جَنَّةُ المُلْكِ: الحلقة (15)

36

د. أماني ألبرت

(شبنة هو ابن عم الطفلة التي ماتت أمها أثناء ولادتها وسبقها أباها، اتفق شبنة مع عمته رفقة أن تسمى الطفلة اليتيمة هداسا… كانت العمة “رفقة” هي الأم الروحية لكل أبناء عشيرتهم.. أضاع “أبيحائل” والد الطفلة، قبل مماته ثروته مع تجار غرباء ولم يحتمل الخيانة فمرض..

وبسبب علاقة شبنة (مردخاي) بهذه الطفلة الصغيرة التي غزت محبتها قلبه، أعاد اكتشاف نفسه. فقد وجد أنه ما زال قادرًا على العطاء والحب والاهتمام.. واختبر مشاعر من نوع جديد أضفت الحيوية والانتعاش على حياته. تطورت العلاقة بين شبنة والطفلة الصغيرة وأصبح يخاف عليها من أي شيء.. (يمكنك قراءة الحلقات السابقة على موقع الجريدة..)

اقتربت هداسا وداود مسرعين نحو القصر… ورغم أن الاتفاق كان أن يبقيا في الخارج إلا أنها دخلت دون تردد وتركت “داود” متسمرًا في مكانه… لقد كانت مذهولة مما رأت… فقد انبهرت من جمال الحديقة… حيث تم تضفير الفروع الأشجار العالية، لتتشابك مع بعضها البعض على هيئة أقواس مقبقبة، وعلى الجانبين أشجار عطرية لها رائحة حلوة.

وزينت ساحة القصر ستائر بيضاء وخضراء وزرقاء، عُلقت بحبال كتانية ملونة في حلقات فضية مستديرة وأعمدة من الرخام الأحمر والأخضر والأصفر والأبيض والأزرق.

كانت الأرائك مصنوعة من الأقمشة الرقيقة، لها إطارات لامعة وتقف على أقدام فضية، والقضبان المرافقة لها من الذهب… والأرضية مرصوفة بجزع من بَهت ومرمر ودر ورخام أسود، ومحاطة بالأحجار الكريمة التي تضيء بريقها المشهد… والضيوف جالسون على الأرائك تقدم لهم المشروبات في أكواب من الذهب.

“داود” أيضًا ذُهل مما رأى… مناظر لم يعتدها… رجال ونساء متمددون على الأرائك بشكل غير لائق… يشربون ويلهون… والأقداح التي تقدم فيها الخمور من ذهب، وآنية الموائد مختلفة الأشكال، أما الخمور فكانت وفيرة.

لقد أدرك أنه لو ترك نفسه لهذا المكان لن يخرج منه سليمًا.

– “هداسا”، هذا المكان غريب علينا ونحن غرباء عليه… هذا ليس مكاننا أبدًا… هيا بنا.

– انتظر قليلًا… لقد أتينا للتو.

حاول “دواد” معها كثيرًا… وهي تتجول هائمة مذهولة مما تراه… انبهرت بنقوش حوائط القصر ونوعية الأواني والأقداح وترتيب الموائد والأنسجة المميزة ونظام الحديقة، أما داود فقد أربكه ما رأى على الأرائك أو بالأدق ما يفعله الجالسون عليها.

بدا أن هداسا لن تتحرك من المكان… فتجرأ “داود” وأمسك بيدها ليشدها للخارج… فصرخت في وجهه وهي تسحب يدها:

– ماذا تفعل؟

– أحاول أن أخرجك من هذا الجحيم… ألا تدركين أن كل الموجودات هنا راقصات؟

– كيف تجرؤ على الإمساك بيدي؟

صرخ “داود” كالمجنون:

– هل تلوميني لأني أشدك لحمايتك… ولا تلومين نفسك للبقاء وسط هذه الأجواء؟!

– حسنًا، سأتركك وأذهب إلى وليمة النساء.

– لن يحدث هذا.. لو دخلتي هناك قد لا تخرجين أبدًا.

وبينما كانا يتحدثان، ظهر “آساف” أمامهما. كان التوتر باديًا على وجه “داود” وزاد ارتباكًا عندما رآه.

ملس داود بيده على شعره الناعم وسأله:

– ماذا تفعل هنا يا “آساف”؟

أجاب “آساف” بثبات واستغراب:

– مرحبًا “هداسا”… أفعل مثلك… أرى الجزء الآخر من العالم الذي أعيش فيه.

وبلهجة حادة قال:

– لكن ماذا تفعلان أنتما؟ كيف تجرأتِ وخرجتِ بدون إذن أبيك؟ ومع مَنْ؟ “داود”؟!

استعد “داود” للرد على “آساف” ولكن “هداسا” تدخلت فهي ليست مستعدة لفض هذه النزاعات الصبيانية المتكررة بينهما.

– مَنْ يصعد معي الدرج؟ بالتأكيد المنظر أفضل من فوق.

استغل “آساف” الموقف لصالحه قائلًا:

– هيا بنا.

استشاط “داود” غضبًا فقد تبخرت كل أحلامه.

– مهلًا.. لم يكن من المفترض أن نبقى أو ندخل حتى… “هداسا”، يكفي هذا.

تحركت “هداسا” و”آساف” غير عابئين بكلام داود وصعدا السلالم الرخامية بسرعة… فاضطر “داود” أن يلحق بهما.

اختارت “هداسا” مكانًا مميزًا لمراقبة المشهد ككل… فمن ناحية شاهدوا الحديقة بكل ما فيها… ومن ناحية أخرى استندوا على السور فتمكنوا من رؤية قاعة الملك في الأسفل.

أول شيء فعلوه هو البحث عن “مردخاي”، ولكن وسط هذا الجمع الغفير كان من الصعب الوصول إليه… فكثيرون يرتدون اللون الأبيض، كما أن العمامات متشابهة من أعلى.

وبينما كانت “هداسا” تحفر المشهد في ذاكرتها وتحفظ كل ركن ونقش مميز، ارتفع صوت هتاف العامة في القاعة الملكية بأصوات مختلطة:

– الملكة “وشتي”… الملكة “وشتي”.

وساد هرج ومرج ليس بقليل اختلط مع صوت الموسيقى والراقصات، فلم يتبينوا ما كان يقال بالتدقيق.

ظل الوضع على ما هو عليه فترة ليست بقليلة… وبعد فترة لمح “آساف” فرقة من الحرس الملكي قادمة نحو القاعة… شعروا كلهم بالقلق… فقد آن الأوان للتحرك… وبدا لهم أن مداخل ومخارج القصر سيتم إغلاقها.

أسرعوا متوجهين نحو الباب الرئيسي الذي دخلا منه وغمز “آساف” كل من “هداسا” و”داود” ليضحكوا بصوت عال مثل هؤلاء الجالسين على الأرائك… أخفوا قلقهم… وبسرعة انسلوا من الباب دون أن يكلمهم أحد ورجعوا مسرعين في طريقهم للبيت.

*********

جلس “مردخاي” بجوار “إنليل” وزملاء قلم الكتبة فكانوا يتسامرون ويشربون ويغنون مع الراقصات.

كان الملك جالسًا على عرشه وعلى رأسه تاج من ذهب مرصع بلآلئ لها بريق مذهل وعلى عنقه قلائد من أحجار كريمة، وكان يلبس في أصابعه خواتم ذات أحجار كريمة متنوعة الألوان، وحوله المقربون إليه، كرشنا وشيثار وأدماثا وترشيش ومرس ومرسنا ومموكان سبعة رؤساء فارس ومادي، ورؤساء الجيوش وممثلون عن جماعات الشعوب المقيمة في شوشن وعدد من الرؤساء والمرازبة.

موقع الجالسين حول الموائد المستطيلة ومدى قربهم من عرش الملك حددته مراسيم القصر الملكية، فجلس الأعلى مكانه بالقرب من الملك وهكذا، فيما انتشر في القاعة حرس القصر وخصيان الملك وعبيده الواقفون بين يديه.

حمل كل عمود مشاعل نار ضخمة لإنارة المكان وكان السقف مكشوفًا، بينما غطى السجاد غالي الثمن الأرضيات.

وبحسب أوامر الملك، قدموا الطعام والشراب بوفرة بكل أنواعه وأشكاله… ظلت الموائد عامرة طوال الوقت… وكانت وصية الملك لخدامه أن يعملوا حسب رضا كل واحد… فلا حدود لمقدار الشراب المقدم بل أعطوا كل واحد حسبما أراد… فكل رجل يجب أن يشعر وكأنه ملك في هذه الوليمة.

خلبت الخمر والموسيقى والرقص قلب كل من في القاعة باستثناء “مردخاي” الذي جلس يتأمل حالهم بتقزز واستياء… كان يشعر بعدم ارتياح، ولكنه اضطر أن يتواجد وسطهم حتى لا يلومه أحد على عدم الذهاب… فقبل أي شيء انتمائه الأول يجب أن يكون للملك، ولكنه ندم في أعماقه على تواجده في مجلس المستهزئين.

علت أصوات الهتاف والتصفيق للراقصات بعد أن أنهوا استعراضهم، وهتف أحد الجالسين في القاعة:

– نساء بابل هن الأجمل.

فرد آخر بصوت هزلي وهو يضحك:

– بل نساء فارس.

– بل اليونان.

– بل مادي.

– بل بلاد العرب.

ثم امتزجت الأصوات فيما بينها… كل ينادي بنساء من بلد مختلفة… وعلت أصوات الهتافات الممزوجة بالضحك، إلى أن قال أحدهم:

– أي النساء أجمل؟ فليقل الملك.

زاد الضجيج في القاعة.

– فليقل الملك… فليقل الملك.

كان الملك سكرانًا… نظر إلى مستشاريه وهو يرفع كأسه بترنح وسألهم:

– أي النساء الأجمل؟ هه هه هه.

رد “مموكان” أحدث مستشاريه بحرص:

– الكل يريد أن يعرف ذوق الملك في النساء… فليتحدث الملك لشعبه ولكن دون أن ينسى أن هناك ملكة للبلاد.

كرر الملك كلمات “مموكان” بصوت متقطع وهو تحت تأثير الخمر:

– هناك ملكة.. للبلاد.. وشتي.. وشتي (هي ابنة بيلشاصر وحفيدة نبوخذ نصر، ويقال إنه عند اقتحام داريوس لبابل وجلوسه على عرش بيلشاصر، كانت طفلة وركضت مباشرةً لتجلس في حضنه فأشفق عليها ورعاها ثم أعطاها لابنه أحشويروش زوجة).

فالتقط الجمع الكلمة وبدأوا يصرخون:

– الملكة وشتي… الملكة وشتي… نريد الملكة وشتي… نريد أن نرى جمال الملكة وشتي.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا