مَنْ يقتل الجبار

6

العدد 203 الصادر في أغسطس 2022

مَنْ يقتل الجبار

واحدة من أروع قصص الكتاب المقدس التي يستمتع بسماعها وقراءتها الصغار والكبار قصة الغلام داود بن يسى، مَنْ كان من شعب الله في القديم، مَنْ حارب، وقتل الجبار، وقطع رأس المارد العملاق “جليات”، والذي كان من الفلسطينيين قديمًا، مستخدمًا سيف جليات نفسه في إنهاء حياته. لكن بالرغم من استمتاعنا بهذه القصة والحدث الحقيقي إلا أننا أخفقنا في فهم ما قصده القدير، تبارك اسمه، من وراء ذكرها في كتابه المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو أن تكون درسًا عمليًا لنا في هذه الأيام، ومثلًا يُحتذى ويُتبع للتعامل مع كل جبار عتي. والحقيقة المُرة أيضًا التي تبدو واضحة هي أنه لكثرة سماعنا واستمتاعنا وقراءتنا وتلاوتنا لهذا الحدث الواقعي الذي حدث بكل حذافيره وتفاصيله ودقائقه، وحدث فعليًا وحرفيًا، قد فقد تأثيره علينا، وتحوَّل من حدث ومعركة حربية حقيقة حية محيية إلى مجرد قصة مسلية حدثت في القديم، فغابت عنا الأسباب الرئيسية والأهداف الأساسية التي من أجلها وضعها العليم بكل شيء وأمر بتدوينها في كتابه، تبارك اسمه، ضمن كتب الأنبياء الموحى بها.

ولذا، وللتذكير بما قصده القدير من وراء كتابة تفاصيل هذه المعركة، سأعدد، حسبما تيسر لي، صفات وخصال “مَنْ يقتل الجبار” كما جاءت بهذا الحدث، لأن مَنْ يقتل الجبار هو الذي يستطيع أن يحوِّل جبن ورعدة وخوف واختباء رجال الحرب جميعًا، بمن فيهم رئيس شعب الله، الملك شاول بن قيس يومئذٍ، ويمنع الفرار أمام أعدائهم، بقيادة رجل واحد عدو وهو جليات، المعروف لدى العامة بجليات الجبار، يحوِّل كل ذلك إلى نصرة حقيقية بالقادر على كل شيء. والجدير بالذكر أنه بالرغم من وصف المولى للكثير من بني البشر ورجال الحرب في القديم بصفة الجبار، كما هو الحال مع نمرود وجدعون ويربعام وأصغر الكل داود الشاب، إلا أن صفة الجبار قد ألصقها العامة من الفلسطينيين باسم جليات، ولم يطلقها عليه المولى تبارك اسمه أبدًا، أي هي ليست موحى بها من الله سبحانه لوصف جليات، وهو سبحانه مَنْ يعرف أن يصف الناس وفقًا لعلمه السابق ومعرفته المطلقة ببني البشر وبقدراتهم التي منحها لهم هو، الفعال لما يريد. لذا لم يصف الكتاب المقدس جليات ولا مرة واحدة بأنه جبار، بل ذكر عن جليات بعد موته وقطع رقبته بواسطة داود أنه جبارهم، أي جبار الفلسطينيين لا جبار إله إسرائيل، وذلك في قوله تعالى: “فركض داود ووقف على الفلسطيني وأخذ سيفه وأخرجه من غمده وقتله وقطع به رأسه. فلما رأى الفلسطينيون أن جبارهم قد مات هربوا.” لذا فجليات لم يكن جبارًا في عيني الله، تبارك اسمه، بل في أعين الناس. فهناك مَنْ يدعون أنفسهم جبابرة بأس وهم ليسوا أكثر من ثعالب صغيرة هاربة مفسدة للكروم، لا تصمد أمام المقاومين، وهناك مَنْ يدعوهم الآخرون، من المتملقين والمنتفعين، بجبابرة البأس وهم يخافون من ظلالهم ومن خطاياهم وجرائمهم التي تتبعهم ويرتعبون من كل من هو في منصب، وهناك مَنْ دعاهم الله جبابرة بأس بغض النظر عن أعمارهم أو إمكانياتهم وخلفياتهم، أولئك الذين يستطيع كل منهم أن يقول: “لستُ احتسب لشيء ولا نفسي ثمينة عندي.”

أما أوصاف مَنْ يغلب الجبار وفقًا لما جاء بهذه الحادثة فهي على سبيل المثال لا الحصر:

1- مَنْ يستطيع أن يقتل الجبار ليس هو مَنْ يبدأ بجمع جنوده للحرب لمحاربة شعب آمن لم يعتدِ لا على الجبار ولا على شعبه، بل على العكس، فقد بدأ أعداء شعب الله بجمع جيوشهم لمحاربتهم واستعبادهم وطردهم من أرضهم. يقول تنزيل الحكيم العليم: “وجَمَعَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ جُيُوشَهُمْ لِلْحَرْبِ فَاجْتَمَعُوا فِي سُوكُوهَ الَّتِي لِيَهُوذَا، وَنَزَلُوا بَيْنَ سُوكُوهَ وَعَزِيقَةَ فِي أَفَسِ دَمِّيمَ. وَاجْتَمَعَ شَاوُلُ وَرِجَالُ إِسْرَائِيلَ وَنَزَلُوا فِي وَادِي الْبُطْمِ، وَاصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ لِلِقَاءِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ.”

2- مَنْ يقتل الجبار هو مَنْ يعرف أبعاد الحرب الروحية التي يتعرض لها شعبه، أو أمته، أو كنيسته التي هي جسد المسيح. “فَخَرَجَ رَجُلٌ مُبَارِزٌ مِنْ جُيُوشِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ اسْمُهُ جُلْيَات طوله سِتُّ أَذْرُعٍ وَشِبْرٌ.” وجليات اسم كنعاني معناه سبي أو نفي أو يعري أو يكشف، وكلها تتعدى أن تكون مجرد معاني لاسم رجل واحد إلى ما يريد العدو أن يعمله مع شعب الله في حربهم الروحية التي تُحسم في السماويات وتظهر نتائجها على أرض الواقع. فأبعاد الحرب الروحية هي أكبر بكثير مما يمكن أن نتخيله، وأكثر جدًا من مجرد حرب مع رجل واحد مهما كانت وظيفته أو مكانه ومكانته في أي مجال من المجالات، فهي حرب يصفها الكتاب المقدس في هذه الآية: “فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ.”

3- مَنْ يقتل الجبار هو مَنْ لا تخيفه أوصاف عدوه، حتى ذلك العدو الذي يطلق عليه الناس، لا المولى تبارك اسمه، صفة الجبار، ولا يخيفه ما يلبسه هذا العدو على رأسه أو كتفه من رتب أو وظائف أو حتى نياشين أو ما يحمله في يده من أسلحة وإمكانيات وسلطات، فكلها مهما كانت لا تعدو أكثر من مظاهر بشرية ورتب شيطانية وأسلحة جسدية غير قادرة على هدم حصون.

يقول الكتاب المقدس في وصف جليات:  عَلَى رَأْسِهِ خُوذَةٌ مِنْ نُحَاسٍ، وَكَانَ لاَبِسًا دِرْعًا حَرْشَفِيًّا وَزْنُهُ خَمْسَةُ آلاَفِ شَاقِلِ نُحَاسٍ. وَجُرْمُوقَا نُحَاسٍ عَلَى رِجْلَيْهِ، وَحَرْبَةُ نُحَاسٍ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. وَقَنَاةُ رُمْحِهِ كَنَوْلِ النَّسَّاجِينَ، وَسِنَانُ رُمْحِهِ سِتُّ مِئَةِ شَاقِلِ حَدِيدٍ.” فلا شك أن مَنْ يعتمد لا على قوة اسم يسوع، بل على كلام الحكمة الإنسانية المقنع، دون برهان الروح والقوة، في تحقيق أغراضه الشخصية والانتصار في الحرب الروحية لا يمكن أن يحالفه النصر ولن يمكنه قتل الجبار كما يتحتم عليه وكما ينتظر منه المولى سبحانه.

4- مَنْ يقتل الجبار هو مَنْ يفهم ألاعيبه وخططه، ولا يأتمنه ولا يصدقه في كل ما يقوله له، بل يمتحن كلام العدو وخداعه وأساليبه الملتوية للوصول إلى غايته، لأن العدو كذاب وأبو كل كذاب. وهنا ينبغي أن نلاحظ أن خطة العدو للنيل من شعب الله تتلخص فيما قاله جليات للشعب، إذ يقول الوحي:

 “فَوَقَفَ جليات وَنَادَى صُفُوفَ إِسْرَائِيلَ: ‘لِمَاذَا تَخْرُجُونَ لِتَصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ؟ أَمَا أَنَا الْفِلِسْطِينِيُّ، وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ لِشَاوُلَ؟ اخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمْ رَجُلًا وَلْيَنْزِلْ إِلَيَّ. فَإِنْ قَدِرَ أَنْ يُحَارِبَنِي وَيَقْتُلَنِي نَصِيرُ لَكُمْ عَبِيدًا. وَإِنْ قَدِرْتُ أَنَا عَلَيْهِ وَقَتَلْتُهُ تَصِيرُونَ أَنْتُمْ لَنَا عَبِيدًا وَتَخْدِمُونَنَا.’ وَقَالَ الْفِلِسْطِينِيُّ: ‘أَنَا عَيَّرْتُ صُفُوفَ إِسْرَائِيلَ هَذَا الْيَوْمَ. أَعْطُونِي رَجُلًا فَنَتَحَارَبَ مَعًا.’ وَلَمَّا سَمِعَ شَاوُلُ وَجَمِيعُ إِسْرَائِيلَ كَلاَمَ الْفِلِسْطِينِيِّ هَذَا ارْتَاعُوا وَخَافُوا جِدًّا.”

وتتمثل خطة الجبار كما دوَّنها الوحي المقدس في عدة عناصر، والمطلوب من المؤمنين فهمها ودراستها والتحرك من خلالها لقتل الجبار، وهذه الخطة تتمثل فيما يلي:

أ- رفع صوت العدو، حيث يقول تنزيل الحكيم العليم: “فَوَقَفَ جليات وَنَادَى صُفُوفَ إِسْرَائِيلَ”، أي أن خطة العدو لتخويف شعب الله تعتمد على رفع صوته، والمناداة بصوت يصل لآذان وقلوب الناس، لنشر أكاذيبه في الميكرفونات والإذاعات والفضائيات، لا على الحجة والمنطق والصدق والأمانة والأدلة والبراهين. وهو يعلم أن مَنْ يبدأ برفع الصوت وبالهجوم والكذب مستغلًا مكانه أو مكانته بين الناس، ويعرف كيف يستغل الصوت العالي ظنًا منه أنه سيكسب المعركة بالكلام فقط، يُدخِل الخوف والفشل وارتخاء الأيدي عن القتال لقلوب شعب الله، وفي قناعاته أنه الشخص الذي سيكسب المعركة، وخاصةً إذا كان هذا العدو، رافع الصوت، هو مَنْ له الصفات والوظائف والحاشية والجنود المسلحون والمستعدون للدخول في أي معركة، وكلها أمور لا تتوفر لغيره من أفراد أو جماعات شعب الله الحقيقي.

ب- استخدام العدو لرجل واحد، بارز، ومبارز:  قال العدو: “أَمَا أَنَا الْفِلِسْطِينِيُّ، وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ لِشَاوُلَ؟ اخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمْ رَجُلًا وَلْيَنْزِلْ إِلَيَّ”، أي تظهر خطة العدو في استخدامه لرجل واحد، وحصره للمعركة الدائرة بين شعبين ودينين وقوميتين وعرقين في رجل واحد. قد يكون هذا الرجل رئيسًا أو مديرًا صغيرًا أو كبيرًا شابًا أو شيخًا، فهو رجل واحد يقف أمام شعب الله الخائف المرتعب وينادي بكل وضوح وبجاحة وغطرسة وجسارة صفوف الرجال من شعب الله ويصل صوته لآذان كل شعب الله وقادته وكهنته وخدامه، ولا يجيبه أو يتحداه أو يقول له واحد من كل هؤلاء: “لا يحل لك”، فمن يقتل الجبار لا بد أن يقف في وجه الجبار.

ج- العدو يشكك الشعب في هويته ويعلن هوية نفسه واضحًا، فيقول للقادة ورجال الحرب: “أَمَا أَنَا الْفِلِسْطِينِيُّ، وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ لِشَاوُلَ؟” وهذه نصف الحقيقة. نعم، العدو يعرف هوية نفسه ويعلنها بوضوح في كل الأوقات والأحوال، ولا يفرق معه إن كان يعلنها في ساحة الحرب، أو في كنيسة من فوق منبرها، أو في دور للعبادة، أو حتى في الميكرفونات في الشوارع، وفي نفس الوقت يكذب على شعب الله ويحاول إقناعهم بأنهم عبيد للملك، أو الرئيس أو المسئول الروحي أو الديني وغيرهم. لكن مَنْ يقتل الجبار هو مَنْ يعرف هوية نفسه، ويعرف إلى مَنْ ينتمي، ويتمسك بهذه الهوية مهما كانت الصعاب من حوله. لقد حاول عدو شعب الله أن يمحو هوياتهم في مناسبات ومواقف كثيرة في العهدين القديم والجديد، أما في القديم فتبدو محاولة محو الهوية في تغيير نبوخذ نصر ملك بابل لأسماء دانيال وحنانيا وميشائيل وعزريا، فسمى دانيال بلطشاصر وحننيا شدرخ وميشائيل ميشخ وعزريا عبد نغو، وكلها أسماء لآلهة البابليين. أما ما عمله العدو الحديث، فليس أدل عليه من محاولات محو الهوية القبطية، ولغتها القبطية، للشعب المصري القديم، وفرض العربية لغة وهوية عليهم.

د- مَنْ يقتل الجبار لا بد أن يفهم خطته الشيطانية ويدركها إدراكًا روحيًا: “قال جليات لشعب الرب: ‘اخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمْ رَجُلًا وَلْيَنْزِلْ إِلَيَّ. فَإِنْ قَدِرَ أَنْ يُحَارِبَنِي وَيَقْتُلَنِي نَصِيرُ لَكُمْ عَبِيدًا. وَإِنْ قَدِرْتُ أَنَا عَلَيْهِ وَقَتَلْتُهُ تَصِيرُونَ أَنْتُمْ لَنَا عَبِيدًا وَتَخْدِمُونَنَا.'” لذا فإن مَنْ يستطيع أن يقتل الجبار لا بد أن يفهم خطته الشيطانية، ولا يترك له وضع خطة الحرب وتفاصيلها، ولا يحارب وفقًا لخطته التي وضعها هو، أي العدو، بل يحاربه وفقًا لخطة سماوية إلهية مأخوذة من فوق من عنده سبحانه. لقد كانت الخطة الشيطانية كما نطق بها جليات وفقًا لما دوَّنه الكتاب المقدس في القول: “فَوَقَفَ جليات وَنَادَى صُفُوفَ إِسْرَائِيلَ: ‘لِمَاذَا تَخْرُجُونَ لِتَصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ؟ أَمَا أَنَا الْفِلِسْطِينِيُّ وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ لِشَاوُلَ؟ اخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمْ رَجُلًا وَلْيَنْزِلْ إِلَيَّ. فَإِنْ قَدِرَ أَنْ يُحَارِبَنِي وَيَقْتُلَنِي نَصِيرُ لَكُمْ عَبِيدًا. وَإِنْ قَدِرْتُ أَنَا عَلَيْهِ وَقَتَلْتُهُ تَصِيرُونَ أَنْتُمْ لَنَا عَبِيدًا وَتَخْدِمُونَنَا.'”

ولا شك أن العدو يحاول في نفس الوقت أن يخدع شعب الرب بأن يسهِّل أمر المعركة الحربية على بقية الجيش فيجعلهم يتكاسلون عن الاشتراك في المعركة ويتركون أمر نصرتهم على أعدائهم لغيرهم، فلا يشتركون هم بأنفسهم في قتل الجبار الذي أعلن بصراحة وبجاحة أنه سيستعبدهم بعد قتله لمن يتجرأ على مبارزته من شعب الله. ويحاول العدو ويريد أن يحصر الحرب في رجل واحد، رجل من شعب الله أمام رجل من شعب أعداء الله، ويقنع الآخرين بأن يقفوا ويصفقوا للغالب ولا يشتركوا في الحرب الروحية الدائرة معهم وحولهم،  ويوجه أنظار الناس إلى قدرته هو كعدو ويطلب رجلًا قادرًا في ذاته أن يقدر عليه ويغلبه، وهذا أعظم ما يتطلع إليه العدو في هذه الأيام، رجلًا يعتمد على حكمته البشرية، ووضعه الوظيفي والقيادي في كنيسة الله، وإمكانياته العلمية والمادية التي يظن أنها تؤهله لدخول الحرب مع جليات، لأن العدو يعلم أنه إذا نزل أمامه ذلك الرجل فبكل تأكيد ستكون المعركة محسومة لصالح عدو النفوس قبل أن تبدأ. وما أكثر القادة والشعب المسيحي اليوم الذين ينتظرون مَنْ يحارب وينتصر لهم، ويذهبون هم فقط لأخذ الغنائم، وما أكثر القادة والشعب الذين يسخرون من فكرة أننا في حرب روحية حقيقة تدور الآن في السماويات، بل ويعتبرون مَنْ يتكلمون عن هذه الأمور من المشعوذين والمشقشقين المغيبين، فلا عجب أن تصل كنيسة المسيح، عمود الحق وقاعدته، إلى ما هي عليه اليوم من نوم وشر عظيم وفتور وعار.

أما الهدف الأسمى الذي يبحث عنه العدو في حربه مع شعب الله الآن وفي كل أوان فهو أن يصبح شعب الله عبيدًا وخادمين له. ومع أن الوعود العظمى والثمينة التي قالها سيدنا المسيح هي أنه لا يعود يسمينا عبيدًا فيما بعد بل أحباء، وأنه حررنا، ولذلك صرنا أحرارًا، وقد أكد تبارك اسمه أن هذه الوعود هي لنا نحن الذين قبلناه ربًا ومخلصًا وسيدًا لحياتنا، إلا أن الكثيرين في غفلتهم يقبلون التحدي من عدو الخير، وينزلون أمامه بقوتهم الشخصية، متكلين على ذواتهم وخبراتهم ومكانهم ومكاناتهم فيستعبدهم العدو ويقتنصهم لإرادته، وبالتالي وبالتبعية يخدمونه ظانين أنهم يخدمون المسيح.

لقد افتخر الفلسطيني على شعب الرب، وعيَّر الاسم الحسن بقوله: “أَنَا عَيَّرْتُ صُفُوفَ إِسْرَائِيلَ هَذَا الْيَوْمَ. أَعْطُونِي رَجُلًا فَنَتَحَارَبَ مَعًا. وَلَمَّا سَمِعَ شَاوُلُ وَجَمِيعُ إِسْرَائِيلَ كَلاَمَ الْفِلِسْطِينِيِّ هَذَا ارْتَاعُوا وَخَافُوا جِدًّا.”

ألا يشبه اليوم البارحة؟ أليس نفس روح ذلك الفلسطيني ينادي ويعيِّر صفوف الله الحي ويتحداهم: أعطوني رجلًا فنتحارب؟”؟ ألسنا نتصرف بنفس الطريقة التي تصرف بها الشعب القديم المكتوب عنه وعن ملكه شاول. “وَلَمَّا سَمِعَ شَاوُلُ وَجَمِيعُ إِسْرَائِيلَ كَلاَمَ الْفِلِسْطِينِيِّ هَذَا ارْتَاعُوا وَخَافُوا جِدًّا”؟ ألا العدو ينظر لشعب الله اليوم ويقول لهم “أعطوني رجلًا”، وكأنه لم يعد هناك رجال اليوم في شعب الله يمكن لأحدهم أن يتكل على إلهه ويتقدم ويقتل الجبار ويقطع رأسه، بالرغم من وجود كثير من الرجال في شعب الله قديمه وحديثه الذين خاطبهم المولى بقلم بولس الرسول قائلًا لهم: “اسْهَرُوا. اثْبُتُوا فِي الإِيمَانِ. كُونُوا رِجَالًا. تَقَوُّوا”؟

وفي نهاية مقالي هذا، أقول إن أوصاف الرجل الذي يقتل الجبار تتلخص على سبيل المثال لا الحصر فيما يلي:

أ- أن يكون اسمه داود، أي المحبوب، فمن لا يكون محبوبًا من إخوته وشعبه لا يصلح أن يكون المدافع عنهم والمتحدي لعدوهم وجالب النصر لهم في حربهم، بل على العكس سيكون سبب دمار لهم ولجيشهم.

ب- الرجل الذي يقتل الجبار لابد أن يهتم ويفتقد سلامة إخوته طاعة لأبيه وأن يحمل لهم الأكل لإطعامهم، ولا يلهو بمقدساتهم مستغلًا حاجتهم وتبعيتهم له: “فَقَالَ يَسَّى لِدَاوُدَ ابْنِهِ: ‘خُذْ لإِخْوَتِكَ إِيفَةً مِنْ هَذَا الْفَرِيكِ، وَهَذِهِ الْعَشَرَ الْخُبْزَاتِ وَارْكُضْ إِلَى الْمَحَلَّةِ إِلَى إِخْوَتِكَ. وَهَذِهِ الْعَشَرَ الْقِطْعَاتِ مِنَ الْجُبْنِ قَدِّمْهَا لِرَئِيسِ الأَلْفِ، وَافْتَقِدْ سَلاَمَةَ إِخْوَتِكَ وَخُذْ مِنْهُمْ عَرْبُونًا.'”

ج- مَنْ يقتل الجبار لابد أن يكون له خبرات سابقة كراعٍ، حتى لو كان مجرد راعٍ لغنيمات قليلة كما كان داود في القديم، فليس قلب سوى قلب الراعي يمكن أن يشفق على القطيع، فالراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف ولا يرى الذئب مقبلًا فيترك الخراف ويهرب بل يصمد ويحارب حتى عن نعجة واحدة من القطيع، حتى لو كان المهاجم لقطيعه، والذي يريد أن يخطفها ويقتطعها من القطيع، أسد ودب حقيقيين، هذا ما حدث مع داود الراعي حرفيًا إذ يقول الكتاب: “فَقَالَ دَاوُدُ لِشَاوُلَ: كَانَ عَبْدُكَ يَرْعَى لأَبِيهِ غَنَمًا، فَجَاءَ أَسَدٌ مَعَ دُبٍّ وَأَخَذَ شَاةً مِنَ الْقَطِيع فَخَرَجْتُ وَرَاءَهُ وَقَتَلْتُهُ وَأَنْقَذْتُهَا مِنْ فَمِهِ. وَلَمَّا قَامَ عَلَيَّ أَمْسَكْتُهُ مِنْ ذَقْنِهِ وَضَرَبْتُهُ فَقَتَلْتُهُ. قَتَلَ عَبْدُكَ الأَسَدَ وَالدُّبَّ جَمِيعًا. وَهَذَا الْفِلِسْطِينِيُّ الأَغْلَفُ يَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمَا لأَنَّهُ قَدْ عَيَّرَ صُفُوفَ اللَّهِ الْحَيِّ.”

د- مَنْ يقتل الجبار هو مَنْ يعرف كيف يتكل على الله في إنقاذه من أي هجوم شيطاني، فلا يخاف الإنسان ولا يخشى إن جاءه كأسد أو دب؛ “قَالَ دَاوُدُ: ‘الرَّبُّ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ يَدِ الأَسَدِ وَمِنْ يَدِ الدُّبِّ هُوَ يُنْقِذُنِي مِنْ يَدِ هَذَا الْفِلِسْطِينِيِّ.’ فَقَالَ شَاوُلُ لِدَاوُدَ: ‘اذْهَبْ وَلْيَكُنِ الرَّبُّ معك.'”

هـ- مَنْ يقتل الجبار هو مَنْ لا يرهب من تهديدات العدو؛ “وَقَالَ الْفِلِسْطِينِيُّ لِدَاوُدَ: ‘تَعَالَ إِلَيَّ فَأُعْطِيَ لحمك  لِطُيُورِ السَّمَاءِ وَوُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ.'”

و- مَنْ يقتل الجبار هو الذي يعرف كيف يستخدم اسم رب الجنود وأيضًا يعرف جيدًا أن يستخدم المقلاع، فلم تكن نصرة داود على الجبار وقتله وقطع رأسه سوى لأنه كان يجيد استخدام المقلاع، وهو الوسيلة والطريقة والسلاح الأرضي الذي تدرب عليه داود أثناء رعايته لقطيعه الصغير، وفي الوقت نفسه كان يعلم علم اليقين أن الأساس الذي بُنيت عليه حياته وحربه وقتله للجبار هو اسم رب الجنود. فكثيرًا ما تطرفنا جميعنا في التعامل مع أمر قتل الجبار إلى اتجاه من اثنين: فإما اتجهنا إلى تواكلنا وتقاعسنا عن عمل دورنا البشري في التعلم والتدرب والإقدام والتخطيط لقتل الجبار، وانتظرنا وتركنا الأمر كله ليعمله ويقوم به القدير وحده، مع أنه سبحانه ينتظر منا، وفي نفس وقت انتظارنا، أن نعمل نحن المؤمنين به، تبارك اسمه، دورنا البشري؛ وإما اتجهنا إلى الاتجاه الآخر العكسي للاتجاه الأول، أي إلى عمل كل شيء متكلين فقط على حكمتنا الأرضية البشرية، وخبراتنا السابقة، حتى الفاشلة منها، في محاولة لقتل الجبار باستخدام السيف والرمح والترس، ونسينا اسم وعمل وسيطرة رب الجنود ودوره في الحرب، وهو الذي منه النصرة، والذي بدونه لا نستطيع أن نعمل شيئًا. لذا لخص داود هذه الحقيقة في قوله لجليات: “‘أَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ بِسَيْفٍ وَبِرُمْحٍ وَبِتُرْسٍ. وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ بِاسْمِ رَبِّ الْجُنُودِ إِلَهِ صُفُوفِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ عَيَّرْتَهُمْ. هَذَا الْيَوْمَ يَحْبِسُكَ الرَّبُّ فِي يَدِي فَأَقْتُلُكَ وَأَقْطَعُ رَأْسَكَ. وَأُعْطِي جُثَثَ جَيْشِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ هَذَا الْيَوْمَ لِطُيُورِ السَّمَاءِ وَحَيَوَانَاتِ الأَرْضِ، فَتَعْلَمُ كُلُّ الأَرْضِ أَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ لإِسْرَائِيلَ. وَتَعْلَمُ هَذِهِ الْجَمَاعَةُ كُلُّهَا أَنَّهُ لَيْسَ بِسَيْفٍ وَلاَ بِرُمْحٍ يُخَلِّصُ  الرَّبُّ، لأَنَّ الْحَرْبَ لِلرَّبِّ وَهُوَ يَدْفَعُكُمْ لِيَدِنَا.’ ورَكَضَ نَحْوَ الصَّفِّ لِلِقَاءِ الْفِلِسْطِينِيِّ. وَمَدَّ دَاوُدُ يَدَهُ إِلَى الْكِنْفِ وَأَخَذَ مِنْهُ حَجَرًا وَرَمَاهُ بِالْمِقْلاَعِ، وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيَّ فِي جِبْهَتِهِ، فَانْغَزَرَ الْحَجَرُ فِي جِبْهَتِهِ وَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ. فَتَمَكَّنَ دَاوُدُ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّ بِالْمِقْلاَعِ وَالْحَجَرِ، وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيَّ وَقَتَلَهُ. وَلَمْ يَكُنْ سَيْفٌ بِيَدِ دَاوُدَ.”

وما من شك في أن النصرة في النهاية كانت لداود وشعب الله لأن إلههم هو المنتصر دائمًا على طول الخط، والذي يقودهم في موكب نصرته كل حين، لكن لا بد من قطع رأس الجبار وليس فقط قتله، فما يتبقى من الجبار دون قطع رأسه سينمو مرة أخرى ويمارس جبروته من جديد، فلا هوادة مع الجبار، ولا ثقة به بعد اليوم، ولا شفقة ينبغي أن تأخذ شعب الرب في التعامل معه وإجبار مَنْ حوله وإجبار جنوده على الفرار إذ يرون أن جبارهم قد مات، لذا قال الوحي الإلهي: “فَتَمَكَّنَ دَاوُدُ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّ بِالْمِقْلاَعِ وَالْحَجَرِ، وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيَّ وَقَتَلَهُ. وَلَمْ يَكُنْ سَيْفٌ بِيَدِ دَاوُدَ.  فَرَكَضَ دَاوُدُ وَوَقَفَ عَلَى الْفِلِسْطِينِيِّ وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَاخْتَرَطَهُ مِنْ غِمْدِهِ وَقَتَلَهُ وَقَطَعَ بِهِ رَأْسَهُ. فَلَمَّا رَأَى الْفِلِسْطِينِيُّونَ أَنَّ جَبَّارَهُمْ قَدْ مَاتَ هَرَبُوا.”

 وفي النهاية، لا بد من تقديم كل الشكر للإله القادر وحده على قتل الجبار باستخدام بشر من أبنائه الأتقياء الذين وضع، تبارك اسمه، فيهم قوته وحكمته ونصرته، بدون استخدامهم للسيف، لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون.

فيا شعب المسيح، اقتلوا الجبار حيث ثقفتموه، إن كان في نفوسكم أو في نفوس الآخرين، في مجتمعاتكم، في كنائسكم وطوائفكم، واعلموا أن النصرة في النهاية لكم لأن الحرب ليست لكم بل للرب، وليس عنده سبحانه مانع أن يخلِّص بالقليل أو بالكثير.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا