الكنيسة وتقاليدها… والمبدع ومنحوتاته

2

مدحت بشاي

لا شك أن المتابع لفلسفة الإدارة الروحية والعملية التي انتهجها قداسة البطريرك تواضروس الثاني لتفعيل عمل منظومات التعليم الكنسي، وإدارة فعاليات الخدمات الروحية، والاشتباك الإيجابي والمثالي مع أجهزة الدولة، والتفاعل المفيد مع وحدات المجتمع المدني، والعمل على دعم إفشاء حالة من السلام الاجتماعي، حتى في أقسى ظروف مواجهة التحديات التي عاشتها الكنيسة في أزمنة تتابع وقوع الأحداث الإرهابية وشيوع الفكر المتطرف، هي جميعها أمور ينبغي التوقف عندها بالتحية والتقدير.

نعم، كانت بداية حبرية قداسة البابا تواضروس الثاني في ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد والخطورة والمسئولية بتولي جماعة الإخوان الإرهابية حكم البلاد، وهم مَنْ لا يدركون ولا يعترفون بأي قيم وطنية، وهم مَنْ عاشوا قرنًا من الزمان لا يعرفون معنى مفهوم “المواطنة”. وكان على قداسة البابا أن يجد الوسيلة الممكن بها التعامل معهم مع تجنيب البلاد والعباد شر الوقوع في مهالك الفتن، فكان تأكيده أن الكنيسة القبطية تؤمن بأن مصر وطن للجميع يقوم على أسس المواطنة. وقد حاولت الجماعة المحظورة جر الكنيسة أكثر من مرة إلى صراعات عديدة، ولكن البابا تعامل معها بكل حكمة.

لقد كان انحياز الكنيسة في عهد حبريته للشعب والجيش عند خروج الملايين يحميهم جيش بلادي في 30 يونيو، فساند قداسته قوى الشعب من خلال مواقف وطنية سوف يذكرها التاريخ بكل فخر، وأثناء ذلك كان قد تم حرق وتدمير عدد هائل من الكنائس في محاولة لإثارة الأقباط، ولكن كان رد البابا: “وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن”. ففي خلال 11 عامًا، قاد البابا تواضروس دفة إدارة الكنيسة بكل حكمة، محافظًا على الدور الوطني للكنيسة الممتد منذ تأسيس الكرسي المرقسي، واستكمل الدور الوطني في العصر الحديث الممتد من عهد البابا كيرلس السادس والبابا شنودة الثالث، وحافظ على هذا الدور الذي يقوم على أهمية المواطنة والحفاظ على الوطن والدفاع عنه في جميع المحافل الدولية، وهو دور محل تقدير كل الأقباط وكل المصريين.

– وفي أول عام من انتخابه بطريركًا، اعتمد المجمع المقدس لوائح جديدة لتنظيم شئون الكنيسة، أولاها لائحة انتخاب البطريرك التي حلت محل لائحة 1957، ولائحة للمعاهد التعليمية، وأخرى للتربية الكنسية، وأخيرًا لائحة للأسقف الجديد، ولائحة اختيار الكاهن، ولوائح انتخاب مجالس الكنائس وأمناء التربية الكنسية، مع وضع دليل للرهبنة القبطية ودليل للأب الأسقف ونظم إدارة الأبرشية.

– وفي قطاع الأديرة، اعترف البابا تواضروس بالعديد من اﻷديرة مثل العذراء ورئيس الملائكة، ودير الأم سارة للراهبات في المنيا، ودير الشهيدة دميانة بالبلينا. وخارجيًا، تأسست أبرشيات بهولندا، واليونان، وجنوب وشمال فرنسا، وكندا.

– إصلاح الحياة الرهبانية عبر 12 قرارًا: اتخذ البابا تواضروس عدة قرارات منذ أن تولى البابوية آخرها 12 قرارًا تخص الحياة الرهبانية، وذلك في إطار العمل على خطة لإصلاح النظام الرهباني، حيث ناقشت لجنة الرهبنة وشئون الأديرة بالمجمع المقدس بجلسة خاصة انضباط الحياة الرهبانية والديرية في ضوء حادث مقتل واستشهاد الأنبا إبيفانيوس، أسقف ورئيس دير القديس أبو مقار بوادي النطرون.

– إقامة احتفالية كبرى بمناسبة مئوية مدارس الأحد، ودعوة رموز الإصلاح والتنوير للمشاركة، ومنهم المفكر والرمز التنويري طارق حجي.

·         وفي إطار الاهتمام بقضايا الأحوال الشخصية، جاءت معالجة أمر غير مقبول بأن يتولى أسقف واحد مشاكل الأقباط في كل الدنيا عبر القارات فكان قرار قداسته بتوزيع المسئولية على عدد من الأساقفة.

·         وقع قداسة البابا بروتوكول تعاون بين الكنيسة القبطية ووزارة الهجرة، كما وقع على وثيقة توعية الشباب بمخاطر الهجرة غير الشرعية.

·         توقيع بروتوكول تعاون بين أسقفية الخدمات والمجلس الأعلى للجامعات للاشتراك في المشروع القومي لمحو الأمية.

·         توقيع بروتوكول تعاون مع مركز الأهرام للحضارة وأكاديمية العلوم اللاهوتية القبطية في إطار الاهتمام المشترك بالحضارة المصرية.

·         تستقبل الكنيسة القبطية وعلى رأسها قداسة البابا في بداية كل عام ومع كل ليلة عيد الميلاد رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، ليقدم تهنئة كل المصريين بالأعياد.

·         شارك قداسته في مؤتمر “دور الشباب في بناء مستقبل مصر” الذي تنظمه وزارة الشباب 2015.

·         شارك في مؤتمر “حكاية وطن” بحضور الرئيس السيسي عام 2023.

·         في ظل حبريته، تم الانتهاء من وضع قانون بناء الكنائس وتوفيق أوضاع عدد كبير من الكنائس ومباني الخدمات.

·         في عهده، كان الانتهاء من وضع قانون للأحوال الشخصية للأقباط ليتم اعتماده في الفترة القادمة.

·         كذلك تم تأسيس مشروع 1000 معلم كنسي بغرض تطوير التعليم الكنسي وشعاره “جدد إيماننا كالقديم”..

·         منذ أن كان قداسة البابا أسقفًا ومقررًا للجنة الطفولة بالمجمع المقدس وهو يبدي اهتمامًا بالغًا بتعليم الطفل، حيث قام قداسته بإصدار العديد من الكتيبات الخاصة بالتربية والتدريس وابتكارات الطفولة.

·         وبعد توليه الكرسي البابوي، استمر اهتمامه بالطفولة وأبدى رغبته في إنشاء أسقفية خاصة للطفولة على غرار أسقفية الشباب.

·         وقد قام قداسته عام 2015 بافتتاح أول قناة تلفزيونية للأطفال تحمل اسم (كوجي) تحت إشراف نيافة الحبر الجليل الأنبا مرقص مطران شبرا الخيمة.

·         الاهتمام بالحالة التعليمية للآباء الأساقفة والكهنة وإتاحة المزيد من فرص التعليم والحصول على الدرجات العلمية اللاهوتية والرقي والارتقاء بمكانة رجال الإكليروس لاستعادة مكانتهم كأهم رجال اللاهوت في العالم.

·         كذلك وضع نظام جديد لسمينارات المجمع المقدس..

وعليه، كان من الغريب وغير المبرر أن تقوم واحدة من الأبرشيات بتحطيم تمثال للقديس الأنبا أنطونيوس الرمز الرهباني العظيم بدلًا من تكريم مبدع العمل وهو رمز أكاديمي مبدع، فيكتب الفنان على صفحته الفيسبوكية التالي:

“للتوضيح هذا التمثال صُنع تكريمًا لشخصية دينية ووطنية عظيمة كان لها تأثير كبير جدًا على الحياة الدينية والرهبانية في مصر والعالم وقمتُ بتنفيذه بطلب وإلحاح ومباركة من رئاسة دير الأنبا أنطونيوس ومتابعة على مدار عدة سنوات تكريمًا وتمجيدًا للأنبا انطونيوس الشخصية المصرية العظيمة… وكان من المحزن والمفاجئ اتخاذ هذا القرار وبطريقة تسيء للأنبا أنطونيوس وللكنيسة القبطية التي لا تستعدي الفن ولها إرث عظيم من الفن القبطي والأيقونات والألحان وكان يمكن اتخاذ هذا القرار وعدم الشروع في عمل التمثال أو حتى فكه وتخزينه وليس هدمه بطريقة مسيئة للشخصية والكنيسة التي لا ترفض الفن بل ترعاه فنحن لا نعبد التماثيل بل نكرم شخصيات عظيمة يجب تكريمها بكل الوسائل الفنية.”

كانت تلك سطور رسالة حزينة حررها على صفحته الفيسبوكية الفنان الدكتور جرجس الجاولي صاحب تمثال القديس الأيقونة الأنبا أنطونيوس… ولا أعلم كيف يتم التعامل مع فنان أكاديمي ورئيس لقسم النحت بكلية الفنون ومع إبداعاته الرائعة على هذا النحو وبتلك القسوة والتجاهل للقيمة والإنكار لرسالة الفنان وعدم المبالاة برمزية وتاريخية رسالة الراهب الأعظم!! … والأغرب رد الفعل الهادئ والعاقل من جانب فناننا الأكاديمي الرائع. لقد تصورتُ للحظات لو كنتُ مكانه لأصابني مس من الجنون والغضب!!

لقد قام فناننا بنحت التمثال منذ عامين وقام بتركيبه بدير الأنبا أنطونيوس الأثري بالبحر الأحمر والذي يُعد أقدم أديرة العالم ومهد نشأة الرهبنة.

وأوضح الفنان أن التمثال يزن 2 طن من خامة الـ””g r p ويصل طوله 9 أمتار، والتمثال يأخذ شكل الشجرة في إشارة إلى امتداد الرهبنة عبر العصور وفي مختلف بلدان العالم.

أعتقد أن ذلك الاستهلال التعريفي من الضرورة بمكان لبيان مدى ارتباط فناننا الرائع بصاحب التمثال، ومدى إدراكه لأبعاد تلك المرحلة الهامة في تاريخ الكنيسة المصرية ورموزها العظام وأدوارهم الروحية والإنسانية والتاريخية.

ويبقى لدى مواطننا المصري المسيحي أن يسأل:

·         ما هو موقف الكنيسة المصرية والمجمع المقدس من موقف أبرشية أصدرت بيانها وقررت الدخول ببلدوزر التدمير؟

·         هل تم اعتماد نظام اللا مركزية والاستقلال بالقرار دون الرجوع لإدارة الكاتدرائية في شأن غاية في الخطورة والأثر السلبي في تبعاته؟

·         هل يمكن تصور قبول قداسة البطريرك الذي نراه يجوب الدنيا ليزور كنائسنا للتدشين والصلاة أمام أيقونات أبدعها فناني الشرق والغرب ويباركها ليصلي الناس من بعده لتذكر روحانيات أصحابها وأدوارهم العظيمة وليس لعبادتها، وإلا كنا نهين العقل الإنساني لمواطن عصر الإعجاز العلمي وإعمال العقل في أبسط استخداماته الإنسانية؟

·         لقد عادت بي الذاكرة لزمن فخاري واعتزازي بمصريتي والذاكرة وأنا أتلقى دروس تاريخ الإبداع المصري في الزيارات اليومية للمتحف المصري والمتحف القبطي والمتحف الإسلامي، أستعيد رسومهم ومنحوتاتهم في اسكتشات امتحانات الفنون … وفي زمن دولة 30 يونيو الرائعة، كان مشروع المتحف المصري الكبير وكان التجديد الشامل للمتحف الإسلامي بعد أن نالت من منتوج حضارتها يد الإرهاب الغاشم، وتجديد المتحف القبطي وإعادة صياغة العرض وبتعاون كنسيتنا في حبريتها التواضروسية الداعمة لتاريخ ومستقبل الإبداع، وعليه أرى من الغريب التعامل مع إبداع الدكتور النحات الأكاديمي جرجس على هذا النحو غير المقبول!!

·         أما الآية التي ثار الجدل على أهمية إطاعة فحواها فهي “لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْض ) “خر 20: 4 (… الأمر معني بالصور أيضًا والمعتنى بها بشكل هائل كنيستنا العديدة والتي تُعد أيقونات يسافر من أجلها لمباركتها وتدشينها في كل كنائسنا على الأرض. وهل الصور التي تقصدها حروف الآية والتي تلتقطها الأقمار الصناعية على مدار الساعة في كل المعمورة محرمة وينبغي إيقافها حتى لا يعبدها الناس من دون الله؟!

·         لكنيستنا المصرية والتي قال عن تاريخها د. طه حسين “الكنيسة المصرية” تاريخ وطني عظيم … وقد اهتم راعيها الأكبر قداسة البابا بمشروع تجديد مقرها القديم في العباسة والإعلان وفق توجيهاته عن مسابقة بين الفنانين لإبداع أيقونات جديدة تحكي أحداث روحية تاريخية تعلي من شأن القيم الروحية وتخلدها على طريقة المصري القديم على جدران بيوت العبادة، فهل نبدي الندم ونقوم بحملة لخلعها وتبييض جدران كنائسنا؟!

·          إن تطبيق حروف الآيات المقدسة والعمل بها دون إعمال العقل هو ما كان وراء قيام القديس سمعان الخراز بفقء عينه عملًا بالآية التي توصي بقلع العين التي تُعد عثرة، وهذا في الأصل مثال رمزي لحشد قوى المقاومة الإنسانية لمحاربة شياطين العصر!!

·         ألم يحن الزمن والظرف التاريخي لإعادة إحياء دور المجلس الملي وتطوير دوره والبداية من تغيير مسماه العثماني ووصولًا لاعتباره مؤسسة وجهاز لدعم دور المجمع المقدس في اتخاذ قرار ديمقراطي يحتشد لاتخاذه أعضاء من الإكليروس (رجال دين) وعلمانيون هم نخبة من أهل الرأي والفكر والمتخصصين في كافة أنواع القضايا؟

·         هل يمكن تصور قيام أهل داعش والتطرف بالدور الذي لعبته قيادة الأبرشية في هدم التماثيل ورد فعل الرأي العام على ذلك الهجوم البلدوزري؟!

·         وأوافق الصديق والمفكر صفوت سمعان في رأيه: “إذا كانت التماثيل التي نُصبت على مداخل الأديرة هي ليست من المسيحية ووجب هدمها كي لا يعبدها أحد من دون الله، فمن الواجب أولًا هدم كل المزارات الدينية التي تحتوى على أجساد مَنْ يُقال عنهم القديسون، بل حتى أصبح كل أسقف او مطران أو بابا يقام له أفخم ضريح (مقام باللغة العربية( بأفخم أنواع الرخام الإيطالي ولا مانع من وضع مقتنياته الشخصية، وحتى عمل تماثيل الباباوات المتنيحين، لأن كثيرين يذهبون للتبرك والصلاة لها. فهل تمثال على مدخل دير هو ما خالف الإيمان المسيحي؟”

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا