مظاهرات البيت الأبيض لا تنفع في اليوم الأسود

1

العدد 157 الصادر في أكتوبر 2018
مظاهرات البيت الأبيض لا تنفع في اليوم الأسود

     مرة أخرى تشتعل نيران الخلاف بين الأقباط حول ما لابد أن يعمله المهاجرون المصريون بأمريكا عند زيارة رئيس مصر لها، البابا تواضروس يرد على المعترضين الغاضبين بسبب إيفاد أسقف من مصر لإعداد أعضاء الكنائس الأرثوذكسية لزيارة سيادته بالقول إنه لم يرسل أحدًا إلى أمريكا لهذا السبب؛ وحتى زيارته هو كان قد رتبها من أكثر من عام مضى وهي غير مقصودة التوقيت، ونيافة الأسقف الموفد يقول على الملأ البابا استدعاني وأرسلني إليكم للإعداد لزيارة سيادة الرئيس، ويطلب من كنيسة بعينها أن ترسل ٦ سيارات أتوبيس مليئة بأعضائها للوقوف أمام البيت الأبيض للترحيب بسيادة الرئيس في أمريكا، غير ناسٍ أن يُذَكِّرْهم بالوعد الكنسي الأرثوذكسي الشهير: “ابن الطاعة تحل عليه البركة”، بعد أن يعدد لسامعيه الأفضال والحسانات التي حصلنا عليها كأقباط في هذه الأيام، والتي لا ينكرها أحد، وكأنه مكتوب علينا كأقباط أن نعيش في ذل واضطهاد طوال حياتنا كرعايا، ولذا، فالواجب علينا أن نحمد الله على ما وصلنا إليه اليوم من حالة قيل فيها إننا “نعيش في أزهى عصورنا” على يد رئيسنا الحالي، الذي لا يستطيع أي منصف إلا بأن يصفه بأنه رجل مختلف حقًا يسعى لبناء مصر وتقدمها واسترداد مكانتها بين الشعوب العربية والأجنبية وقد نجح إلى حد كبير في ذلك.

     وعليه يمتلئ الفيس بوك، من الأقباط المقيمين بمصر، بتكفير وإهانة واتهام أقباط المهجر، وخاصة في أمريكا، بالخيانة العظمى ضد إخوانهم الأقباط المضطهدين في مصر، وباستحقاقهم لجهنم النار الأبدية، حيث إنهم فلتوا من جهنم النار المصرية الحالية، ويطلبون أن لا يغفر لهم الله ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، كل هذا بسبب خضوع وطاعة القليل منهم لطلب قادة الكنيسة الأم، كما يحلو للبعض تسميتها، بالذهاب والتجمع أمام البيت الأبيض للترحيب برئيسنا السيسي، فقد تطوع قادة الكنيسة في مصر بإرسال المطارنة والأساقفة والقسوس ليطلبوا من الأقباط بأمريكا أن يرحبوا به ويظهروا له، وخاصة أمام الأمريكان وأمام البيت الأبيض كل محبة واحترام وتأييد، الأمر الذي لست أظن أنه يحتاج إلى توصية من الكنيسة أو حشد شعبي قبطي للقيام به للأسباب الآتية:

     ١- نحن المصريين بطبيعتنا وخاصة الأقباط منا لا يمكننا إلا أن نظهر، وبإخلاص دون خوف أو تملق، كل احترام ومحبة وتقدير لرؤسائنا الأرضيين وكل من هم في منصب وفقًا لما علمنا إياه الكتاب المقدس، وسطرته لنا بكل وضوح رسالة بولس الرسول الثانية إلى تلميذه تيموثاوس بالقول: “فأطلب أول كل شيء، أن تقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس، لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب، لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار، لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله، الذي يريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون”.  فكم وكم إذا كان هؤلاء الرؤساء والملوك في زيارتنا في أوطاننا الجديد بلاد المهجر؟، بغض النظر عن الأسباب التي أجبرتنا على ترك مصر واللجوء إلى بلاد المهجر، ومن يفعل غير ذلك الذي طلبه من المولى عز وجل بواسطة رسوله بولس لا ولن يقبل منه في الأرض أو في الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون، حتى لو كنا على خلاف مع رؤسائنا في بعض النقاط المتعلقة بمعاملة أهلنا، أو بسبب صمتهم أو السماح لبعض المتأسلمين والغوغاء المغيبين بمعاملة أهلنا المصريين معاملة سيئة دون تطبيق القانون عليهم وعقابهم وردعهم الفوري والعادل، وخاصة الأقباط منهم، فمن هو الإنسان أو الرئيس الكامل في كل العالم الذي لا خلاف على بعض سياساته أو تصرفاته أو اتجاهاته أو تطنيشاته؟ حسب علمي إنه لم يخلق بعد ولن يخلق حتى قيام الساعة.

      ويرى الأحرار الفاهمون والحكماء من أقباط المهجر أن إرسال مثل هؤلاء الأساقفة والقساوسة، الذين معظمهم لا يفهمون في السياسة شيئًا ولا في كيفية تفكير الأمريكان؛ سواء أكانوا عربًا أمريكان أم أوروبيين أمريكان، وهم لا يفهمون أكثر من رجل الشارع العادي وربما أقل كثيرًا منه، وخاصة هؤلاء الأساقفة الذين لم ولن يذوقوا يومًا طعم الحرية التي نعيش نحن فيها في أمريكا والكثير من البلاد الأوروبية، والذين لسبب أو لآخر قاموا بعزل أنفسهم في أديرتهم وصوامعهم وعاشوا في عالمهم المغلق الذي صنعوه لأنفسهم وباختيارهم والذي لا يختلف كثيرًا داخل الكنائس والأديرة على اختلاف طوائفها عن العالم الخارجي سوى في عدم احتكاكهم العملي المباشر بالعالم الحاضر الشرير خارج أسوار أديرتهم، وفجأة يخرجون من عالمهم الخاص لينصحونا ويوصونا وفوق الكل يعلموننا كيف نتصرف في عالمنا نحن المختلف تمامًا عن عالمهم، وفي بلاد تختلف تمامًا عن بلادهم ويأمروننا أن ننظم المسيرات والتجمعات ونخرج لاستقبال رئيس جمهوريتنا، وحتى لو كان هذا الأمر صحيحًا أو سيمارس بإخلاص ومحبة من وجهة نظرهم، مع أنه ليس كذلك، لكنه بالنسبة لنا كأقباط المهجر، وأقصد أقباط المهجر وليس فقط أرثوذكس المهجر، فإنه ينطوي على إهانة كبرى لنا، حيث أنه يدل على أن قادة الكنيسة مازالوا يعاملوننا كالأطفال الذين لا يميزون ولا يفرقون ولا يفهمون ما هو الصحيح من الخطأ، وكأنهم الأوصياء علينا ونحن الخاضعين لهم والمتخلفين عقليًا، الذين مازالون يؤمنون أن ابن الطاعة تحل عليه البركة دون أن يشرحوا لنا ما هي الطاعة في هذه الحالات وما هي البركة التي ستحل علينا عندما نسمع كلامهم، فهل الطاعة هنا تساوي لا تناقش ولا تجادل ولا تستخدم عقلك في التفكير وحساب الأمور؟، بل عليك أن تذهب إلى حيث نأمرك وتهتف للرئيس كما نأمرك بغض النظر عن قبولك له أم لا واقتناعك بالذهاب إلى أمام البيت الأبيض أم لا فهم المفوضون من الله أن يعلمونا كيف نتصرف في كنائسنا وبين شعبنا وفي بلاد استمتعنا بحريتها وتحررت فيها عقولنا من سلطان أرواح الغي والضلال والتدين الكاذب والحل والربط والخوف من الإكليروس وسلطانهم، الذي لا يوجد في عالم الكتاب المقدس، بل أعطوه هم لأنفسهم ليضمنوا استمرار سيطرتهم على القطيع المسكين، فبدأنا نستخدم عقولنا لأول مرة عندما جئنا إلى هذه البلاد في تقييم الأمور، البلاد التى استمتعنا فيها بالحرية الدينية والاجتماعية والعرقية وأصبحنا فيها مواطنين كاملي الأهلية ولسنا رعايا أو وافدين أو غرباء عنها، بل أصبح لنا نفس الحقوق وعلينا نفس الواجبات التي للذين جاءوا هم وآبائهم منذ مئات السنين إلى هذه الأرض، وأصبحنا مؤثرين منتجين في مجتمعنا الجديد، لا إجبار على أولادنا بحفظ والامتحان فيما لا نؤمن به من نصوص دينية تحض على العنف والقتل وسفك الدماء، أصبحنا مسموعي الصوت والأفكار وأصحاب قرارات محسوبة مسؤولة ممنهجة مدروسة ونعرف تمامًا فوائد وعواقب الانخراط في أية ممارسات أو وقفات أو مظاهرات مع أو ضد رئيس جمهوريتنا.

     ٢- السبب الثاني الذي لا يحتاج لأجله أقباط المهجر توصية من الكنيسة في مصر للخروج والترحيب برئيس جمهوريتنا؛ هو أنني لست أعتقد أبدًا أن رئيس جمهوريتنا الحالي قد طلب أو يمكن أن يطلب من قادة الكنيسة أن ترسل أسقفًا أو شخصًا ما لتحفيز الأقباط على الخروج للترحيب به أو عدم القيام بمظاهرات ضده وذلك للأسباب الآتية:

     أ- إن الرئيس في الحقيقية لا يحتاج إلى هذا التأييد أو الترحيب، الأمر الذي لا يفهمه قادة الكنيسة على اختلاف طوائفها في مصر، بل توارثوه دون فهم من أسلافهم، وخاصة إن الرئيس يعلم جيدًا أن هذا التأييد والترحيب والهتاف لن يضيف أو يقلل من رصيده مع الرئيس ترامب والقادة الأمريكان فهم يعرفون جيدًا من هو السيسي، وأنهم في حاجة شديدة لصداقته ومجهوده في حفظ أجندتهم في الشرق الأوسط، وهذا ما يهمهم في المقام الأول والأخير، ومن يعتقد غير ذلك، فليس إلا مخدوع يعيش في عالمه الخاص وفاقد الاتصال بالعالم الخارجي الواقعي.

     فالأمريكان لا يهمهم ما يعمله أي رئيس في بلده مادام له علاقات وطيدة معهم، فهم يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل، عن الدول التي كانت إلى عهد قريب تمنع نساءها من أن تستخدم سياراتها أو تخرج الشارع بدون محرم.

     والأمريكان يعرفون جيدًا ما يحدث في داخل مصر أكثر مما يعرفه المصريون أنفسهم عن أنفسهم وبلادهم وما يجري فيها، ولا يحتاجون لمن يتجمهر أمام البيت الأبيض ليخبرهم بما يحدث بها.

والأمريكان على استعداد أن يتحالفوا مع الشيطان لضمان سيطرتهم على العالم واستمرارهم على قمة الهرم العالمي وتحريكه كيفما يشاءون.

     والأمريكان لا يهمهم المسيحيون لا في مصر ولا في الشرق الأوسط ولا في أي بقعة من العالم، صحيح هم أكثر الدول تعضيدًا للإرساليات المسيحية على مستوى العالم، لكن يأتي هذا التعضيد من الفقراء المخلصين الذين يبحثون عن انتشار ملكوت المسيح في العالم أجمع وهذا التعضيد ليس له علاقة بالسياسة أو الحكومة الأمريكية.

 أما بالنسبة للكنيسة وقادتها، فإرسال من يعد الطريق أمام الرئيس في زيارته لأمريكا، فيدل على أن الكنيسة وقادتها مازالوا يتعاملون مع زيارات رؤسائنا لأمريكا كما لو كانوا يعيشون في عصر السادات، حيث لم يكن هناك وسائل للتواصل الاجتماعي وكانت المظاهرات والاحتجاجات والوقفات هي أهم الوسائل للتعبير عن النفس وخروج ما يكنه المتظاهرون داخلهم الى عالم الواقع الملموس والمرئي، أما اليوم فلم تعد هذه الطريقة تجدي نفعًا، فمقال واحد أو خبر واحد أو تعليق واحد يمكن أن يخاطب العالم كله في نفس اللحظة، ويدخل إلى مكاتب أعضاء الكونجرس الأمريكي ورجال الحكومة الأمريكية بما فيهم ترامب نفسه إذا ما كتبه ووضعه مجرد شاب مراهق لا يعرف يمينه من شماله على الفيس بوك، وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي، وهو يشرب الشاي بيدٍ على سريره ويكتب باليد الأخرى، دون الحاجة للذهاب والوقوف أمام البيت الأبيض مدخرًا الوقت والجهد والمعاناة والمصاريف المادية.  فتعليق واحد كتبه شاب واحد غير معروف الهوية عن موضوع تافه سخيف، موضوع حمار بلدي واحد مدهون بالحديقة الدولية بمصر؛ ليظهر وكأنه حمار وحشي، هذا التعليق الواحد تم ذكره من العديد من أكبر المحطات التلفزيونية والإذاعية العالمية ومن بينها أكبر محطة تليفزيونية عالمية وهي “سي أن أن” وشاهده الملايين والملايين من الناس في أمريكا والعالم أجمع.

     ب ـ إن الرئيس كرجل مخابراتي يعلم أن طلب مثل هذا الحشد الشعبي للترحيب به سيصغر من حجمه أمام المسؤولين عن الكنيسة وسيثير الفاهمين المثقفين ذوي المكانات المحترمة من المصريين الأمريكان للاعتراض على مثل هذه الوقفات والتشريفات، وسيخلق صراعًا بين الأقباط يسمح بأن تخرج على أثر هذا الصراع أخبار بعض الأمور والأعمال التي لا يفضل الحديث عنها في مثل هذا الوقت بالذات والتي لا مجال لذكرها في مثل هذه المناسبات.

     ج – إن الرئيس كرجل مخابراتي أيضًا يعلم جيدًا أن الذين يخرجون في مثل هذه الوقفات والترحيبات والتشريفات ليس إلا النساء ربات البيوت والرجال المتقاعدين ومن لا عمل لهم أو اهتمامات معيشية عالية وغيرهم ممن لابد أنهم يأتون للترحيب به من الكهنة وقادة الكنائس ووفقًا لأجنداتهم وأغراضهم الخاصة، وبالتالي لن يكون بين المرحبين بسيادته طبيب أو مهندس أو محام أو رجل أعمال مصري واحد، فكل عضو من أعضاء هذه  الفئات لا يمكن أن يترك جدول أعماله ومصالحه، فهؤلاء ليست لديهم الأوقات الخالية من العمل حتى يذهبوا ليقفوا في الشارع للترحيب بسيادة الرئيس الذي لن يروه من الأصل على أي حالة داخل سيارته على فرض أن السيارة ستمر من أمامهم، فرجال الأعمال الذين يريدون أن يبدوا تأييدهم أو يرون أو يجلسون مع الرئيس لديهم من الطرق الكثير لمقابلته والجلوس والمناقشة معه واستثمار وقته ووقتهم في ما يفيد مصر وأهلها.

د- إن الرئيس كرجل مخابراتي أيضًا يعلم جيدًا أن مثل هذه الوقفات والترحيبات التي لا يحتاجها كما كتبت سابقًا تقلل من طبيعية وانسيابية وسلاسة زيارته لأمريكا، فنحن لا نسمع أبدًا في أمريكا ومع أي شعب آخر أو رئيس آخر أن مواطني بلده يذهبون ليرحبوا به أمام البيت الأبيض إلا المصريين.

     هـ- إن الرئيس كرجل مخابراتي يعرف أن خروج المصريين المسيحيين للترحيب به في وسط هذه الظروف الصعبة التي يعيشون بها من قتل وسجن ومنع من الصلاة في أماكن عبادتهم وغيرها الكثير مما يحدث معهم، وحتى لو كان هو غير المسؤول المباشر عن كل ما يحدث معهم كمسيحيين، لكنه يعلم جيدًا أنهم يعيشون تحت رئاسته في مصر مما يجعله مسؤولاً مسؤولية مباشرة عنهم وعن ما يحدث لهم، لذا فخروجهم هذا سيؤكد للعالم كله بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على أنهم مضطهدون في بلدهم وليس فقط مضطهدين لكن مجبرون، بطريقة أو أخرى، أن يخرجوا للترحيب به.

     و- وهو أيضًا يعلم أن رد فعل الصفوة ورجال الأعمال على أوامر الكنيسة بالخروج للترحيب به قد تأتي بنتائج عكسية تمامًا، وتزيد الفجوة بينه وبينهم، وتأجج روح العداوة والانتقام بسبب ما يحدث لعائلاتهم في مصر، حيث أنه لابد لهم من إطاعة أوامر الكنيسة وقادتها مجبرون أو بسبب العلاقات والمصالح المشتركة بينهم، حتى لو لم يكونوا مؤمنين بالمسيح أو يهمهم في شيء أن ابن الطاعة تحل عليه البركة، فهم، كرجال أعمال، في معظم الأحيان مباركين وحالة عليهم البركة أكثر من غيرهم بسبب عملهم ونشاطهم ومثابرتهم واستخدامهم لعقولهم دون طاعة عمياء للسلطات الكنيسة أو غيره.

     ولا شك أننا جميعًا نعلم أن هناك عدة مشكلات وأخطاء يقع بها المصريون في الخارج عندما يدعو بعضهم لإقامة مظاهرة ضد رئيس ما في زيارته للولايات المتحدة الأمريكية، فواحدة من أكبر مشاكل المتناولين للقضية القبطية والدفاع عن الأقباط المصريين، سواء كانوا الأقباط المقيمين في مصر تحت الاضطهاد المتعمد والممنهج والمباشر، أم كانوا الأقباط المقيمين في خارجها والذين  أطلق عليهم “أقباط المهجر” وهم المتفرقون في شتى بلاد العالم، وخاصة في أمريكا، هي عدم تناولهم للأمر بالدراسة والتدقيق، ورؤيتهم للصورة كاملة في الخارج والداخل عند استخدامهم لوسيلة المظاهرات أمام البيت الأبيض الأمريكي للتعبير عن رأيهم وتوصيل أصواتهم لمن حولهم، الأمر المشهور والمقنن والمسموح به في كل بلاد العالم المتحضر والحر، حرية حقيقية. وأيضًا عدم دراستهم لنتائج مظاهراتهم، إيجابية كانت أم سلبية، وللخطوات والأقوال والأفعال التي يعملونها في هذا الاتجاه قبل وبعد المظاهرات، وبالتالي عدم دقة حسابات المكسب والخسارة ودراسة الخطوات التالية لعملهم سواء نجح هذا العمل أم لا.  وفي البداية أود أن أقرر أنني لست ضد هذه المظاهرات في حد ذاتها، ولا أقلل أبدًا من أهمية تنظيم مظاهرات احتجاجية وإعلامية للإعلان والتأكيد على أية حالة أو قضية نريد أن يلتفت العالم إليها، وعلى الأقل ينتبه لوجودها إذا ما فشلنا في إيجاد آذان صاغية لنا في الداخل أو حلول جذرية لمشاكلنا وتغييرات حقيقة لأوضاع عائلاتنا.

    ولا أشكك أبدًا في نوايا وإخلاص ووطنية القائمين والمنفذين لمثل هذه المظاهرات فهم يشكرون على تثقلهم بالأمر واهتمامهم به والمعاناة في سبيل الدفاع عنه ولكن هذه نقرة ودراسة كل ما سبق من عوامل ونتائج نقرة أخرى، ليس فقط بعد إتمام المظاهرة بل قبل بدايتها أيضًا وحساب النتائج والخطوات المستقبلية المبنية على سيناريوهات مختلفة، مفترض أن يتحقق واحد أو أكثر منها في هذه المظاهرة أو تلك. فعملنا كأقباط، سواء أكنا أفرادًا أو جماعات أو كنائس أو طوائف أو منظمات غالبًا ما تكون ردود أفعال لا أفعال، وشتان الفرق بين الاثنين، فردود الأفعال دائمًا ما تنتظر الحدث أو العمل من الشخص المقابل ثم بناء عليه نقوم بالرد عليه، ورد الفعل هذا عادة ما ينطوي على عدة أغلاط ويترتب عليها عدة نتائج سلبية غالبًا ما نندم كأقباط لحصادها. دعني أدلل على ما أقول بعدة مواقف رأيتها تحدث حولي أو حدثت معي أنا شخصيًا وكان عليّ أن أتخذ قرارًا يتعلق بمدى اشتراكي بها.

     ففي الداخل عندما أمتنع البابا السابق عن إقامة قداس عيد الميلاد في عصر السادات، أطلق الأخير يد الإخوان والسلفيين ضد المسيحيين وأعلنها صراحة أنه رئيس مسلم لدولة مسلمة، ووضع قادة الكنيسة في السجون وحدد إقامة البابا شنودة في الدير، أما في الخارج، فعندما جاء إلى أمريكا وتظاهر ضده المصريون الأقباط في المهجر بسبب اضطهاد إخوانهم في مصر، عاد إلى مصر بغضب شديد وتوعد أن ينهي المسيحية في مصر في غضون عشرة سنوات، فانتهى هو ومات مخرمًا بيدي أعضاء  الجماعات التي أطلقها كالأسود الجائعة اللاهثة وراء أجساد البشر والعطشانة لدمائهم. ولا داعي لذكر تفصيلات أكثر عن هذه الفترة السوداء في التاريخ المصري.

     وإحقاقًا للحق ليس إلا، لا خوفًا ولا تملقًا، والله على ما أقوله شهيد، فأنا لا أقارن بينه وبين الرئيس السيسي، فليس هناك وجه شبه بينهما في شيء لكنني أدلل هنا على عدم رؤية الصورة كاملة من رجال الكنيسة، أما معي أنا شخصيًا، فبسبب أنني أصر وأصلي من كل قلبي حتى يريني القدير تبارك اسمه الصورة كاملة لأية أحداث أو مواقف يكون لزامًا عليّ الاشتراك بها، فعندما قام وفد الكنيسة الإنجيلية بزيارة جماعة الإخوان المسلمين في مقرهم قبل أن يربحوا الانتخابات الرئاسية برئاسة المهندس مرسي، بدعوى مد الجسور بينهم وبين الكنيسة، كنت أنا أول المعترضين علانية على هذه الزيارة وعبرت عن هذا الاعتراض بمقال شديد اللهجة في جريدتنا “الطريق والحق” بعنوان “الكنيسة في أحضان الإخوان”، الأمر الذي أغضب مني رياسات الكنيسة الإنجيلية يومها، وعندما فاز مرسي بمقعد رئيس الجمهورية لسبب أو آخر كتبت له مقال ””سقطت سقطت القاهرة المدينة العظيمة”، وعندما أقام أحد القسوس المشيخيين بكاليفورنيا ليلة للصلاة في كنيسته “لأجل مصر”، دعاني لكي أحضر تلك الليلة، لكنه دعا أيضًا السفير المصري يومئذ لحضور الاجتماع، فامتنعت أنا عن حضوره وعندما سؤلت عن سبب اعتذاري عن الحضور قلت للقسيس صديقي: “لأنني لا أحب أن أخلط التبن مع الحنطة، فنحن سنجئ لنصلي للمسيح لأجل مصر وما يحدث بها، فما موقع السفير من الإعراب في هذه الجملة؟، فوجود السفير سيحول الأنظار والاهتمام له وسيبعدها عن الحضور المطلوب منا للمسيح”.  أما عندما تم نقل القنصلية المصرية من مدينة سان فرانسسكو الأمريكية بولاية كاليفورنيا إلى مدينة لوس أنجلوس بنفس الولاية، اقترح بعض أحبائي من القسوس الإنجيليين المشيخيين والمعروفين بعلاقتهم القريبة بالقنصل المصري في سفارتنا بكاليفورنيا، وكثيرًا ما دعا بعض هؤلاء الزملاء الأحباء القنصل المصري، أو السفير نفسه للقاءات مختلفة في كنائسهم كما ذكرت من قبل، اقترحوا أن يذهب وفد من الكنيسة الإنجيلية بجميع مذاهبها في كاليفورنيا لتهنئة سيادة القنصل بمناسبة مجيئه ونقله لمكتبه واستقراره في لوس أنجلوس هو ومكتبه، وافق الكثير من الخدام الإنجيليين المصريين من مختلف الطوائف المسيحية الإنجيلية المصرية على هذا الاقتراح، كان لزامًا عليّ  بحكم اختياري رئيسًا لرابطة الكنائس العربية الإنجيلية في أمريكا أن أكون واحدًا من المهنئين له، وخاصة بعد أن سبقنا كعادته وفد الكنيسة الأرثوذكسية وقام بالتهنئة، كانت مصر وقتها تتلوى على صفيح ساخن مع بداية حكم مرسى وشركاه، الكنائس تحرق، الفتيات تخطف وتجبر على الزواج والدخول في الإسلام، الرجال أيضًا تخطف ولا ترجع إلى عائلاتها، إلا بعد دفع مبالغ باهظة إن رجعت، كنت وقتها قد عقدت العزم على أن لا أتقابل مع أي مسؤول مصري في أمريكا إلا إذا كنت أنا الطالب والراغب في المقابلة، ولأتكلم معه وأرسل من خلاله إلى المسؤولين بالحكومة في مصر، سواء في أيام مبارك أو طنطاوي أو مرسى، رسالة واضحة عن ما نريده ككنيسة إنجيلية في أمريكا من الحكومة المصرية تجاه إخوتنا الأقباط المقيمين في مصر، ولذا لم أكن مقتنعًا أن أذهب لأهنئ سيادة القنصل على نقل مكتبه إلى لوس أنجلوس ودماء أهلي الأقباط تسيل في شوارع مصر، وعلى الجانب الآخر كان لزامًا عليّ، كرئيس لرابطة الكنائس الإنجيلية العربية، في أمريكا أن أذهب مع زملائي القسوس للتهنئة، فكما قال لي شيخ القسوس بأمريكا، الفاضل الدكتور القس صفوت البياضي الذي كان في زيارة لكاليفورنيا: “كيف نذهب نحن كرابطة إنجيليين بأمريكا وليس معنا رئيس الرابطة؟، ماذا لو سأل عنك القنصل ماذا نقول له؟، الأمر الذي سيأتي بنتائج عكسية لزيارتنا!”.

     وعلى جانب آخر كنت أخشى أنه إن ذهبت أنا معهم فستتوطد علاقتي بسيادة القنصل وسيعرفني شخصيًا ومنصبي في الكنيسة الإنجيلية بأمريكا، وفي هذه الحالة أكون كالنعام الذي يدفن رأسه في التراب وقد باع القضية عملاً بالمثل الغبي المتخلف والذي يحض على التخلف القائل: “إذا كنت في بلد بتعبد العجل حش وارمي له”، أي اقطع البرسيم وأطعم العجل حتى يرضى عنك أهل البلد، أي باختصار امش مع التيار، وبالتالي سأناقض نفسي وستتسع الفجوة بين ما أكتب وأقول وأفعل لإيقاظ الحكومة المصرية يومئذ وبين زيارة التهنئة هذه.

     أسقط في يدي لذا قررت أن أذهب لا لأهنئ القنصل، بل لأتكلم معه بصراحة وصرامة عن كل ما يحدث للأقباط في مصر أمام جميع الحاضرين وأطلب منه صراحة إبلاغ حكومته، حكومة مرسي، بوضوح وبكلمات محددة، رسالتي التي أحملها له شخصيًا، وهي اعتراضي على ما يحدث مع أهلي الأقباط في مصر وأسجل مطالبتي بإيجاد حل واضح ومنصف لمشاكلنا يومئذ.

     خططت أن أعطي فكرة مسبقة عن ما سأعمله للمصور التليفزيوني الذي كان من المقرر أن يذهب معنا لتصوير اللقاء بالتركيز على هذا الجزء بالذات وبعدها أنشره في العديد من المحطات التليفزيونية الأمريكية والعربية والمسيحية، كنت أعلم أن هذا لن يرضي بقية القسوس زملائي، وخاصة إنني لم أشارك أي منهم بما نويت أن أعمله مع القنصل، بالرغم من علمي الأكيد أن ما سأعمله سيؤدي إلى صراع وخلاف بيننا. لكن الأمر بالنسبة لي لم يكن يقبل النقاش أو التنازل عنه بأي شكل.

     خرجت من بيتي في الصباح الباكر متجهًا إلى لوس أنجلوس، لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد صدمت سيارة تسير بسرعة فائقة على الطريق السريع سيارتي من الخلف وأدت إلى تحطيمها بالكامل، الأمر الذي منعني من اللحاق بالرفاق وفشل المخطط، فأخبر أحبائي القسوس القنصل بأخبار الحادثة ووجدوا فيه مخرجًا من أزمة غيابي.

     وفي نهاية مقالي، هذا دعني أدون بعض الحقائق التي يجب الالتفات إليها إن كنا حقًا نبغي أن نرى الصورة كاملة فيما يتعلق سواء بالمظاهرات أو الترحيبات أمام البيت الأبيض:

     1- هناك الكثير جدًا من الجماعات والإخوان والمتأسلمين يندسون وسط الأقباط حول البيت الأبيض، ويحققون أجنداتهم الشخصية أو الجماعية وخاصة في المظاهرات ويدفعون المسيحيين في مقدمة الصورة وكأنهم هم الوحيدون المعترضون على الرئيس وسياساته والمسيحيون هم مسببو المشاكل وحدهم في الخارج، أما في داخل مصر، فهؤلاء المتأسلمون هم أنفسهم الذين يلومون المسيحيين على خروجهم في مظاهرات واحتجاجات ضد رؤسائنا، أما هم فأبرياء براءة الذئب من دم ابن يعقوب، تمامًا كما يقول المثل المصري: “يقتل القتيل ويمشي في جنازته”.

العمل الذي لست أظن أن الكنيسة تفكر فيه أو تعد له العدة، عندما تطلب من أبنائها التجمع حول البيت الأبيض.

     ٢- إذا كانت المظاهرات مطلوبة والتغييرات ملحة وخلق السلام والمحبة والمودة بين المصريين المسلمين والمسيحيين سواء بالداخل أم الخارج حتمية، فهذه المظاهرات لابد أن تبدأ من مصر أولاً، فما لا يمكن إصلاحه من داخل مصر لا يمكن حدوثه من خارجها، فأقباط الموطن هم القادرون على التظاهرات المؤثرة وليس أقباط المهجر، وليس ذلك فقط، بل المظاهرات لابد أن تبدأ من داخل القصر الجمهوري المصري ولابد أن يقودها رئيسنا المحبوب المفكر والمنفذ بنفسه، والذي أثبت تاريخه القصير في الرئاسة أنه قادر على مواجهة الصعوبات والتحديات واتخاذ القرارات الساخنة الحازمة الحاسمة دون تردد وإصلاح الكثير مما أفسده الدهر، بغض النظر عن الأعداء والمقاومين. وفي هذه الحالة ستكون هذه المظاهرات منه وليست ضده، وعندها نحن كمسيحيين أقباط مصر، بالداخل وبالمهجر، وكذلك الكثير من المسلمين العقلاء سنؤيده فيها بكل قوتنا، تمامًا كما حدث في ثورة ٣٠ يونيو، فإن كانت ٣٠ يونيو الأولى ثورة تغيير، فالثورة الثانية لابد أن تكون ثورة تطهير.

     ٣- البيت الأبيض لا يهمه إلا مصالحه الشخصية والسياسية فقط ولا يلتفت للمظاهرات والوقفات ولا حتى التأييدات والترحيبات أمامه بأي رئيس مهما  كانت مكانته عندهم. فالبيت الأبيض يتعامل مع الأقليات وفقًا لتأثيرها في الشارع السياسي والأمني الأمريكي وبالتالي في الاقتصاد والاستقرار فقط ولا دخل له فيما يتعلق بصراع الأديان والمتدينين أو ما يحدث بين المسيحيين والمسلمين ليس فقط في الوطن العربي، بل في أمريكا نفسها، والدليل على ذلك أن أمريكا هي التي خلقت طالبان في افغانستان، وهي التي مكنت الإخوان المسلمين من تولي الحكم في مصر وغيرها من الأمور المعروفة للعامة والخاصة، وإلا فأعطوني مثلاً واحدًا قامت فيه الحكومة الأمريكية بالدفاع عن المضطهدين في أي قطر من أقطار الأرض، بما فيهم المسيحيون مع أنها تملك الحقائق ولديها الإمكانيات للدفاع عنهم!

٤- أما على مستوى الكنيسة:

    أ- فالمظاهرات ضد الفساد والتخلف والرجعية واللا آدمية لابد أن تبدأ من الكنيسة أولاً وبالأخص من رأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ورؤساء الطوائف والمذاهب المسيحية، وإلا فلن تبدأ أبدًا ولن يكون لها التأثير الواضح المرجو أن يتحقق إن لم يبدأ الأمر من الرأس، مع علمي الكامل بالتيارات المضادة له وللإصلاحات التي يحاول أن يجريها.

     ب- المظاهرات لا تبدأ إلا بعد اتحاد أقباط الداخل بالخارج ووصولهم لرأي وموقف موحد مدروس وخطوات محسوبة التوقيت والقوة والترتيب ودراسة العواقب والمثابرة على تحقيق التقدم ومقياس وتقنين النتائج.

     إن لم يحدث ذلك وأظنه لن يحدث، فسيزداد الحال سوءًا وستعلو درجة الغليان بين الناس داخل مصر وخارجها، وسيطلب الرؤساء الدينيون مرارًا وتكرارًا أن يسافر مندوبون عنهم لتهيئة ولتهدئة الجو بين أقباط المهجر قبل كل زيارة لسيادة الرئيس لأمريكا، علمًا بأن على الجميع أن يعلم أن مظاهرات البيت الأبيض لن تنفع في اليوم الأسود. والله على ما أقوله شهيد.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا