يا طفل المذود.. عفواً.. وعهداً

1

العدد 52 الصادر في يناير 2010
يا طفل المذود.. عفواً.. وعهداً

    يا طفل المذود في ذكرى ميلادك المجيد وبعد ألفي عام آتي إليك معتذراً عن خطايا وتعامل بني جنس البشر مع جلالك منذ مولدك وحتى الآن، فتفكيرنا يقف عاجزاً عن إدراك عظيم حبك وتضحيتك ونعمتك ورحمتك التي ذخرتها لنا نحن البشر الساقطين، وجحودنا وجمودنا وردود أفعالنا نحن الضالين تجاهك يا أكرم المرسلين ليندى لها الجبين.

    لقد جئت بخطة نجاة وخلاص وإكرام للمجرمين، جئت بخطة لمصر، وللكنيسة ولشعبك، وللعالم أجمع. لقد حبى المولى سبحانه وتعالى مصر من مكان ومكانة في الكتاب المقدس بعهديه لا يقترب منها سوى إسرائيل شعبه حسب الجسد، فلقد خلق المولى تبارك اسمه الجنة في موقعها الأول، وحبى مصر بأرض خصبة جميلة حتى قيل فيها كجنة الرب كأرض مصر، وكأنه سبحانه قد خلق جنتين إحدهما مصر، وكما لم يحفظ آدم وحواء الجنة الأولى وقد وكلهما عليها فخسراها، هكذا خسرنا نحن المصريين جنتنا في مصر، فما أبعد ما يكون وصف الجنة عن مصر فلقد دمر المصريون جمال مصر بازدحامهم، ومبانيهم وإهمالهم وإفسادهم في الأرض، ولم تعد أرض مصر كما كانت في خصوبتها ولم تعد الأرض تعطي قوتها، فجنة الرب، أرض مصر، تفتقر إلي أبسط المنتجات الزراعية ناهيك عن الصناعات والتكنولوجيا وغيرها. فإن كان الناس يعلمون أنه يوجد إما جنة أو نار فمصر أقرب للثانية من الأولى، فالأسعار نار، والأعصاب تحترق بالنار، والمباني مهما كانت أهميتها في مصر فلا تسلم من حريق النار، والفتن الطائفية والدينية تملأ أجواءها بالنار والاعتداءات على الكنائس تكون بفتح النار عليها أو إشعالها بالنار والصحافة والإذاعة والتليفزيون والفضائيات كلها تلقي بالنار على الكل والعالم يحترق والبقاء للأبرد.

    لقد كانت خطتك يا طفل المذود لمصر أن تكون بلد الأمن والأمان. فعندما حاول أعداء الحياة قتلك وأنت طفل صغير لم يختر لك المولى تبارك اسمه ولأمك العذراء التي اصطفاها وفضلها علي نساء العالمين سوى مصر لتلجأوا إليها، فأتيتم إليها فوجدتم كل الأمان، أما اليوم فيا طفل المذود عفواً يا سيدي، فأنت غير مقبول ولا مرحب بك في مصر بل أنت غير معروف عند جُل المصريين، فأولئك الذين آمنوا بك ويحملونك داخلهم ملفوظون مطرودون مذلون، تهاجم كنائسهم وبيوتهم وأشغالهم ويُسطى على محلاتهم ويجبر الضعفاء فيهم علي إنكارك والتجديف عليك، وتذاع في كل مكان التلاوات البينات التي تنفي كل ما علمته إيانا بل وتجردك من المسيح الحقيقي الذي هو أنت على مر العصور والأيام. فما أبعد الأمن والأمان عن هذا البلد فلقد أضحى رمزاً للرعب والخوف وعدم الاستقرار، فلم يعرف العالم كله تعبيرات كثيرة “كالجماعات الدينية المتطرفة” أو “الإرهابيين والإرهاب” أو “الكفرة والقردة والخنازير” إلا من مصر بلد الأمن والأمان، فأول الاعتداءات والمعارك الدينية حتى في الوطن العربي المعروف بتطرفه وهيجانه نبتت وبدأت من مصر وصُدرت إلي أقطار الأرض كلها، فالعقول المخططة للإرهاب الديني في العالم كله هي عقول مصرية وأكثر من نصف منفذي العمليات العسكرية الدينية هم من مصر وحدها والنصف الآخر من بقية العالم أجمع.

    لقد كانت خطتك لمصر يا طفل المذود أن تكون هي بلد الضيافة والشبع وحسن الجوار. فلقد أرسلت نبيك يوسف إلى مصر ليدبر حالها ويخزن خيراتها ويشبع العالم الجائع للقمة الخبز بواسطتها يومئذ، ونزل شعبك المختار أولاً بنزول خليلك إبراهيم وسارة زوجته، ثم بنزول أبي الأسباط يعقوب مع العبرانيين، ثم نزلت أنت يا أكرم الأكرمين، وكانت مصر لك وللجميع بلد الضيافة والشبع وحسن الجوار. لكن يا طفل المذود عفواً فالمصريون غرباء في بلادهم نزلاء في بيوتهم رعايا في بلادهم جوعى على موائدهم ليزداد فيها أطفال الشوارع وبنات الليل والغالبية العظمى تحت خط الفقر.

    باركت شعبها يا طفل المذود وقلت “مبارك شعبي مصر” فدعوت مصر شعبك وباركتهم ضمن ثلاثة من شعوب الأرض يوم قلت “مبارك شعبي مصر وعمل يدي أشور وميراثي إسرائيل” لكن يا طفل المذود عفواً لم تفهم مصر أن بركتها هي من خلال اتحادها بأشور وإسرائيل، وقالت عن نفسها أنها خير أمة أخرجت للناس فتعالت على أشور ورفضت إسرائيل وتمنت لو بإمكانها أن تلقي إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل في مياه البحر، فجلبت على نفسها اللعنة دون البركة، والحيرة والقلق دون السلام والأمان والاطمئنان، وضيق ذات اليد بعد أن كانت واحدة من أغنى ممالك العالم وأكثرها رقياً وحضارة، ولازالت في عنادها وكبريائها وغرورها وتشامخها ترفض طريق البركة وتسرع في طريق الغي واللعنة.

    يا طفل المذود عفواً فلقد كانت خطتك كما أعلن كتابك العزيز الحكيم “أن يعرف المصريون الرب ويُعرف الرب في أرض مصر، قلت: “وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته” لكن المصريين عرفوا السحرة والمنجمين والمجوس وآلهة كثيرة وأنبياء وخلفاء لكن لم يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك بل أشركوا بك وقالوا عن أتباعك أنهم لمن المشركين.

    يا طفل المذود عفواً– لقد جئت لكنيستك معلناً عن نفسك أنك ملك بل أنت ملك الملوك ورب الأرض فملّكت غيرك عليها ولم تعد أنت الملك الوحيد على شعبك وكنيستك، فلقد سادنا سادة سوء وملك علينا ملك قاس فضاعت بهجة خلاصنا وتبدد ثمر الروح من حياتنا فما أقل المحبة والفرح والسلام وطول الأناة والوداعة والصبر والإيمان والصلاح والتعفف، وما أكثر ما هو عكسها في حياتنا.

    لقد جئت لكنيستك معلناً عن نفسك أنك رئيس الكهنة الأعظم فصار لنا كهنة ورؤساء للكهنة ونظار للكهنة وكهنة للكهنة ولم تعد أنت رئيسنا الوحيد، ولم تعد أنت العقل المدبر والمهيمن علي كنيستك ولم تعد أنت الرأس الذي يسمع ويرى ويتكلم لجسدك على الأرض، الكنيسة، بل أصبح لنا رؤوس كثيرة متضاربة في سمعها وكلامها ورؤيتها، فضللنا. وبعد أن اخترتنا لنفسك ملنا كل واحد إلى طريقه.

    لقد أعلنت عن نفسك أنك النبي الآتي إلى العالم وليس من قبلك أو بعدك أنبياء أُخر “لأنه ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص” فأنت الذي “أعطيت اسماً فوق كل اسم فوق كل رياسة وسلطان وكل اسم يسمى في هذا الدهر والدهور الآتية لكي تجثوا باسمك أيها المسيح كل ركبة مما في السماء وما علي الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أنك أنت يا يسوع رب لمجد الله الآب” لكن يا طفل المذود عفواً فقد زاحمك أنبياء كثيرون ولم يكتفوا أن يضعوا أنفسهم في صفك وبجانبك بل أزاحوك بعيداً وتوجوا أنفسهم كأشرف المرسلين وختام النبيين مع أنهم لم يأتوا بنبوة واحدة أو معجزة واحدة أو تعاليم تسمو على تعاليمك أيها المعلم الصالح، لم يشفوا مريضاً واحداً وأنت كنت تجول تصنع خيراً وتشفي جميع المتسلط عليهم إبليس. جاءهم الأعمى فانصرف يتخبط في عماه فتولى كما جاء. جئت بالتسامح والعفو والغفران لمرتكبي الذنوب وجاءوا بالجلد والرجم والسيف وقطع الأرجل والأيدي، جئت بالسلام فتغنت الأرض والسماء بمجيئك فعلى الأرض السلام وبالناس المسرة، وجاءوا بالغزوات والحروب والسيوف والغنائم. أمرت بمحبة الأعداء ومباركة اللاعنين والإحسان إلي المسيئين إلينا ومضطهدينا وأمروا بإرهاب الأعداء وإخضاع الأمناء وإراقة الدماء وإذلال الأبرياء من أهل البلاد التي سطوا عليها واضطهدوا البنات والأبناء، فيا طفل المذود عفواً.

    يا طفل المذود عفواً، أعطيت كنيستك السلطان أن تدوس الحيات والعقارب وكل قوات العدو، وعدتهم أن من يمسهم يُمَس في حدقة عينه، أكدت لهم أنك تبني كنيستك وأبواب الجحيم لن تقوى عليها لكن كنيستك غسلت رجليها وخلعت ثيابها وخدعت نفسها بأن صدقت أنها نائمة وقلبها مستيقظ، ولم ترد أن تقم لتفتح لك لئلا توسخ رجليها، وفي كسل رفضت أن تلبس ثيابها وسلطانها فباتت تُداس بالأقدام من الحرس الطائف في المدينة، وحفظة الأسوار رفعوا ثيابها عنها، ولم تعد لها مكانة بين الناس، لم تعد مؤثرة لكنها معثرة، ولم تعد مُرهبة لكنها مذنبة وخائفة، فدخلت في الشقوق والمغاير فباتت تخشى من زائر الفجر والليل، وباتت تدفع الإتاوة والرشاوى لكل من يكشر لها عن أنيابه وباتت تساوم على الحق الإلهي، ففسد الملح ولم يعد يصلح لشيء إلا لأن يطرح خارجاً وأن يداس بالأقدام، وأنت الجبار من تتراءى في أتون النار صرت لها كالغريب الذي يميل ليبيت وكجبار لا يستطيع أن يخلص مع أنه من حضرتك تتزلزل الجبال، تذوب أمامك كالشمع يا سيد كل الأرض فيا طفل المذود عفواً.

   يا طفل المذود عفواً فقد صليت أن “نكون واحداً..” فأنت إلهنا الواحد، وخلاصنا واحد، ومعموديتنا واحدة، وجسدنا واحد،و مصيرنا واحد، وعدونا واحد، ورجاؤنا واحد، وانتظارنا واحد وهو أنت يا من ستأتي سريعاً، لكننا لسنا واحداً، بل انقسمنا إلى ملل ونحل وطوائف ومذاهب ومجامع وكنائس وفرائض وطقوس فتفتتنا ولم نعد نخيف إلا أنفسنا. نتكلم لأنفسنا، نختلف مع أنفسنا، نحب أنفسنا ونكره أنفسنا وصرنا كل شيء سوى أن نكون الواحد الذي طلبته من الآب السماوي لكي يعلم العالم أنه أرسلك. لذا فلا عجب فالعالم لا يعرفك ولا يعرف إرساليتك ولا يعرف من أرسلك، فيا طفل المذود عفواً.

   يا طفل المذود عفواً فقد وُلدت في ظلال الصليب، وصُلبت لأجل البشر جميعاً وهزمت الوسواس الخناس وجنوده في الصليب، أشهرتهم جهاراً ظافراً بهم، وضعت نفسك وأطعت حتى الموت موت الصليب، دفنت في باطن الأرض ثلاثة أيام ثم قمت منتصراً فبدلاً من أن يخر البشر عند قدميك مسبحين شاكرين لحسن صنيعك اختلفوا فيك فمنهم من ولد في حظيرة المسيحية ويعترفون أنك صلبت لأجلهم ويعلقون الصلبان على كنائسهم وبيوتهم وفي رقابهم ولكنهم لا يعرفونك كالمخلص الوحيد للبشرية، ومنهم من شعبك حسب الجسد من ظنك مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً ولم يدركوا أنك مضروب لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليك وبحبرك شفينا، ومنهم من يؤمنون أنه “ما صلبوه وما قتلوه ولكن شبه لهم” ومع أنهم لم يتفقوا على كيف شبه لهم، أو على من هو الذى اعتلى الصليب بدلاً منك حسب إيمانهم، ومن هو الذي ألقى المولى بشبهك عليه لكي يموت مكانك، إلا أنهم ينكرون صلبك، ويزدرون بمن يؤمنون بصليبك يا سيدي مع أنه هو “قوة الله للخلاص لكل من يؤمن” فيا طفل المذود عفواً.

    يا طفل المذود عفواً لأنك كنت خير مثل لابن إنسان عاش على الأرض وديعاً متواضعاً، قدوساً طاهراً، حنوناً متسامحاً، تركت لنا أروع مثال فأنت لم تنتقم لنفسك يوماً من عدو ولم تأمر بقتل من اختلف معك، لم تعبس ولم تحول وجهك عن سائل جاء ليطلب عونك ورحمتك، ما رددت مسكيناً سعى إليك، ما قلت شيئاً وتراجعت عنه، لم تنقض عهدك ولم تغير ما خرج من شفتيك ولم ترجع عن كلامك، ومع كل هذا نحن لم نقدرك قدر حقك، ورفع العالم غيرك من المصلحين والقادة إلى مقام أسمى منك، فيا طفل المذود عفواً!

    أخيراً أقول لجلالك، يا طفل المذود عهداً، أقطعه على نفسي ويقطعه معي كل من أحبك وأسلم وجهه إليك وظفر بغفرانك وحياتك الأبدية، لن نسكت أو نخرس عن أن ننادي بجلالك أنك المخلص الوحيد للبشرية، وأن من لم يؤمن بك وبصليبك لن يرى الحياة الأبدية بل يمكث عليه غضب الله وأنك أنت وحدك الشفيع والوسيط بين الله والناس من ستقُبل شفاعتك وحدك يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون، وأن من آمن بك فلن يرى الموت إلى الأبد. عهداً لك يا سيدي أنني لن أُساوم علي حقك في الأرض فأنت الحق الوحيد في هذه الحياة، بل أنت هو الطريق والحق والحياة، عهداً لك يا سيدي أننا لن نخاف فإن كان الله معنا فمن علينا فلا يستطيع أحد أن يوقع بنا ليؤذينا فلن يكون لأحد سلطان علينا إن لم يكن قد أعطي من فوق، فلن نسكت ولن ندعك تسكت حتى يخرج حقك مثل الظهيرة فيعرف المصريون الرب ويعرف الرب في أرض مصر وتجثو كل ركبة ويعترف كل لسان “أراد أو لم يرد، آمن أو لم يؤمن، قبل أو رفض” أنك أنت يا طفل المذود رب الأرباب الجالس علي كرة الأرض والمتسلط في مملكة الناس.

   يا طفل المذود في ذكرى ميلادك اقبل اعتذارنا، واضمن تعهداتنا وأبرئ أرضنا وارحم مصرنا وطهر ذنوبنا واهد قادتنا ورؤساءنا وأنر بوجهك علينا وعلى أولادنا.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا