دروس من ثورة إيران وفتح الملفات القديمة

1

العدد 46 يوليو 2009
دروس من ثورة إيران وفتح الملفات القديمة

الدكتور صموئيل حبيب صاحب أفضال كثيرة في سجل خدمتي في مصر ومواقفه المشرفة ولمساته الرائعة لا تنسى

     أتابع عن قرب ما يحدث في إيران في هذه الأيام، تلك الثورة التي قادها الشعب ليعبر عن استيائه ورفضه للتسلط والعنجهية الحكومية والمرجعية التشريعية في البلاد، وحتى قيام هذه الثورة لم يكن العالم وخاصة الأمريكان يعرفون أن هناك الأحرار الإيرانيين الذين يرفضون الحكم الثيوقراطي ومن امتلأ كأسهم من الممارسات الدينية الخاطئة حتى طفح في صورة العنف الذي تعيشه إيران في هذه الأيام.

     وحيث أنني أسعى جاهداً أن أتعلم بعض الدروس مما يحدث حولي سواء علي المستوى الفردي أو الجماعي أو الدولي فقد أجبرتني هذه الثورة علي فتح ملفات قديمة قد أغلقت لسنين عديدة، ملفات كنسية، ملفات أمنية، ملفات دينية واجتماعية وغيرها. مما كنت قد ظننت أنني نسيتها، لكن ما إن رأيت الإيرانيين يثورون علي أوضاعهم حتى وجدتني أنبش هذه الملفات مرة أخرى.

     إن أول الدروس التي استخلصتها هي أن “دوام الحال من المحال”، حتى ولو مضي من السنين أجيال، فموقف الأحرار من النساء والرجال، وإن تأخر في السباق أميال، لابد من الظهور لا محال، يظهر في صورة سلمية أو غير سلمية وكم للظهور من أشكال، يظن الحكام أنهم يحكمون مجموعة من الضعفاء من العيال، يتحكمون في مصائرهم وتطلعاتهم وأحلامهم والآمال، يصدقون هتافات العامة ويتحكمون في خروجهم ودخولهم والأموال، من الطبيب إلي المدرس والمهندس حتى إلي الشيال، يحملونهم أحمالاً عسرة ولا يدفعون بإصبعهم الأثقال، يدعون أنهم بلد الجميع الفلاحين والموظفين والعمال، بالفم يحكمون ويغنون لهم من كل أغنية موال، يشبع الخلق من الوعود لكنهم لا يرون أعمال، يكتشف المساكين أنهم في سجن قد أغلقت حجراته وأبوابه بالأقفال، وهم بداخله مقيدون من كل ناحية بالأغلال. يصارعون في كل يوم وحوش أسود أثقل من الأفيال، أفواههم تمتلئ بالحصى وتمضغ أسنانهم الرمال. تحتبس الأنفاس في صدورهم وتتبدد بداخلهم الآمال، يواصل المتغطرس أعماله ويصفق له من حوله من الأذيال، فجأة تتغير الأوقات والأزمنة وتتبدل الأحوال، ويخرج الوحش الكامن في الأحرار ويبدأ المارد في القتال، يبيد الظالم والعاتي فربك يزن الأمور بالمثقال، فلا يعرفه موضعه بعد ويصبح بعد الحقيقة خيال، فهو السميع العليم المجيب من قال أن كلمته لا تنسخ ووعوده لا تمسخ حتى وإن زالت الجبال وأنه مع عبيده كل حين حتى لو جابهوا في مسيرة الحق أهوال.

     أما ثاني الدروس فهو أن العالم وحدة متكاملة وقد مضي عهد اللاعب الواحد في أية مباراة أو دولة أو سياسة عامة أو خاصة. فكما هو الحال في كل لعبة جماعية إن لم يفهم كل دوره ضاع الفريق كله، ومع ذلك فمن الرؤساء والحكومات والطوائف الدينية والاجتماعية من يزال يؤمن بالحركة الفردية والسيطرة الأبدية والحيل الخفية ويدفن رأسه في الرمال، لقد لعب الرئيس الإيراني وحده كثيراً وتحدى حتى الأمريكان ومازال، وظن أنه مالك إلي الأبد علي بلاده دون منازع أو منافس، تماماً كما فعل صدام حسين وغيره من الملوك والحكام. وللأسف، إن ما يقال في هذه الحالة يقال حتى علي الكنيسة في هذه الأيام، فكل طائفة دينية مسيحية ترى أنها الحق والصواب، وكل مذهب داخل الطائفة الواحدة ممكن أيضاً أن يصاب بنفس الداء، لقد فتحت هذه الفكرة البسيطة كثيراً من الملفات المغلقة في حياتي، فلقد كان راعي كنيستي في شبرا رجلاً من أروع رجال الله القديسين الذين عرفهم التاريخ المسيحي الإنجيلي المصري هذا باعتراف الجميع حتى من كانوا يختلفون معه في العقيدة، كان رجلاً مقتدراً في الأقوال والأعمال واعظاً ومتكلماً عميقاً، وكنا نخطط أنا ومجموعة من القادة والقسوس للمذاهب المختلفة لعمل مؤتمر موحد للقادة، وكما كان الحال في القديم كانت معظم المؤتمرات واللقاءات يدعى فيها حفنة لا تزيد علي أصابع اليدين للوعظ والتعليم، كنا نطلق علي كل منهم كلمة “أنكل” وهذه كلمة إنجليزية تترجم العم أو الخال، لكن في كنائسنا الإنجيلية كانت تدل علي رفعة مستوى قائلها وكانت تستخدم كبديل لكلمة الأخ فلان، تلك الكلمة، كلمة أخ، التي كان يستدل منها علي أن قائلها ليس من الطائفة أو المذهب الإنجيلي الذي كان شبابه يستخدم كلمة أنكل.

     وحيث أن المؤتمر كان مؤتمراً للقادة من كل المذاهب الإنجيلية، سألني أحد القسوس الإنجيليين الشباب وقتها وكان عضواً في لجنة الإعداد للمؤتمر وقال: ناجي هل يوجد عندكم في مذاهبكم (بصيغة الجمع) قسيس أو قائد يمكن أن يعظ في مثل هذا المؤتمر، وقع عليّ السؤال كالصاعقة، سألته أمام الحاضرين هل حقيقي ترى أن كل طوائفنا أو كل مذاهبنا لا يوجد بها متكلم واحد يمكن أن يعظ في مثل هذا المؤتمر، قال جنابه ببجاحة نعم هذا عين ما أقصد، فهل يوجد عندكم من يقرأ كتاباً، فخريجو كلية اللاهوت كلهم من مذهبنا، القراء والدارسون كلهم من مذهبنا، الوعاظ وأمراء المنبر كلهم من مذهبنا، أخذت أذكر له أسماء قيمة ومحترمة في كل مذهب، ولولا محبة المسيح لكنت قد علمته درساً ما نسيه طوال حياته.

     استغرقت في تفكير عميق خاصة عند تذكري لهذه الجزئية بالذات جزئية اللاعب الواحد، تذكرت ملفاً لأحد المشاهير وهو “أنكل” أيضاً وكان بحكم عمله قريباً من المسئولين عن رئاسة الطائفة كان هذا الرجل يبدو وكأنه متفرغ لإثارة المشاكل والقلاقل لاتحاد الشباب المسيحي، الهيئة التي شرفني الله بتأسيسها منذ 1980، كنت يومها مازلت شاباً متحمساً، ظننت أن مجموعة الأنكلز والقادة سيقفون بجوار هذه الجماعة التي بدأت نشاطها في فترة عصيبة في مصر كان السادات قد زج فيها بالقادة والرعاة والكهنة في السجن، ويمتلأ الملف بما لا أريد أن أتذكره من شرور عملها هذا الأخ الذي أحبه حتى الآن من كل قلبي.

    استمرت معاناتي مع هذا الرجل لمدة عشرة أعوام حاول فيها مراراً الإيقاع بيني وبين الدكتور القس صموئيل حبيب رئيس الطائفة الإنجيلية الأسبق، ثم بيني وبين القسوس في كل المذاهب، وامتدت محاولاته للإيقاع بيني وبين مباحث أمن الدولة، وبعد عشرة سنين عجاف، قررت أنا وزوجتي أن نزوره في بيته عملاً بالقول الكتابي إن أخطأ إليك أخوك اذهب وعاتبه، رحب هذا الأنكل بنا، قلت له يا سيدي الفاضل عندما يسألني أحدهم ما هي أكبر مشكلة تواجهك في خدمتك في مصر، وبالطبع يتخيل السائل أن إجابتي ستكون أمن الدولة، أقول لهم “حضرتك. أنت يا أخ “……” (فأنا لم أكن أستخدم كلمة أنكل). رد صديقي وقال: “سامحك الله، ما الذي عملته لك حتى تجيب سائليك هكذا؟” قلت ليتسع صدرك لي واسمعني بلطف، أنت تريد أن تعرف ما الذي آذيتني به سأسرد لك بعضه، وأخذت أسرد له بالتفاصيل الدقيقة العديد من المواقف التي كانت حتى واحدة منها فقط كافية لتقضي علي وعلي اتحاد الشباب المسيحي في أول سني عمله في مصر”

     لم ينكر هذا الأنكل شيئاً مما قلته له، سألته هل يمكن أن تقول لي سبباً واحداً دفعك للقيام بكل هذه الأمور ضد شاب يريد أن يخدم الله في مصر، سرح صديقي بفكره لمدة دقيقة دون إجابة، ثم سألني: “هل تريد أن تعرف الحقيقة؟” قلت نعم ولهذا أتيت لأسألك، قال الأنكل: “لأن اسمك ناجي يوسف وأنت لست من أعضاء الكنيسة الإنجيلية (وكان يقصد المذهب المشيخي) ومع ذلك فأنت أنشأت جماعة اسمها “اتحاد الشباب الإنجيلي”. نظرت إليه طويلاً، لم أصدق أذني وكادت الأرض أن تدور بي وساد صمت رهيب، بعدها قلت له: هل تظن حضرتك أن هذا سبب كاف؟ قال نعم، أنت طلبت أن تعرف الحقيقة وهذه هي الحقيقة، قلت أشكرك علي صراحتك لكن اسم جماعتي هي ليست “اتحاد الشباب الإنجيلي” نظر إلي وقال: “ماذا تقول؟ هل أنت تكذب؟” قلت لا صدقني، اسأل رئاسة الطائفة سيقولون لك أن مجموعتي اسمها “اتحاد الشباب المسيحي” وليس الإنجيلي وعليه فأنت اضطهدتني أنا وجماعتي بلا سبب لكل هذه السنين.

     إن ما ذكرني بهذا الملف هو أن البعض لازال يفكر بنفس هذه العقلية إلي يومنا هذا، فالقسيس الذي تختلف معه في العقيدة يحرم علي أتباعه أن يسمعوك، وإن دعاك قادة اجتماع فرعي لتتكلم في كنيسته قام بطردك شر طردة وأنت تجيب علي أسئلة الحاضرين، وإن كتبت في جريدة أو كتاب ما لا يروق له أصدر فرماناً وحرم علي أعضائه أن يشتروا الكتاب أو الجريدة، وسعى بكل إمكانياته لتعطيلك والوشاية بك وبجريدتك والعمل الدءوب علي عرقلة مسيرها. فأضاع وقته ومجهوده فيما لا ينفعه أو ينفع مسيحيته في هذه الأيام.

     لقد عجبت لموقف الحزب الجمهوري الذي يحاول أن يدفع أوباما رئيس الولايات المتحدة للوقوف ضد الرئيس الإيراني والانضمام إلي معارضيه وكأن أمريكا هي صاحبة السلطان المطلق للتصرف في الشعوب وخاصة في الشرق الأوسط، ومع أن أمريكا لابد أن تراعي مصالحها الشخصية في العالم كله، ولابد أن يكون لها كغيرها رأيها في كل الموضوعات العالمية، لكن أمريكا لا تمتلك السلطان في أن تتحكم في غيرها من الشعوب فقط لكون حكوماتها لا تمارس الديمقراطية مع مواطنيها أو لأي سبب آخر ما دامت هذه الشعوب لا تؤثر علي الدولة الأمريكية ومصالحها في الأرض. وعلي نفس المنوال إن بعض المذاهب والطوائف في مصر مازالت تصر علي استخدام هذه العقلية الأمريكية في محاولة التدخل فيما لا يعنيها ظانة أنها حامية حمى الديانة المسيحية في مصر وأن ما عداها فهم الأجانب، المغرضون، وربما متخلفون علي السير في ركب الحضارة الدينية المسيحية المصرية، لكن ليعلموا أن الأحرار في كل مكان وإن طال الزمان سيرفضون هذا التحكم المبني علي الكبرياء والعنصرية المذهبية حتى ولو كانت مسيحية.

     دعني أقولها: إن كتم الأنفاس سيولد الانفجار، فالهواء المكتوم والكلمات المحبوسة داخل صدور الرجال ستنطلق يوماً ما كالقنابل ولن تبقى أمامها متغطرساً مرتفعاً جباراً حتى لو كان بين الإخوة في المذهب الواحد أو الطائفة الواحدة، أو البلد الواحدة أو الحكومة الواحدة، والله أسأل أن يقينا جميعاً شر هذا الانفجار.

     والحقيقة لا يمكنني أن أنتقل من التفكير في هذه النقطة بالذات دون أن أعترف بفضل رجال وضعهم المولى في مسؤوليات جسام وقد بذلوا الجهد والوقت والعرق وبعضهم لا يزال، حتى يشجعوا الصغار ويدافعوا عن المظلوم ويصححوا ما مال من الأوضاع إن استطاعوا لذلك سبيلاً. فبغض النظر عن كل السلبيات الموجودة في ملف الحياة الكنسية بمصر إلا أن ضوءاً ساطعاً يملؤه ويستحوذ اليوم علي تفكيري ضوء سطع من رئيس الطائفة الإنجيلية السابق الدكتور القس صموئيل حبيب الذي انضم إلي سحابة الشهود لكنه كان صاحب أفضال كثيرة في سجل خدمتي في مصر، فعندما قابلته لأول مرة، والكل يعرف أن لقاءه لم يكن من السهل اليسير بسبب مشغولياته الجسام، استمع لفكرة إنشاء اتحاد الشباب المسيحي، ومع أنني لم أكن منظماً ومرتباً في أفكاري وخططي في تكوين هذه الجماعة التي لم تسبقها جماعة أخرى للعمل بين الشباب المسيحي علي اختلاف طوائفه، ومع أن الوقت كما ذكرت كان عصيباً لتكوين مثل هذه الجماعة، ومع أن طلبي كان كبيراً بأن نكون جماعة مسيحية تابعة لرئاسة الطائفة الإنجيلية وأن يكون هو نفسه مسئولاً مباشراً عنا كجماعة وأن يدعى اسمه علينا حماية لنا من رجال السياسة والأمن، وبالرغم من عدم معرفته المسبقة لي إلا أنه في شجاعته المعهودة وافق في الحال علي كل اقتراحاتي وعقد أول اجتماع لاتحاد الشباب المسيحي تحت رعايته وكان هو المتكلم الرئيسي ومن يومها توالت مواقفه المشرفة ولمساته الرائعة في تشكيل هذه الجماعة. فكم من مرة تصدى لمحاولات مساعديه ومراكز القوي التي كانت في مكتبه والمحيطة به لإفساد العلاقة بيننا، وكم من مرة كان سبباً في إنقاذي من مطاردات أمنية واعتقالات بوليسية ترتبت لي في الخفاء، وعندما اختير أول مجلس لإدارة رابطة الإنجيليين في مصر في عهده وكان من المقرر لها أن تكون ضمن رابطة الإنجيليين العالمية تم انتخاب 8 أعضاء لها كلهم من مذهب واحد بالطبع، أما أنا فقد تم تعييني العضو التاسع بواسطة العملاق صموئيل حبيب، وكم من مرة استدعاني إلي مكتبه ليسألني كيف يمكن الاتصال بشباب المذاهب الأخرى غير المشيخية، في إحدى المرات أشرت عليه أن نعمل لقاء لقادة شباب الكنائس غير المشيخية معه في مكتبه، رحب بالفكرة، قلت له يا حضرة القسيس أنا خايف من هؤلاء القادة لأن بعضهم لديه صورة سلبية عنك وخاصة بعد صدور كتاب ابنك الدكتور رفيق الذي أثار ضجة في الأوساط الدينية والكنسية، ثم بعضهم قد سمع عن تبرعك الكريم لبيت من بيوت الله في المنيا بثلاثة آلاف جنيه، ثم مسألة إهدائك غرفة عمليات كاملة لمستشفى المنيا العام مع أننا كمسيحيين نحتاجها ثم.. ثم.. ثم..

     ضحك جنابه وقال لا تخف، فللأسباب التي ذكرتها أريدك أن تجمع لي قادة الشباب الإنجيلي غير المشيخي لتوضيح هذه الأمور كلها في أذهانكم، وعقد اللقاء، وحمي الحديث والنقاش، وتناثرت الاتهامات والانفعالات لكننا في النهاية نزلنا مصلين لذلك الرجل الذي كان يعرف كيف يحتوي الآخر، يسمع له، يدافع عنه ويقف بجانبه ويعضده حتى لو لم يكن من مذهبه، وحتى إن اختلف معه في أصغر الأمور أو أكبرها. ليت الذين تسلموا الراية من بعده من تلاميذه ومساعديه يسيرون علي دربه ومنهجه في تواضع وحق تقدير للذات وحجمها وأن يشغلوا أنفسهم بما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم.

     والحمد لله الذي لم يترك مكان صموئيل حبيب خالياً بل اختار الدكتور القس صفوت البياضي من يستطيع أن يقف في الثغر عن الكنيسة الإنجيلية في مصر، من يتسع صدره ووقته لاحتواء الآخر والمختلف عنه في العقيدة أو المذهب أو حتى الديانة، ومع أن لي الكثير الذي يمكن أن أكتبه عن الأخير لكن لئلا يساء فهمي أحتفظ به للوقت المناسب.

     درس آخر لابد من استيعابه من إيران هو أن القمع البوليسي وأسلوب السجن والضرب، وخلع الأظافر وسلخ الجلد من اللحم والتعليق في الفلكة وهتك العرض واستخدام الكهرباء وإهانة الأخت أو الأم أمام السجين قد تصلح في تعذيب المساجين وإخافة المواطنين وتفريق المتظاهرين واختفاء الثوار والأحرار إلي حين، لكنها لا تصلح في كل الحالات والأوقات والمناسبات، فإذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر، وإذا نهض المارد الجبار القابع داخل الأحرار فلن تقف في وجهه القنابل المسيلة للدموع، ولا الرصاصات حديدية كانت أم مطاطية، فعندها تصبح الحياة الحرة الشريفة أغلى وأثمن من كل شيء فلا يحسب الأبطال للموت حساباً.

     درس رابع نستخلصه من ثورة إيران أن حكم الشريعة، حتى لو كانت شريعة السماء، مادامت تطبق بواسطة من هم علي الأرض، ومادام عدو النفوس الوسواس الخناس مازال يوسوس في صدور الناس فلابد من فشل الحكم بها ناهيك عما يمكن أن يكون بهذه الشريعة أو بتفسيرها من “ثغرات لا تصلح معها للتطبيق في القرن الواحد والعشرين”.

    درس خامس هو أن عدم قبول الآخر وإعطائه الفرصة الكاملة للتعبير عن نفسه وتجريده من حقوقه بل قل أبسط حقوقه من اختيار دينه الذي يعتنقه ونوع الشريعة التي يلزم نفسه بالخضوع إليها وإعطائه حق الصلاة في أي مكان وبأي شكل حتى لو كان في بيته سيحول الآخر إلي وحش كاسر يستبدل لغة الحوار التي هي أحسن إلي لغة التظاهر والرشق بالحجارة وتكسير المحال والمنشآت الخاصة والعامة حتى يحصل علي حقوقه بأية وسيلة.

    ومع أن الدروس المستخلصة من ثورة إيران أكثر من احتوائها في مقال إلا أن آخرها هو أن محو هوية أمة أو شعب أو جماعة أو مدينة أو قرية بطمس اسمها كما حدث في قرية القديس أبو حنس، أو معالمها كما كانت المحاولة مع مدينة سوهاج أو لغتها وتاريخها كما يحدث مع الأقباط اليوم في مصر والكلدان والآشوريين في العراق، والمسيحيين في جنوب السودان، والمسيحيين في لبنان وغيرها من البلاد والنجوع والوديان، محو الهوية والمعالم والتاريخ والأسماء أمر قد ينجح لبعض الوقت وتحت تهديد السلاح والسجن، لكنه لن يدوم. فالدولة غير الإسلامية الأصل لابد أن تعود لطبيعتها يوماً ما وإن طال الزمان مادام لأولادها دم حار يجري في عروقهم وأنفاس تتردد في صدورهم، والدولة غير المسيحية الأصل لابد أن تنتهي حتى ولو أعلن إمبراطورها أن دولته في يوم وليلة أصبحت مسيحية وحتى لو ادعى رؤية حلم وعلامة الصليب وقيل له في حلمه بهذا تنتصر فجرد حروباً أطلق عليها فيما بعد الحروب الصليبية، فهذا كله من عمل الشيطان وحده لأنه الوحيد الذي يهمه أن يحول علامة الصليب التي هي علامة الحب والبذل والتضحية والفداء والقوة علي الشيطان وأعوانه، إلي علامة حرب ودمار وخراب وإخضاع وإذلال وقهر وظلم واستعمار.

     اللهم هبنا أن نتعلم مما نرى فينا أو حولنا، ولا تسلمنا لمطامعنا وأهوائنا، اللهم اعف عنا وارحمنا من تصلفنا وعنادنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وسيئاتنا، اللهم افتح عيوننا ودربنا أن نتعلم من حسناتنا وأخطائنا إنك وحدك القادر علي الأخذ بأيدينا وإنقاذنا.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا