رؤيــــــة الدم

2

عـادل عطيـة

   من الوسائل التي تستخدمها بعض الأمهات عند فطام أطفالهن، وضع مادة حمراء کالميكروكروم على موضع الرضاعة، فإذا رآها الرضيع خشي من الاقتراب من ثدي أمه!

    وكنتُ أتعجب من أن رضيعًا قد لا يتعدى السنتين من عمره يهاب اللون الأحمر!

    ولكنه عندما يكبر يحاصره لون الدم من خلال الكتابات التي سنّها بعض من طواغيت التاريخ، ومن خلال أولئك الذين امتلأت قلوبهم وعقولهم بالحقد المتعجرف على منابر الكراهية وادعاء الحقيقة المطلقة والسعي إلى تثوير النفوس التي تموج بمشاعر التعصب المقيت بصيحات الجهاد الأعمى، حتى يبدأ الدم يهدر كالشلال، ويُغرِق إنسانيتنا وتلاقينا!

    أما أخطر الكل فهو لون الدم نفسه الذي يأتي إلينا عبر السينما وعبر الفضائيات من خلال الأفلام والمسلسلات والحوادث النازفة، لأنه يضع الدم بشكل شبه يومي أمام أعيننا، فنتعوّد على لونه وعلى غزارته، مثلما تعوّد الطبيب عليه وعلى صرخات الألم، حتى نظن وهو يعمل بإبرته الطبية في جروح المصاب القطعية، دون استخدام المخدر، أنه إنسان بلا قلب!

   أنه التعوّد الذي يفقدنا قدسيته ومهابته وقيمته، لدرجة أننا نفقد التمييز بين الواقع والتمثيل. وهنا أتذكر الطفل الذي رأى والده مغدورًا غارقًا في دمائه، ولكنه راح يداعب والده وكأن والده يعرض له مشهدًا تمثيليًا دراميًا!

   وهكذا كما نسير على ضوء المرور الأحمر نسير على دماء الأبرياء المسفوكة، وكأننا لا نخالف قيمنا وتعاليمنا الدينية والأخلاقية المتسامية. فهل نستفيق من غيبوبة التعوّد على رؤية الدم، التي تقضي على إنسانيتنا وعلى مشاعرنا الطيبة؟!

   فكما أنه ليس كل ما نعرفه نصرح به، كذلك أيضًا ليس كل ما يحدث يُعرض كاملاً على المشاهدين، فالحياة بإنسانية أسمى من الفن، وأثمن من السبق الصحفي!

   وهكذا تنسحب مشاهد الدم من شرايين مشاعر هؤلاء الذين لديهم الاستعداد للإصابة بمرض هوس سفك الدماء، والتمتع الوحشي بمعاناة وآلام الآخرين، وتعود للدم مهابته وقدسيته وقيمته والرغبة الصادقة في الحفاظ عليه، لأنه الحياة تجري في الشرايين!

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا