نقض لا نقد

38

العدد 152 الصادر في مايو 2018
نقض لا نقد

   لعله من الواضح لكل ذي عينين أنه لا يكاد ينتهي أسبوع واحد في هذه الأيام الشريرة التي نعيش فيها إلا وترى وتسمع عن أزمة أو فتوى أو ندوة جديدة من مرنمين مشهورين أو مشيرين متخصصين أو مدرسين معروفين أو مغمورين بكليات اللاهوت أو قسوس عاملين بكنائس الإنجيليين.

   وبالرغم من أن بعض هذه الأمور ليست بجديدة على المسيحية والمسيحيين، حيث رأيناها تتكرر على مر العصور والأزمان منذ بداية الكنيسة الأولى على الأرض، و قد سبق الكتاب المقدس وحذرنا منها كلها، وذكر صراحة أنها كانت قائمة منذ أيام بولس الرسول الذي أوصى تلميذه المخلص تيموثاوس كما جاء في القول: “أما أنت فاثبت على ما تعلمت وأيقنت، عارفًا ممن تعلمت. وأنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة، القادرة أن تحكمك للخلاص، بالإيمان الذي في المسيح يسوع. كل الكتاب هو موحى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر، لكي يكون إنسان الله كاملا، متأهبا لكل عمل صالح. (وأوصاه قائلاً): أنا أناشدك إذًا أمام الله والرب يسوع المسيح، العتيد أن يدين الأحياء والأموات، عند ظهوره وملكوته: اكرز بالكلمة. اعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب. وبخ، انتهر، عظ بكل أناة وتعليم.لأنه سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح، بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين مستحكة مسامعهم، فيصرفون مسامعهم عن الحق، وينحرفون إلى الخرافات. وأما أنت فاصح في كل شيء. احتمل المشقات. اعمل عمل المبشر. تمم خدمتك.”

   بالرغم من كل هذا، فلا يذكر التاريخ منذ قيام حركة الإصلاح الإنجيلي إلى اليوم، على حد علمي، أن هذه الأمور وقضايا الاختلاف بين المسيحيين قد تجمعت دفعة واحدة وظهرت كلها معًا وتصارع واختلف حولها المسيحيون في مصر، كما يحدث اليوم، هذه التعاليم من عدم حرفية وحي الكتاب المقدس، كله أو أجزاء منه، والادعاء بأن آدم وحواء شخصيات اعتبارية وليست حقيقية، والخليقة الإنسانية لا تعود لستة آلاف سنة فقط، وأن الجنة لم تكن مكانًا حرفيًا، بل مجازيًا، والتشكيك في الميلاد العذراوي للسيد المسيح، وفي من هو التلميذ الذي كان يسوع يحبه، أهو يوحنا الرائي أم مريم المجدلية، وفي ما إذا كان هناك صوفية في المسيحية، أو كان هناك لاهوت محبة حر، ومن خلط التبن مع الحنطة الترانيم والتسبيح للمسيح مع المدائح لغير المسيح، وإقامة حفلات رمضانية في بعض الكنائس يحييها نجوم الفن الغنائي المسلم والصوفي ويعقب الحفل طعام السحور، وإطعام المسلمين الصائمين في فطور وسحور رمضان، وإعطائهم مكان للصلاة فوق منابر كنائسنا، والظهور في برامج تليفزيونية يكون ضيوفها مرنمان للمسيح ومادحان للرسول، أو مجموعة من الشمامسة والمرتلين في فريق مسيحي أرثوذكسي أو إنجيلي مع مجموعة من المداحين الذين يعلو صوتهم على دقات الطبول “الله أكبر الله أكبر” مع صوت الألحان والترانيم، ومن إنكار وجود الشياطين وإبليس وجنوده، وإنكار وجود نار أبدية حرفية وعذاب الأشرار إلى أبد الآبدين، وخزعبلات خروج الماء والدم من جسد القديس شربل بعد موته، ودعوة السيدة العذراء للظهور فوق كل كنيسة إنجيلية، وإيمان بعض الإنجيليين بالاستحالة للخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه، ومفارقة الروح القدس للمسيح وانفصال طبيعتاه عن بعضهما لفترة وجوده في القبر، وظهور بر آخر غير بر المسيح يمكن أن يدخل على حسابه الإنسان إلى نعيم المسيح الأبدي كل هذه وغيرها الكثير لم يذكر التاريخ أنها قد تجمعت مرة واحدة وفي زمن قصير مثل ما يحدث اليوم في الكنيسة الإنجيلية المشيخية باستثناء هرطقة الصوفية في المسيحية ولاهوت المحبة الحر.

   والحقيقة أنه لا يزعجني أبدًا، لكنه يحزنني كثيرًا، كل هذا وظهوره دفعة واحدة في هذه الأيام للأسباب الآتية:

   ١- إن هناك جالسًا على العرش متسلط في مملكة الناس يراقب ويرى ويسمع وله الأمر والنهي والكلمة الأولى والأخيرة وهو كلي القدرة والحكمة والمعرفة. فلو أراد ربك لأسكت أصوات المنادين بمثل هذه الخزعبلات ولو شاء لقطع ألسنتهم وبدد مشوراتهم وشتت شملهم وضحد آرائهم وتعاليمهم وأسلمهم إلى ذهن مرفوض، فهو على كل شيء قدير، لكنه يسمح أن ينمو الزوان ويتركه وسط الحنطة إلى يوم هو فيه مزمع أن يدين الأحياء والأموات، فله في ذلك حكم واللهم لا اعتراض على ما يريد.

   ٢- إن هذه الأمور ليست جديدة كما قلت، بل كلها تقريبًا قُتلت بحثًا منذ أن رقد الآباء، لكن يعيد الخاسرون ذكرها، مسوقين من روح الغي الخاسر الأعظم، يعيدون إظهارها والتباهي بالبحوث حولها وتلقينها لأتباعهم والملتفين حولهم وكأنهم أول من تناول هذه الموضوعات بالبحث والدراسة والفتاوي.

   ٣- هذه الأمور الحادثة لم نفاجأ بها أيضًا ككنيسة لأنه قد سبق كتابنا المقدس، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنبأنا بها، وحذرنا منها، وعلمنا كيف نواجهها ونتعامل معها ومع المؤمنين بها والمروجين لها بين العامة والخاصة.

   ٤- والأمر لا يزعجني كثيرًا لأن كل المروجين لهذه الأفكار مجتمعين على اختلاف مذاهبهم وأعمارهم وأعمالهم وخدماتهم ومكاناتهم ليس لهم سوى تأثير ضئيل جدًا على العدد الكبير من المسيحيين المتحدثين بالعربية. قد يبدو هذا غير صحيح لمن يظن أن عالم المسيحيين الناطقين بالعربية هو فقط عالمه الذي يحيط به، سواء في كنيسته أو طائفته أو حتى بلده، لكن الحقيقة هي أن عالم المسيحيين الناطقين بالعربية يشمل الملايين والملايين الذين يعيشون بمصر والبلاد العربية والذين منهم أيضًا في أقطار المهجر وهؤلاء مجتمعين عددهم كبير جدًا جدًا، بحيث لا مرنم أو قسيس أو كاهن واحد يمكن أن تعرفه نسبة ضئيلة جدًا من كل هؤلاء، وحتى الآلاف التي يمكن أن تعرف أحدهم تنقسم في ردود أفعالها تجاه ما يقولون وما يعلمون ويعملون إلى فرق كثيرة، فرقة واحدة لا تعرف القراءة والكتابة وهم ٤٥٪ من تعداد الشعب المصري، الذين لا يعرفون ما معنى اللاهوت أو الناسوت ولا الصوفية ولا الطائفية، المهم بالنسبة لهم هو ما يقوله قسيسنا أو أبونا أو سيدنا، فما يقوله هؤلاء لابد أن يعمل وينفذ بحذافيره ولا اعتراض عليه، فلا تناقش ولا تجادل، والسلام ختام. وفرقة ثانية من اللا مبالين الذين لا يهمها كل ما يحدث بالكنيسة في شيء، وهي لا تتحمس أو تفكر في أي شيء حتى لو كانت مصيبة يمكن أن تحوق بالكنيسة، وفرقة ثالثة من الملحدين الذين لا يهمهم الله أو المسيح أو المسيحية أو الكنيسة والعبادة في شيء، بالرغم من أن ديانتهم المدونة في بطاقاتهم الشخصية مسيحيين، وفريق رابع من الذين أصابتهم حالة الفشل والقرف والغثيان من الكنيسة ورجالها والمترددين عليها وفريق خامس من الذين تعثروا في طريق رحلتهم مع الله من كهنة وقسوس وقادة لا يعيشون ما يعلمون ولا يشفقون على الرعية وفريق سادس تمردوا على الكنيسة ورجالها على اختلاف طوائفهم وعلى سلطان الحل والربط والمنح والمنع والحرمان والاعتراف والمناولة ولم يعد لديهم الاستعداد أن يسمعوا أي شيء من أي أحد في أي وقت في الكنيسة، مهما كان الأمر جدًا وخطيرًا، وغيرهم من الفرق والجماعات المختلفة الكثير، فإذا جمعت كل هؤلاء التابعين لكل الفرق السابقة لا يتبقى لك سوى بضع آلاف من المسيحيين العرب الذين لا تأثير لهم لا في العالم المادي الذي نعيش فيه ولا في عالم الروح الذي يتحكم من خلال جنوده في العالم المادي الحاضر الشرير.

   ٥- ولست أنزعج لأنني أعلم أن مجيء المسيح قد قارب على الأبواب وهذه هي الأزمنة الصعبة التي كتب عنها رسول الأمم بولس في كتاب الله المقدس، ووصفها بأكثر تفصيل وتدقيق مما لا يدع مجالاً للشك ولخص بولس رسول الأمم الأمر بالقول: “لأنه سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح”.

   وعليه، ولكل ما سبق ذكره، نرى أن المؤمنين بالمسيح وكتابه المقدس ،في مثل هذه الأيام، وبالعلاقة بكل ما تقدم، ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما، قسم أول يعرف بالبقية التقية وقسم ثان يعرف بالمُسْتَحَكَّة مسامعهم، أما البقية التقية فهي الجماعة التي وضعت في قلبها أن لا تتنجس بأطايب الشرير ولا بخمر مشروبه وبالتالي لا تتنجس بهذه الأفكار والخزعبلات والمشورات والدراسات بل تفحص الكتب لترى هل هذه الأمور هكذا وتثبت على ما تعلمت عارفة ممن تعلمت. أما جماعة المستحكة مسامعهم فهم الذين يدغدغون مشاعر الناس من القادة والقسوس والمرنمين وأساتذة اللاهوت فيقولون لهم كلمونا بالناعمات وقولوا لنا ما يثيرنا ويزيد من لذاتنا وإحساسنا بالإثارة  وما يبهرنا من قصص وصلوات وتفسيرات وتحليلات للمكتوب على هوانا كسامعين. فيا لكمية الإثارة التي يثار بها العامة عندما يصلي قس إنجيلي طالبًا من العذراء مريم الظهور فوق كل كنيسة إنجيلية! ويا لكمية الإثارة عندما يقول إن جسد القديس شربل ظل ينضح ماء ودمًا لسنين طويلة بعد موته وأن القديسين مازالوا يظهرون للناس! ويا لكمية الإثارة واللذة التى يستمتع بها السامعون عندما يسمعون أن القديسة العذراء مريم قد أرسلت راهب إلى أحدهم ليشفيه من حصوة بالكلي وقد نزلت الحصوة وشفي المريض، وبالطبع لابد أن تكون الإثارة بصورة روحية مسيحية حتى نقبلها ولا يلومنا الناس من حولنا بسبب حصولنا عليها. والعجيب أن الكتاب سبق وأنبأ بأن هؤلاء المعلمين المستحكة مسامعهم سيتجاوبون مع أولئك السَّمِيعة المستحكة مسامعهم وسيكلمونهم بالناعمات وكما ذكر الكتاب المقدس “فيصرفون مسامعهم عن الحق، وينحرفون إلى الخرافات”. أليس هذا هو عين ما هو حادث اليوم في الكنيسة الإنجيلية المصرية؟

   ولعل السؤال الجوهري الذي يتطابق مع الاقتباس السابق هو: ترى ما الفائدة والمنفعة التى ستعود على الكنيسة والمسيحيين أو حتى المنادين بالصوفية أو الليبرالية المسيحية وعدم حرفية الوحي وعصمة جزء منه وعدم عصمة الآخر، أو على المنادين بانفصال الطبيعتين أو الاستحالة أو لاهوت المحبة الحر أو ناسوت العداوة المر، أو رمزية السماء والنار والخلق وآدم وحواء وغيرها مما سبق ذكره؟ هل الهدف والمنفعة مادية من جهات ومصادر معلومة أو مجهولة الهوية؟ أم الهدف يكمن في تشويش أذهان العامة حتى يسهل التأثير عليهم، فيصبحون محمولين بكل ريح تعليم وتسهل السيطرة عليهم؟ أم الهدف هو إرضاء غرور وكبرياء المنادين بها وتغذية شعورهم بلذة القيادة والتسلط على خلق الله وأعضاء كنيسة المسيح؟ أم في شد الأنظار إليهم وتراكم المعجبين حولهم؟ أم هي خدعة شيطانية أقنعتهم أنهم معلمون وقادة للشعب المسيحي المصرى والعربي وبالتالي لبسوا عباءة أكبر من حجمهم فباتوا ينطقون بما لا يعلمون ويفسرون ما يجهلون ويقررون ما لم ينظروا ولا عرفوا؟ أم إن الإجابة هي كل ما تقدم؟.

   وهنا أخاطب العامة من الشعب المسيحي أنه لابد من الانتباه لخطة الشيطان القديمة الجديدة لتشويه كلمة الله ومحاولة إرباك أتباعها أو إشغالهم بالاختلاف حول أمور لاهوتية  قُتلت بحثًا، وتفريق وخلق العداوة بين الخدام والأصدقاء والأحباء، وضياع الوقت والجهد والمال الذي كال لابد أن يصرف في الكرازة بالإنجيل للخليقة كلها لنربح على كل حال قوم للمسيح رب الحياة.

   ولعل النتيجة الطبيعية والتحصيل الحاصل لما يحدث اليوم في الكنيسة المصرية على اختلاف طوائفها وخاصة الإنجيلية منها هو:

   ١- إن مثل هذه الأفكار تبلبل أذهان الناس البسطاء وخاصة الشباب منهم في معرفة ما هو موحى به من الله وما هو من عند غير الله، وخاصة إذا أذيعت هذه الأفكار والمناقشات على قنوات فضائية لا تعبأ بالمشاهدين ولا بروحياتهم، ويتحكم بها مافيا الفضائيات المسيحية، أولئك الذين يستمدون قوتهم لا من الروح القدس روح القوة والمحبة والنصح ”العقل السليم“، بل بما لديهم من مال وشهرة ومستمعين ومغيبين، الذين نهايتهم الهلاك الأبدي عند مجيء الرب المسيح من السماء واستعلان دينونة الله العادلة.

   ٢- هذه الأفكار تقف حجر عثرة أمام الإرسالية العظمى وما خطه الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس في قوله: “اكرز بالكلمة. اعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب. وبخ، انتهر، عظ بكل أناة وتعليم”.

   ٣- تفتح الباب للضعف الروحي والاستهانة بكلمة الله والاستخفاف بها، ألا يعتبر هذا ”نقض لا نقد“ لرسالة الكتاب المقدس؟

   ٤- تفتح باب القدح في التواتر، والتواتر هو ما تسلمه الخلف من السلف، وتزيد الهوة والشقاق بين المؤمنين. فكيف لنا أن نعرف ما هو معصوم وما هو غير معصوم في الكتاب المقدس؟ وكيف لنا أن نؤمن بما لا يقينية لنا تجاهه؟ فمن الواضح أننا تسلمنا الوحي مكتوبًا بالتواتر عن طريق الذين سبقونا، فكيف لنا أن نشكك فيما تسلمناه ثم يتحتم علينا أن نؤمن به ونعيشه وننادي به ونقنع به الآخرين؟ وكيف يتأكد أتباعنا مما تسلمناه من أسلافنا إن لم نؤمن نحن بعصمته وصحته، ألا يعتبر هذا ”نقض لا نقد“ لكتابنا المقدس؟

   ٥- إن أمر تشكيك الناس في عصمة الكتاب المقدس أو في وجود سلفية مسيحية من عدمه هذه الموضوعات جميعها التى ذكرتها سابقًا تفقد الرسالة المسيحية مصداقيتها لدى غير المسيحيين، فكيف تصل بالرسالة إلى المسلمين عن طريق كتاب مختلف عليه من أصحابه والمؤمنين به إن كان معصومًا من الخطأ أم لا، هؤلاء المسلمون الذين يؤمنون أن كتابهم محفوظ في السماء وأنزل لهم وهو منزه عن الخطأ والهوى ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ألا يرى المسلمون هذا ”نقض لا نقد“ لكتابنا المقدس؟

   ٦- ثم إن كان كتابنا المقدس غير معصوم، فأين هي النقطة المرجعية التى نرجع إليها ونبني إيماننا عليها بكل ما جاء به، وأين النقطة المرجعية التى لابد أن نرجع إليها عند اختلاف أو نقاش حول أمر معين كمسيحيين بعضنا مع بعض. ألا يكون هذا ”نقضًا لا نقدًا“ للكتاب المقدس؟

   ٧- ثم ماذا يمكن أن يكون موقف الكنائس الأرثوذكسية منا كإنجيليين وهم الذين ينظرون لنا على أننا مسيحيون درجة ثانية، أجانب مستوردون دخلاء على المسيحية، تمتلئ رؤوسنا بأمور ليست من العقيدة الصحيحة في شيء، وأنهم هم الكنيسة الأم التى تمسكت بالتعاليم الصحيحة التى تسلموها من الرسل والأنبياء، ألا يصير هذا الذي يظنه البعض نقدًا لا نقضًا الذي هو بالحقيقة ”نقض لا نقد“ سبب في مواصلة احتقارهم لنا وانقسامهم علينا وضدنا ومعاملتنا كذيول لهم في كل المواقف والمناسبات وتأكيدًا لمناداتهم المستمرة علينا بأننا خربنا معتقدات المسيحية وأننا لا نتمسك بالتعليم الصحيح الذي تسلمناه من الآباء وعدم التزامنا بحرفية الكتاب المقدس؟ ألا يرى الأرثوذكس في هذا الأمر كما هو بالحقيقة ”نقض لا نقد“؟

   ٨- ثم لنقارن بين جيلنا والأجيال الحالية والقادمة، جيلنا الذي كان ولا يزال يؤمن بحرفية الكتاب المقدس وعصمته وسلطانه ككلمة الله القادرة أن تحكم المرء إلى الخلاص والنافعة للتقويم والتأديب الذي في البر، وكيف علمتنا الكلمة النبوية التى هي أثبت أن نحب أعداءنا ونبارك لاعنينا ونحسن إلى مبغضينا، وأن نوقر ونحترم الكبار منا الذين كانوا يتعبون لأجلنا وخاصة في خدمة الكلمة! وكيف عدلت كلمات هذا الكتاب المعصوم، عندما آمنا بحرفيته، مسارنا كلما اعوججنا وضللنا! وكيف عزت قلوبنا عندما اكتئبنا أو يأسنا أو مررنا في عذاب لا يشفق لأننا لم نجحد كلمات القدوس! وكيف كانت ولا تزال كلمات هذا الكتاب المعصوم معنى ولفظًا سراج لأرجلنا ونور لسبيلنا عندما غشانا الظلام الدامس الذي يغطي الأمم! وكيف كانت لنا علامات على الطريق لتحثنا على السير في الطريق الصحيح وتحذرنا من السير وراء الأخيلة، وسمعت أذاننا صوت من وحيه خلفنا قائلاً هذه هي الطريق اسلك فيها، لنقارن بين جيلنا وجيل الملحدين الذين نعيش بينهم اليوم أولئك الذين كفروا بكليات اللاهوت وخزعبلاتها الكثيرة التي اختلطت بالتعليم الصحيح المبني على ما تسلمناه مرة من الرسل والمسيح نفسه حجر الزاوية، وكفروا بالكنائس ورجال الدين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وانتماءاتهم، وساروا وراء معلمين مستحكة مسامعهم يبحثون عن الشهرة والمال ويلهثون وراء الفضائيات لعمل منبر لأفكارهم الشيطانية الأثيمة!

   أخيرًا، أقول إنه إن أرادت الكنيسة أن تصلح ما أفسده الدهر معها لابد أن تنتبه وتراجع وتبدي رأيها وتتخذ موقفًا حازمًا صارمًا ملزمًا ضد ثلاث بؤر لنشر هذه الضلالات والخزعبلات وتضعها في مكانها وحجمها الصحيح، مع علمي الكامل أن الكنيسة لن تفعل هذا بسبب مصالح قادتها الشخصية مع هذه البؤر، أول هذه البؤر وأخطرها هي قناة السات 7 التي من المفترض أنها قناة مسيحية وهي الأوسع انتشارًا والأقدم سنينًا والأغنى مالاً لكنها الأكثر انحلالاً وغيًا وليبرالية في أفكارها وما تنشره من سموم للشعب المسيحي العربي من برامج تخلط بها التبن مع الحنطة والمسيح مع بليعال، وهي الأكثر بثًا  وترويجًا للاهوت المحبة الحر، وإذاعة لاجتماعات الإنشاد الديني الصوفي وأكثرها إنتاجًا لبرامج مشبوهة سواء في مقدميها أو موادها بدعوى مد الجسور مع المسلمين. ولعله من مساوئ الصدف أن يرسل لي صديق، الآن وأنا أكتب هذه السطور،  فيديو كليب من برنامج ”بيت الحكمة“ المذاع على قناة السات 7 وقد استضاف مقدمه أحد القضاة الشرعيين اللبنانيين ليتحدث عن طرق التقارب والتأخي بين المسلمين والمسيحيين بزواج المسلم بالمسيحية وكيف أن الطفل الناتج عن هذا الزواج يكون حلقة وصل بين أعمامه وعماته المسلمات وأخواله وخالاته المسيحيات. ويقول مقدم البرنامج وهو مسيحي للشيخ المسلم: ”نحن نفتقر لهذه الثقافة، الثقافة التى تجعل المسيحي يحتفل باختلافه مع المسلم، وتجعل المسلم يحتفل باختلافه مع المسيحي“، ثم يكمل  مقدم البرنامج ”كيف يمكن أن ننشر هذه الثقافة التى تشجع وتفتح الأذرع أمام المختلف“، وبالطبع نسي مقدم البرنامج أو تناسى، كما تغافلت قناة السات 7 ومسؤولوها ، عن أن المسلم يحتفل بزواجه من المسيحية لكن لا يستطيع المسيحي أن يحتفل بزواجه من المسلمة، لأنه أقل منها في قيمة دمه، ولأنه لا يتبع الدين الأفضل كما أفتى بذلك الأئمة على اختلاف أنواعهم.

أما البؤرة الثانية فهي كلية اللاهوت الإنجيلية المشيخية بالعباسية التى تعلم طلابها، منذ أكثر من ثلاثين عام عندما كنت أقيم بالقاهرة، تعلم طلابها الذين من المفترض أنهم مكرسون لخدمة المسيح وحده وفقًا لتعاليمه بالكتاب المقدس، والذين من المفترض أن تعدهم هذه الكلية ليكونوا قسوسًا، قادة لكنائسهم وشعبهم ومؤتمراتهم ومفسري لكتاب المسيح يسوع، والذين أصبحوا ضحايا لهذه التعاليم، علمًا بأن تأثير معظم أساتذة الكلية قليل جدًا ويكاد يكون منعدمًا إذا ما تكلمنا عن تأثيرهم المباشر على المسيحيين في مصر، فمعظمهم ليس معروفًا حتى في دائرتهم الضيقة ومعظمهم ليسوا برعاة في كنائس حتى يؤثروا على أعضائها ومعظمهم لا يعرفون معنى الخوف على القطيع والنفوس التى مات المسيح لأجلها، ومعظمهم إن لم يكن كلهم قد حصلوا على دكتوراهاتهم من جامعات مشيخية أمريكية ليبرالية تؤمن بعدم حرفية ووحي الكتاب المقدس وتؤمن وتشجع زواج المثليين حتى بين قسوسهم وتنكر عصمة الكتاب المقدس، ويؤمنون بأن التلميذ الذي كان يسوع يحبه هو مريم المجدلية، ولذلك فهم بدورهم يعلمون طلبة كلية لاهوتهم الليبرالي الحر أنه ليس هناك شياطين أو أرواح شريرة، والنار وعذاب الأشرار ليس مكانًا أبديًا حرفيًا وأن اختبار الخلاص ليس اختبارًا يمكن أن يحصل عليه الإنسان الخاطئ في لحظة، وأن هناك أخطاء على كل لون وشكل في كتابنا المقدس وهو ليس معصومًا، وغيرها وغيرها. والعجيب أن يخرج من يقول لنا إن كل هذا “نقد لا نقض”. لا يا سيدي الفاضل فإن كان كل هذا ”نقداً لا نقضاً“ فالنقض ماذا يكون وكم يكون؟! هل تعتبر أن الحديث والبحث وتعليم الآخرين الفكر الليبرالي وكل ما تقدم ذكره لطلبة كلية اللاهوت، وامتحانهم فيه، وإلزامهم بالإيمان به وتحديد نجاحهم من رسوبهم بما يؤمنون من كل هذا الشر “نقدًا لا نقضًا” لمسيحيتنا التى تسلمناها من الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية؟

   أما البؤرة الثالثة هي قناة الحياة المسيحية الفضائية التي مازالت تسمح لخالط التبن مع الحنطة المنشد الصوفي أن يتغنى بفرقته الموسيقية وكلمات ترنيماته التى تخلو من اسم المسيح. وهي تعلم أو لا تعلم أن أكبر الضلالات والهرطقات قد انتشرت وكبرت عندما ألف صاحبها، أريوس في القديم، ترنيمات تحتوي على تعاليمه وأفكاره، ليس ذلك فقط بل هي الفضائية المسيحية التى تمارس الإرهاب الديني على مقدمي البرامج بها، بغض النظر عن مكانهم ومكانتهم في الميديا المسيحية ككل وليس في قناتهم فقط، وبغض النظر عن احتياج المشاهدين له ولما يقوله ويعلمه للناطقين باللغة العربية والذي هو سبب في ربح الآلاف من المسيحيين وغير المسيحيين للمسيح، كل هذا لا يهم هذه القناة التي يتحكم بها شخص واحد في مجلس إدارتها، المهم أن تلجم هذه القناة ومموليها المخالفين لها وتضعهم في مصاف الأعداء لها إن هم خالفوها في الرأي أو حتى عبروا عن آرائهم الشخصية على صفحاتهم الخاصة في  الفيس بوك، أو قاموا بالرد على المهرطقين والشتامين والمحتقرين لإخوانهم القادة والقسوس الذين يخالفونهم في الرأي، تحجمهم وتوقف برامجهم وقد تحاكمهم وفي نفس الوقت تصر على تلميع شخصيات كانت أولى بها أن تختشي وتخجل منهم وتوقف حتى ترانيمهم وتواشيحهم من البث عليها حتى يتوبوا ويرجعوا عن آرائهم ومعتقداتهم التى لا علاقة لها بالمسيحية على الإطلاق. فالمرنمون هم كأطباء التخدير الذين يخدرون الناس لا بعقاقيرهم لكن بموسيقاهم وترنيماتهم وإيقاعاتهم، حتى إذا ما غابوا عن وعيهم وابتلعوا في الحضرة وكأنهم ينظرون في مرآة، إلهية كانت أم صوفية شيطانية، سهل على الجراح أن يضيف في عقولهم وقلوبهم وضمائرهم وحتى أجسادهم ما يريد وفقًا لأهدافه ومخططاته، فما بالك لو كان طبيب التخدير هو نفسه الجراح، فهو مرنم وواعظ في نفس الوقت!

   أفيقي يا كنيسة المسيح، وكفاك نقض في الكتاب المقدس وتخلي عن نقدك له، فيكفي ما يفعله من تعيشين في وسطهم بك وبكتابك وباسم إلهك وسيدك. واعلمي يا كنيسة المسيح أنه آت سريعًا، من سيدين سرائر الناس، سيأتي وأجرته معه ليجازي كل واحد حسب عمله خيرًا كان أم شراً.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا