روح الحق وروح الضلال

17

العدد 87 الصادر في ديسمبر 2012
روح الحق وروح الضلال

    لا شك أن ما يحدث في مصر ولها في هذه الأيام شئ لا يصدقه عقل حتى لو كان هذا العقل بعيد كل البعد عن المنطق والتفكير السليم. فمن لم ينزلوا إلى ميدان التحرير في أول أيام الثورة هم الذين يقودون مصر، والشعب الذي قام بالثورة في هذه الأيام، ومن كان اللاعب الاحتياطى أو الاستبن كما يسمونه، لا يكتفي بوظيفة المدرب، بل يريد أن يكون صاحب الفريق، واللاعب الأوحد وحارس المرمى، وعلى الجميع أن يكونوا متفرجين لا دور لهم إلا التصفيق والتهليل والهتاف، سواء أكانت الأهداف تسجل في مرماهم أم مرمى خصومهم، وإن لم يعجبهم هذا اللامنطق فلنذهب إلى صندوق الاتنتخابات، وليقل الشعب كلمته. أما من هو الشعب الذي سيقول كلمته فقد اختلف على تعريفه النقاد وتضاربت بخصوصه القواميس المصرية، ففي نظر الكثيرين، وخاصة السلطة الحاكمة لمصر في هذه الأيام، الشعب هم الإخوان المسلمين والسلفيين والمسلمين والمتأسلمين والغلابة المغيبين، وما عدى ذلك فهم الفلول والليبراليين المجانيين والمعترضين وإخوان الشياطين، وتحت أية رؤية وأي مسمى ليبقى الحال على ما هو عليه، وعلى المتضرر اللجوء للقضاء، الذي يسعى اللاعب الأوحد إلى تكميمه بكل الوسائل والأساليب، حتى بالتلاعب في مواد الدستور، قديمه وحديثه، وما بينهم، وهكذا تصبح نتيجة أي اقتراع أو انتخاب معروفة مسبقاً وسيُعْلَنُ عنها قبل الانتهاء من فرز أصوات المقترعين، كما حدث من قبل، وسيصبح صوت اللاعب الواحد أعلى الأصوات، ولا صوت يعلو فوق صوته حتى صوت المعركة، وتحيا مصر الإخوانية السلفية العربية الإسلامية الدينية. والناس عامة أصبحوا في حيرة ودهشة وسخط عام، وقليلون هم الذين يعرفون ما يحدث في مصر ولها في هذه الأيام. فلقد اختلط الحابل بالنابل، الصدق بالكذب، الحق بالضلال. فإذا رججت، بقوة ولمدة كافية، كوباً من الماء مضافاً إليه كمية من الزيت لصعب على العين المجردة أن تفرق بينهما، ولخيل إليها أن الماء قد امتزج بالزيت وأصبحا مادة واحدة، تختلف عن الماء والزيت كل بمفرده، لكن، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، أن الكذب والصدق، والحق والباطل، والأمانة والخيانة لا يمكن أن يمتزجا وإن تخالطا وترجرجا بقوة، في وقت من الأوقات وتحت أي ظرف من الظروف. لكن الأمر الصعب علينا كمصريين، كما هو الحال مع السوريين، والعراقيين وبقية شعوب الدول العربية، هو أن نميز بين الحق والضلال، وخاصة في وقت يقدم لنا فيه الضلال على أنه الحق، ويقاوم فيه الحق كما لو كان هو الضلال بعينه.

    ولقد حاولت تتبع الحق لإظهاره والضلال لإزهاقه فأعياني البحث، لكني سأشارك معك، عزيزي القارئ، ما توصلت إليه من حقائق، وفي النهاية أنت الحكم والمجداف والملاح لسفينة حياتك فلنبحر معاً.

    أولاً: وجدت أن الخليقة كلها كانت ولا تزال، منذ أن أضل الوسواس الخناس آدم وحواء، فضاع منهما الحق الذي خلقهما المولى به وعليه، الخليقة تبحث عن ما هو الحق أو من هو الحق. ولقد جسد هذا البحث عن الحق الوالي الروماني بيلاطس البنطي في محاكمته للسيد المسيح تبارك اسمه، حيث يذكر كتاب الله الوحيد، الكتاب المقدس، كتاب الكتب، سؤاله عن الحق في القول:

    “فقال لَه بيلاطس: «أفأنت إذاً ملك؟» أَجاب يسوع: «أنت تقول إني ملك. لهذا قد ولدت أنا ولهذا قد أَتيت إلى العالم لأَشهد للحق. كل من هو من الحق يسمع صوتي».

    قال له بيلاطس: «ما هو الحق؟». ولما قال هذا خرج ….”. ومع الأسف الشديد فلقد سأل بيلاطس السيد المسيح أهم سؤال يمكن أن يسأله الناس على مر العصور والأزمان، لكنه لم ينتظر أن يأخذ الإجابة بل خرج، واليوم يتساءل الناس جميعاً نفس السؤال، ما هو الحق، وأين هو في كل ما نراه ونسمعه وحتى ما نعمله، لكنهم للأسف لا ينتظرون الإجابة تماماً كما فعل بيلاطس البنطي مع السيد المسيح في القديم.

    ثانياً: لقد وجدت في بحثي أن الحق في تعريف الكتاب المقدس، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو ليس شئ بل شخص، وروحه، وكلمته، وأعماله، وصفاته، وإرساليته، وشريعته، وكل ما يتعلق به.

    فالحق الأوحد والأسمى، والذي منه يستمد أي حق آخر مصداقيته وهويته وكينونته هو شخص المسيح تبارك اسمه. فلقد وصف السيد المسيح نفسه بالقول أنا هو “الطريق والحق والحياة” وعن روحه القدوس قال “متَى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق”. وعن كلمته قال “قَدسهم في حقك. كلاَمك هو حق”. وعن شريعته قال فيه نبي العلي ملاخي بروح النبوة: “شريعة الْحق كَانت في فمه وإثم لم يوجد في شفتيه”. أما عن سبب ميلاده في هذا الجسد الإنساني وإرساليته فقد قال إنه ولد وجاء ليشهد للحق “لهذا قد ولدت أنا ولهذا قد أَتيت إلى العالم لأشهد للْحق. كل من هو من الحق يسمع صوتي».

    ثالثاً: إن ما يحدث في هذه البسيطة منذ خلقها وحتى قيام الساعة هو من عمل روحين لا ثالث لهما، يُعرف أحدهما بروح الحق، والآخر بروح الضلال. فيقول تلميذ الميسح، يوحنا الرائي الحبيب الإنجيلي، مساق بوحي القدير وروحه،  “نحن من الله. فمن يعرف الله يسمع لنا، ومن ليس من الله لا يسمع لنا. من هذا نعرف روح الحق وروح الضلال”.

    ولكي يفهم الناس ما يحدث حولهم لابد لهم من التمييز بين طبيعة، وعمل وصفات روح الحق وروح الضلال، وهذا على الإنسان ليس بعسير إن هو قرأ الكتاب المقدس كلمة الله المعصومة بتواضع وبحث وتدقيق.

    رابعاً: إن ما توصلت إليه من معرفة لطبيعة وعمل وصفات كل من روح الحق وروح الضلال هو فقط ما ذكر في كتاب الله المقدس، والذي قررت أن ألتزم به دون ترك العنان لنفسي لذكر ما هو من خبراتي الشخصية، حتى لو كانت هذه الخبرات صحيحة ودقيقة ومنطقية، ما دام لم يذكرها العليم بكل شئ في كتابه الكريم، وهذه الصفات تتلخص في:

    أ- روح الحق يقول الحق، وكل الحق ولا شئ إلا الحق، قال الرب يسوع تبارك اسمه:  “وأما متَى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق …”.

    أما روح الضلال فلا يقول الحق، وإن قال حق لا يقول كل الحق، وبجانب الحق يدس الباطل ويقول قولاً حق لكن المقصود به باطل.

    والسبب في ذلك أن الحق سبحانه وتعالى ليس فيه، أي في طبيعته، وكلمته، وصفاته، باطل على الإطلاق، ولا يحتاج أن يستخدم الباطل للوصول إلى ما يريد فهو فعال لما يريد، وقوته وكينونته هو النور الذي فيه في ذاته، والذي ليس فيه ظلمة البتة. أما روح الضلال فليس فيه أو عنده من النور شئ بل هو يستخدم الظلام الحالك المحيط بالعقول والقلوب ليصل إلى أغراضه. فلقد علمنا تنزيل الحكيم العليم أن  “كُل مَن يعمل السيآت يبغض النور ولاَ يأتي إلى النور لئلا تُوبخ أَعمالُه. وأما مَن يفعل الْحق فَيقبِل إلى النور لكَي تَظْهر أَعماله أَنها بِالله معمولَة». فالانتخابات التي يجريها روح الحق تكون بحق في النور، حرة نزيهة، يأخذ كل من فيها حقه، لا يهاجمه في شخصه أو عائلته أو دينه أو عقيدته، من هم مرشحون أمامه ولا أنصارهم ومؤيديهم، ولا يطعن أحدهم في نزاهة الانتخابات ولا نزاهة أقرانه من المرشحين، ولا يوزَع فيها زيت ولا سكر ولا بطاطس، ولا يهدد فيها مرشح بأنه إن لم يفز فسيولع الدنيا نار، وأن أتباعه على استعداد لإراقة الدماء إن لزم الأمر، ولا يسرع فيها مرشح للإعلان عن فوزه قبل اعتمادها ويحترم فيها الجميع كافة المرشحين، ويقدم كل منهم غيره في الكرامة ويتمنى له الفوز كما يتمنى لنفسه حاسبين بعضهم البعض أفضل من أنفسهم كما علمنا سيد كل الخلق في كتابه المبين، ويخضع كلُ كبير وصغير فيها للشخص المنتخب بالحق والعدل، بكل تواضع ومحبة وإخلاص. ولو تساءل أحدهم هل توجد مثل هذه الانتخابات بين البشر في القرن الواحد والعشرين، أقول إن انتخابات البابا تواضروس الثاني وما تقدمها ورافقها وتبعها تؤكد ما أقول، وفي رأيي أن انتخابات البابا للكنيسة المصرية الأرثوزكسية قد ضربت لنا أمثلة ستظل خالدة إلى أبد الآبدين، وهي، أي الانتخابات البابوية، لا تقل أهمية، إن لم تزد في أهميتها، عن انتخابات مجلس الشعب أو الشورى أو حتى رئيس الجمهورية لأسباب كثيرة ليس المجال لتعدادها في هذا المقال.

    ب- روح الحق لا يحنث بالوعود والعهود ثم يصلى أو يصوم كتوبة تمثيلية أو حتى حقيقة عن هذا الحنث، فشريعة الحق تحرم على المرء أن يحنث أو ينقد عهده تحت أي سبب من المسببات أو مسمى من المسميات. وخاصة إذا كان هذا الحلف أو العهد ليس فقط بين الإنسان وربه، لكنه تعدى ذلك لغيره من البشر الذين حلف لإرضائهم، أو خداعهم، أو إتقاء شرهم، ففي هذه الحالة يكون الناس جزء من هذا الحلف أو العهد ولا يجوز إلا للمولى القدير وحده أن يبطله، وبما أن المولى يكره من يكسرون العهود، حتى لو لم يكن له سبحانه أية علاقة بها، وهو من قال عن نفسه إنه لا ينقد عهده ولا يغير ما خرج من شفتيه ولا يرجع في كلامه، يكون الحنث بالحلف وكسر العهود جريمة روحية لا يقبل عنها توبة أو صلاة أو صيام ولا بد من معاقبة مرتكبها مهما كان مكانه أو مكانته في عالم الأحياء.

    ج- روح الحق لا يؤمن بنسخ ما يقوله من حق. فالحق لا ينسخ، ولا يُعدل، فإذا ما قال الإنسان الحق المطلق فلا داعي أن يعود ويرجع في كلامه أو يغيره أو يعدله، فكم وكم المولى من يقول فيكون يأمر فيصير. قد يضيف المرء أو حتى المولى سبحانه على ما قال لكنه لا يلغيه، ولا ينسه ولا يأتي بمثله أو أحسن منه على الإطلاق. فالسماء والأرض تزولان أما قول الحق فلا يزول.

    د- شريعة الحق، وهي المفرز التلقائي لروح الحق، لا تحابي الوجوه كقول الحق على لسان بطرس أحد حواري المسيح “بِالحق أَنا أَجد أن الله لا يقبل الوجوه بل في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البِر مقبول عنده، وشريعة الحق لا تفرق في المعاملة بين بني آدم، وليس لديها خير أمة أو أسوأ أمة أخرجت للناس، ولا تُقَوِّمُ الرجال على النساء، وبها لا يفضل الله بعضهم على بعض درجات، فلقد خلق سبحانه” وصنع مِن دم واحد كل أمة مِن الناس يسكنون على كل وجه الأَرض”

    لذا فقد نصت شريعة الحق على أنه “ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. لَيس ذكر وأنثَى، لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع.

    هـ- روح الحق يعين ضعفاتنا ويقوى ايماننا بالله، “وكذلك الروح أيضاً يعين ضعفاتنا”. أما روح الضلال فيضخم من ضعفاتنا ويركز عليها، ويدخلنا في تشويش ذهني وحيرة وفشل ويأس وغيرها مما يباعد بيننا وبين المولى الرحيم.

    و- روح الحق يركز على محبة الآخر مهما كانت أوجه الخلاف والمصالح الشخصية والعقيدة الدينية، فلقد قيل “طهروا نفوسكم في طاعة الحق بالروحِ للمحبة الأخوية العديمة الرياء، فأحبوا بعضكم بعضاً من قلب طاهر بشدة. وأيضاً ” من قال إنه في النور وهو يبغض أَخاه، فهو إلى الآن في الظلمة. من يحب أَخاه يثبت في النورِ وليس فيه عثرة. وأَما من يبغض أَخاه فهو في الظلمة، وفِي الظلمةِ يسلك، ولا يعلم أين يمضي، لأن الظلمة أعمت عينيهِ. وروح الحق يفرح بمن يسلكون بالحق، كما علمنا يوحنا تلميذ المسيح في رسالته إلى غايس الحبيب عندما خاطبه قائلاً: “لأَني فَرحت جداً إِذ حضر إِخوة وشهدوا بِالحق الذي فيك، كما أَنك تسلك بِالحق. ليس لي فرح أعظم مِن هذا: أن أسمع عن أولاَدي أنهم يسلكون بِالحق”.

   ي- لكن أعظم ما في الحق، وكله عظيم، إنه كما قال الكتاب يثبت فينا وسيكون معنا إلى الأبد “من أَجل الْحق الذي يثبت فينا وسيكون معنا إلى الأَبد”، أما الضلال فلن يثبت فينا وهو مؤقت الوجود وإن طال زمان وجوده حولنا، فإذا ما جاء الحق زهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.

    وفي النهاية يبقى السؤال: كيف نعرف من يعمل حقاً بروح الحق من المضل الذي يعمل بروح الضلال؟ وخاصة بعد أن صرح نبي الله يوحنا منذ قرابة الألفي عام قائلاً: “لأَنه قَد دخل إلى العالم مضلون كثيرون” فما بالك بهذه الأيام الشريرة التي نعيش فيها، وللإجابة على هذا السؤال أقول نفس ما قاله ذات التلميذ يوحنا “كل من لاَ يعترفون بِيسوع المسيح آتياً في الجسد. هذا هو الْمضل، والضد للمسيح”. أي أن كل من لا يعترف أن المسيح يسوع هو الله الذي ظهر في الجسد فهذا هو المضل، ونحن نعلم وفقاً للكتاب المقدس أننا من الله كما هو مكتوب “نحن من الله. فمن يعرف الله يسمع لنا، ومن ليس من الله لاَ يسمع لنا. من هذا نعرف روح الحق وروح الضلال”. فكل من يسمع رسالتنا ويؤمن بها نعرف أنه من روح الحق، وكل من لا يسمع لنا، أي لرسالة كتابنا المقدس بل يعتبره مكدساً ومحرفاً، فهذا وفقاً لكتاب الله يعمل بروح الضلال”. وكل من لا يؤمن بصليب المسيح وقيامته فليس من الله. ولن يصلح حال مصر إلا إذا ميزت الحق من الضلال، وقبلت الحق حتى لو كان مؤلماً ورفضت الضلال حتى ولو بدى جميلاً جذاباً واعداً، ولن تتمكن مصر من معرفة الحق من الباطل إن لم تقبل شريعة الحق، شريعة المسيح فهو الطريق والحق والحياة، ولن يمكنها أن تسلك في طريق الحق إن لم تستيقظ الكنيسة من غفلتها وتوجه قلبها إلى الآب السماوي تائبة معترفة بخطاياها وتقصيرها وتساهلها مع روح الضلال والمضلين وإخفاء نورها تحت المكيال ومشابهتها لأهل العالم الذين يسيرون بروح الضلال لا روح الحق.

    أقول قولي هذا و استغفر الله لي ولكم. اللهم أنعم علينا بإطاعة روح الحق ومقاومة روح الضلال، اللهم امنحنا تمييزاً لكل ما هو حق والبعد عن كل ما هو ضلال، اللهم اعطنا أن نسلك في النور والمحبة والحق وافضح يا مولانا روح الضلال. اللهم ثبت في مصر روح الحق واطرد من وسطها روح الغي والضلال، فأنت وحدك القادر على كل شئ وأنت وحدك المستعان يا رب العالمين، آمين.

1 تعليق

  1. لك خالص الشكر الدكتور القس ناجى يوسف على هذه المقال القيم الغنى. الرجاء إرسال لى مقالك التى كتبتها قبل سنوات بعنوان” روح الغي ” والمبنية على الآية الواردة فى سفر النبى إشعياء 19 14
    عنوانى البريدى

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا