قيود الحرية المسيحية…!!

10

الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر

    يكتب الرسول بولس قائلًا: “فإنكم إنما دعيتم للحرية أيها الإخوة. غير أنه لا تصيروا الحرية فرصة للجسد، بل بالمحبة اخدموا بعضكم بعضًا. (غل5: 13-15).

يخطئ مَنْ يظن أن الحرية المسيحية بلا ضوابط وبلا قيود، فلا توجد على سطح الأرض حرية (مطلقة) بلا قيود وبلا سقف، والجدير بالذكر أن البعض يشبِّه الحرية المسيحية بأنها كالقضبان بالنسبة لقطار السكة الحديد، لا يتحرك القطار إلا في حدود القضبان؛ أو بأنها كالماء بالنسبة للسمك، له أن يسبح كيفما يشاء حتى ولو ضد التيار، لكن المهم لا يخرج من الماء وإلا يتعرض للموت.

إن حدود الحرية المسيحية هي بمثابة النور الذي يكشف للإنسان مواقع الخطر ليتجنبها، ومواطن الخير ليسلك فيها.

حقًا! للحرية المسيحية بعض القيود أو الحدود أو الضوابط أذكر منها الآتي:

أولًا: الحرية وقيد المسئولية

     لأن الإنسان حر فهو مدعو للتفكير العقلاني المنطقي، وهو يختار بكل حرية ما يقوده إليه تفكيره، متحملًا في ذلك مسئولية اختياره. وتبلغ حرية الإنسان مداها في قبوله أو رفضه للإيمان بالله وطاعته وعبادته، فالله يوجه الدعوة للإنسان، والإنسان من حقه أن يقبل أو يرفض، ولكن عليه أن يتحمل مسئولية قراراته التي يتخذها بحرية كاملة في تقرير مصيره فالله يعرض ولا يفرض فيقول في (تث11: 26-28): “أنا واضع أمامكم اليوم بركة ولعنة: البركة إذا سمعتم لوصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها اليوم. واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا الرب إلهكم، وزغتم عن الطريق التي أنا أوصيكم بها اليوم لتذهبوا وراء آلهة أخرى لم تعرفوها” ويقول في (تث30: 15 و19): “انظر. قد جعلتُ اليوم قدامك الحياة والخير، والموت والشر،…  قد جعلتُ قدامك الحياة والموت. البركة واللعنة. فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك.” وتصور ريشة الوحي المقدس صورة بديعة الجمال لاحترام الله لإرادة الإنسان فيما سجله يوحنا في سفر الرؤيا عندما قال: “هئنذا واقفٌ على الْباب وأقْرعُ. إنْ سمع أحدٌ صوْتي وفتح الْباب، أدْخُلُ إليْه وأتعشّى معهُ وهُو معي” (رؤ 3: 20).

إن الله أعطى الإرادة الحرة للإنسان حتى وإن استخدم الإنسان هذه الحرية في رفض الله أو الإيمان به … لكنها حرية مسئولة.

ثانيًا: الحرية وقيد التعايش مع الآخر

     الحرية تعني الإقرار بوجود آخر يختلف عني ومعي، وبأن له الحق في أن يعيش الحرية مثلي تمامًا. ولا بد أن ندرك أن الاختلاف لا يجب أن يصنع خلافًا ونزاعًا مع الآخر، وإنما الاختلاف بركة وثراء، فباقة الورود المتعددة الألوان في تناسق وتناغم أجمل بما لا يقارن من باقة الورود ذات اللون الواحد، والسيمفونية التي يقدمها مجموعة من العازفين على آلات موسيقية متنوعة أرق وأرقي بما لا يقاس من السيمفونية التي تقدمها فرقة بآلة موسيقية واحدة.

   لقد كان التلاميذ خليطًا عجيبًا من البشر، فبطرس وأندراوس طبيعتهما عكس بعضهما، ويوحنا الواثق على النقيض من توما الشكاك، ومتى العشار الذي باع نفسه للرومان يختلف عن سمعان القانوي أو الغيور المتعصب لدينه وقوميته، وهكذا. إنهم مجموعة متباينة رأى يسوع في اختلافهم غنى وثراء، لأن كل واحد منهم يستطيع أن يقدم خدمة مختلفة عن الآخر، ولكنهم في النهاية يكملون ويجملون بعضهم البعض، يعيشون الجهاد والضعف، ويخطئون ويصيبون، وهذا هو حال الكنيسة في كل زمان ومكان.

      الحرية تعني حق الاختلاف مع الآخر في فكره ورأيه، فالحرية تعطيني الحق في اعتناق ما أشاء من أفكار ومعتقدات، والحرية تعطيني الحق في التعبير عن آرائي، لكن الحرية لا تعطيني أبدًا الحق في أن أسخر أو أزدري أو أستخف أو أقلل من معتقد ومن رأي الآخر.

  كان الرب يسوع يتمتع بقلب محب كبير بلا جدران يتسع لكل إنسان مهما كان فكره أو دينه أو جنسه، فيحكي لنا البشير لوقا في (9: 51- 56) عندما رفض أهل السامرة قبول يسوع فطلب يعقوب ويوحنا أن تنزل نار من السماء فتفنيهم “عندئذ انْتهرهُما وقال لها: “لسْتُما تعْلمان منْ أيّ رُوح أنْتُما!” (لو9: 55).

   لقد كان التلميذان أشد تعصبًا من السامرين، فالمتعصب يحاول إبادة كل مَنْ يختلف معه في الفكر أو الدين، لكن الرب يسوع رفض قتل المختلفين عنهم دينيًا وفكريًا إيمانًا منه بحق أي إنسان أن يعتنق ما يشاء، واعتقادًا منه بأن حق الاختلاف هو شيء طبيعي حيثما وُجِدَ البشر. وأيضًا وضع الرب يسوع قاعدة ذهبية في المعاملات الإنسانية فقال: “فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء” (مت7: 12).

  من المؤسف والمخجل أن هناك مَنْ يؤصلون لرفض الآخر ويؤكدون على كراهيته ويظنون أنهم بهذا الأسلوب إنما يتقربون إلى الله بل ويقدمون خدمة لله وكأن الله يحب مَنْ يكره أخاه في الإنسانية.

نحتاج أن يكون لنا قلب المسيح الكبير الذي يحب الجميع ويحتمل ويتسع للكل.

إن الحرية لا تعطينا الحق في الانفراد باتخاذ القرار بل تدربنا على العمل بروح الفريق الواحد، وإعطاء الآخر الفرصة  للمشاركة في صناعة وصياغة القرار، وهذا ما يجب أن نمارسه أولًا في محيط الأسرة  وفي كل موقع نتواجد فيه.

ثالثًا: الحرية وقيد الثمن والضريبة

    إن الذي يحصل على جنسية دولة معينة له أن يتمتع بامتيازاتها مثل الأمن والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية التعليم والتأمين الصحي… الخ، ولكن عليه أن يقوم بأداء واجباته مثل أداء الخدمة العسكرية ودفع الضرائب والخضوع للسلطات والالتزام بتنفيذ القوانين. وهكذا مَنْ يريد أن يعيش الحرية المسيحية عليه أن يلتزم بدفع ضريبة الحياة المسيحية التي ينتمي إليها ويرتبط بها.

    جاء أحدهم إلى الرب يسوع وقال له: “أتبعك أينما تمضي”. فقال له: للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه” (لو9: 57، 58). ولم يكن يسوع يقصد بتعبير “ليس له أين يسند رأسه” الفقر أو الاحتياج وإنما كان يعني أنه لم يكن له أن يهدأ أو يستريح قبل إكمال رسالته، فلقد كانت أمام يسوع رؤيا عليه أن يتممها.

نعم! إن يسوع لم يهدأ ولم يسترح إلا بعد أن قال على الصليب: “قد أكمل”… أكمل الحب… أكمل الخلاص… أكمل الفداء… أكمل السعي الإلهي… أكمل القصد الأزلي، ثم نكَّس رأسه وأسلم الروح. وكلمة “نكَّس” هنا هي نفس كلمة (أسند)، أي أن يسوع لم يجد راحته إلا على الصليب بعد أن أكمل مهمته وإرساليته.

هكذا علينا أن ندرك أن حريتنا المسيحية مقترنة بصليب، فللحرية ثمن ولإيماننا المسيحي ضريبة فمكتوب: “فقال له: للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه” (لو9: 57، 58).

رابعًا: الحرية وقيد الفكر والذوق المسيحي

      يحدثنا الرسول بولس في (1 كو6: 12) قائلًا: “كل الأشياء تحل لي، لكن ليس كل الأشياء توافق. كل الأشياء تحل لي، لكن لا يتسلط عليّ شيء”، وفي (1كو10: 23) يقول: “كل الأشياء تحل لي، ولكن ليس كل الأشياء تبني.”

من هذا النص نتعلم أن الحرية المسيحية تدربنا أن تكون اختياراتنا وقراراتنا من منطلق فكر وذوق مسيحي، فالحرية المسيحية لا تدفع المسيحي لأن يخطئ لإحساسه بالحرية بل يكون ذلك الشخص الذي قد صار بنعمة الله حرًا لكي لا يخطئ.

ولعل هذا هو المعنى الذي قصده الرسول بولس عندما قال: “لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى” (كو3: 16).

هذه هي الحرية من حرفية الناموس لأن الناموس يصير داخلنا وليس خارجنا، والطاعة هنا التزام وليست أوامر خارجية، لأنها حرية مجد أولاد الله. هذا هو الفكر المسيحي الذي يجب أن يملك على أفكارنا ويحرك سلوكنا.

هذه هي الحرية التي تتوقف على تقديرنا للأمور بذوق مسيحي فتأتي قراراتنا متناغمة ومتناسقة مع مشيئة الآب.

نعم! ما أحوجنا أن تكون صلاتنا “ذوقًا صالحًا علمني” (مز 119: 66).

      عندما شفى المسيح صاحب اليد اليابسة يوم السبت وتذمر الفريسيون قال لهم: “أي إنسان منكم يكون له خروف واحد، فإن سقط هذا في السبت في حفرة، أفما يمسكه ويقيمه؟ فالإنسان كم هو أفضل من الخروف! إذًا يحل فعل الخير في السبوت!” (مت12: 11، 12).

فما أراد المسيح أن يثبته هو أن الإنسان أهم من الشريعة لأن الإنسان هو هدف الشريعة.

    لقد وضعت الشريعة في العهد القديم من أجل الإنسان ثم جعل الإنسان منها هدفًا ومن الإنسان وسيلة، وبذلك ضاعت القيم الحقيقية.

  لقد قال الرب يسوع في (مر2: 27): “السبت إنما جُعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت.”

نستكمل العدد القادم.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا