إرهابيون وسيكوباتيون ومتوحشون

19

د. مراد وهبة

وإذا حذفت لفظ “إرهابيون” من عنوان هذا المقال يصبح المقال عنوانًا لكتاب صدر عام 2017 لعالِم إنجليزي اسمه كرستوفر بريدي، كان مؤسسًا ومديرًا لمعهد البحوث الجنائية. والعنوان الرئيسي لكتابه “التحدث مع سيكوباتيين ومتوحشين” أما العنوان الفرعي فهو “رحلة في عقل شرير”. وإذا حذفت لفظ “متوحشون” مع لفظ “إرهابيون” يبقى لفظ “سيكوباتيون” موضوعًا لكتاب صدر في عام 2014 تحت عنوان رئيسي “عقول قاتلة” لعالم أمريكي متخصص في البيولوجيا العصبية اسمه دين هايكوك، أما العنوان الفرعي فهو “استكشاف المخ السيكوباتي الإجرامي”. وقبل هذين الكتابين صدر في مصر في عام 1946 كتاب عنوانه “مشكلة السلوك السيكوباتي” لطبيب اسمه الدكتور صبري جرجس، كان رئيسًا للعيادة العصبية النفسية بوزارة المعارف العمومية.

والسؤال بعد ذلك:

ما العلاقة بين السيكوباتي والإرهابي والمتوحش؟

السيكوباتي مريض عقليًا ومن ثم لا يجدي معه العلاج النفسي، لأن هذا العلاج يشترط أن يكون المريض على وعي بمرضه وهذا شرط غير متوافر لدى السيكوباتي، إذ إن سماته الشخصية هي على النحو الآتي: لا يعرف من آنات الزمان الثلاثة سوى الحاضر، أما الماضي أو المستقبل فليس موضع وعي. ومن هنا فهو يقتل بدم بارد وبوجه سعيد، وبالتالي يكون في إمكانه تكرار القتل إذا كان ذلك في الإمكان. ومعنى ذلك أن السيكوباتي لا ينضج من التجربة ولا يرتدع من العقاب ولا يعرف الندم ولا يحس العار ولا يختبر الإحساس بالخطيئة؛ بما يجعل شعاره في معاملته للآخر “أن يأخذ كل ما يستطيع من أي إنسان يستطيع وبأي وسيلة يستطيع”. هذا عن السيكوباتي فماذا عن المتوحش؟

المتوحش ليس سيكوباتيًا لأنه ليس مريضًا عقليًا، لأنه يقر بوجوده في إطار من العلاقات الاجتماعية، ولكنه يقف عندها لأنه لا يفهم معناها. ومن هنا يكون من الميسور له أن يسرق ويقتل بلا أدنى أسف.

وفي هذا السياق، يمكن القول إن المتوحش غير متحضر، ومن ثم فهو يقع بين الإنسان والحيوان. يبقى بعد ذلك الإرهابي على نحو ما نراه في هذا الزمان الذي يتميز بهيمنة الأصوليات الدينية التي تتوهم أنها مالكة للحقيقة المطلقة. ومع تعددها تتعدد المطلقات، والمطلقات ترفض التعددية لأن المطلق واحد بحكم تعريفه، بل بحكم طبيعته. ومن هنا فإن تعددها يُدخلها في صراع بدايته التكفير ونهايته القتل. الإرهابي إذن قاتل بالضرورة. وهو في قتله للآخرين من أصحاب المطلق الآخر محكوم بآنات الزمان الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. فلديه موروث يستعين به لتبرير التكفير والقتل ولديه حاضر لا يمثل إلا مسرحًا معدًا لعملية القتل، أما المستقبل فحضور في الجنة أوالنار. هو يختار الجنة لنفسه ويختار النار للآخرين. وهو في هذا التوزيع يقوم مقام الله؛ فكأنه هو الله أو بالأدق هو المطلق، وهذه نتيجة حتمية لتأليه الإرهابي. مثال ذلك الحوار الذي دار بين عبد السلام فرج صاحب كتاب “الفريضة الغائبة” والمنظَر لتنظيم الجهاد فى مصر، وبين الرقيب حسين عباس الذي أصاب السادات في مقتل في أثناء العرض العسكري في 6 أكتوبر 1981. قال عبد السلام فرج لحسين عباس: مبروك يا حسين أنت هتدخل الجنة. قال له حسين: إزاي؟ قال فرج: هتقتل السادات.

قال حسين: موافق

وعندما ذهب المحامي أحمد مجاهد الذي كان نائب حزب العمل الاشتراكي إلى حسين عباس وهو في قفص الاتهام، ليطلب منه الموافقة على دفاعه عنه، رفض لأنه يريد الإعدام بدلًا من المؤبد لكي يذهب سريعًا إلى الجنة.

والسؤال بعد ذلك:

ما هو مفهوم الله عند الإرهابي؟

في بداية الجواب يمكن القول إن هذا المفهوم مغاير لمفهوم الله عند غير الإرهابي. المفهوم الأول يعني التطابق التام بين الله والإرهابي بمعنى أنه عندما يقول الإرهابي إنه ذاهب إلى الجنة فإنه على وعي بأن الله موافق على هذا الذهاب. ومعنى ذلك أنك لن تفهم الله إلا من خلال عقل الإرهابي. ومن هنا لن يكون من حق أحد أن يكفر الإرهابي لأنه مؤمن بإله معين وعليك بعد ذلك تحرير الإرهابي من هذا النوع من الإيمان. وفي هذا السياق، يمكن القول إن تجديد الخطاب الديني أو إن شئت فقل إن الثورة الدينية المنشودة تكمن في تناول مفهوم الله. وهنا يجدر التنويه بما قام به الأسقف الإنجليكاني جون روبنسون من تغيير في مفهوم الله في كتابه المعنون “لنكن أمناء لله” والذي أصدره في 19 مارس 1963. ومنذ ذلك اليوم حتى نهاية مارس صدرت تسع طبعات. ثم توالت الطبعات في السنوات التالية حتى وصلت إلى سبع عشرة طبعة في عام 1976، ثم تُرجم إلى إحدى عشرة لغة. وقبل صدور الكتاب بأسبوع أوجز الأسقف روبنسون كتابه في جريدة ا الأوبزرفر تحت عنوان “صورتنا عن الله يجب أن تزول”. فالله ليس “هناك” ولا هو “فوق” إنما هو موجود في “العمق”، بمعنى أنه أساس الموجودات. وإثر صدوره حدث جدل حاد حوله. وعندما طُلب منه الرد على منتقديه قال: إن أهم سمة تميز هذا العالم الذي نعيش فيه هو أنه عالم علماني. والمغزى أن ثمة علاقة، عنده، بين مفهوم معين عن الله والعلمانية.

وتأسيسًا على ذلك كله، يمكن القول إن الإرهابي ليس سيكوباتيًا وليس متوحشًا، إنما هو إنسان لديه مفهوم عن الله يُلزمه بتكفير الآخر وقتله إذا واصل العناد. ومعنى ذلك أن الإرهابي له دين ولكنه مغاير، أما القول بأنه بلا دين فهو قول زائف وزيفه يؤدي إلى وعي زائف يمتنع معه مواجهة الإرهابيين.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا