اللغوية. وأنا قد انتهيتُ إلى هذه النتيجة عندما زرتُ معهد الصم والعمى في مدينة زاجورسك، وهي إحدى ضواحي موسكو. وهناك التقيتُ ميشريكوف العالِم التربوي المسئول عن تعليم هؤلاء الأطفال، وكانت الفلسفة إحدى المواد المطلوبة تعلمها من قِبل الفلاسفة السوفيت الذين يأتون إلى المعهد لإلقاء محاضرات من خلال أجهزة الكترونية. وقد سألتُ أحد الأطفال عن انطباعاته الفلسفية فقال: الفلسفة هي علم التفكير وهي أكثر العلوم تجريدًا. والفلسفة قديمًا كانت تشتمل على جميع العلوم، ولكن حديثًا بدأت العلوم تنفصل عنها وتستقل. وانحصرت الفلسفة في مسألة واحدة وهي مسألة الحقيقة. ومع ذلك، كان ثمة خلاف بيني وبين ميشريكوف في مسألة العقل المكتمل عند الطفل: إذ كان رأيه أنه ليس ثمة وجود مسبق للعقل، وإنما هو يوجد ويتكون بفضل استخدام الطفل للأشياء. وكان سؤالي: مَنْ الذي علَّم الإنسان البدائي استخدام الأشياء استخدامًا إنسانيًا؟ وكان جوابي هو أن الإنسان منذ مولده وهو على وعي خفي بأسلوب مواجهة الحياة، وهو أسلوب يعتمد على التجريد أكثر من اعتماده على التجريب. ومن ثَمَّ فإنه ليس في الإمكان إدراك الظواهر من حيث هي ولكن من حيث هي في علاقة مع. ومن هنا تنشأ علاقة عضوية بين ما هو مجرد وما هو عيني، أي علاقة متشابكة ومتداخلة. وبفضل هذا التداخل، يبزغ الإبداع لكي يدفع هذه العلاقة إلى الارتقاء نحو مستويات أعلى.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا