متى المسكين والحوار الوطني

21

مدحت بشاي

أما وقد أوشك قطار “الحوار الوطني” على الانطلاق وبدء عقد جلسات الحوار بعد الانتهاء من كل اجتماعات التحضير التنظيمية، أتصور أن تسارع الفئات التي تجمع بينها مطالب لها بُعد سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ديني روحاني بإقامة منتديات حوارية داخلية على طريقة “الكل في واحد” ليمثلهم مَنْ يتفقون عليه للتحدث في منتديات دوائر الحوار الأعلى، بشكل موضوعي ووطني تحت شعار وهدف قدمه الرئيس وهو أننا نتحاور من أجل إقامة دولة مدنية ديمقراطية..

وفي هذا الصدد، أتصور أنني ــ كاتب تلك السطور ــ أكثر من نادى (عبر مقالاتي وكتبي وحلقات “أستوديو التنوير” التليفزيونية التي كنتُ أشرف بتقديمها على شاشة “الأقباط متحدون” الرائعة) بضرورة إقامة حوار مسيحي- مسيحي يمكن أن يبدأ بحلقات حوارية داخل بيت كل مذهب من المذاهب الثلاثة، ثم في الأخير بين رموز ومفكري تلك المذاهب، مع أهمية ألا تمثل الكنيسة المواطن في الشأن السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي وأن تكتفي بتمثيل الشأن الكنسي والروحي والحديث فيه، بل يمثله مَنْ انخرطوا في العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي من رموزه من أهل الفكر والتنظير في كل تلك المجالات..

وأرى أن راهبنا المفكر والمترجم والفيلسوف لا بد أن يكون حاضرًا بفكره التنويري الرائد والوطني في منتديات الحوار الوطني. ولعلني أسأل: مَنْ غير صاحب الـ 180 كتابًا والمساهم في معظم المنتديات الفكرية الحوارية الرفيعة المستوى ومتعددة الأهداف نستدعي حضوره؟

ولدي أمل أن أجد موسوعاته الفكرية والوطنية الرائعة التي ضمَّنها الكثير من الحلول الإبداعية لبناء مواطن وتقدم وطن وقد تم الرجوع إليها وطرحها على طاولة الحوار على يد حوارييه وحاملي أفكاره..

والمفكر متى المسكين حاوره في الكثير من المناسبات رموز الفكر الوطني.. أذكر أن الكاتبة والأكاديمية المبدعة د. هدى وصفي سألته: “نريد أن تحدثنا عما قمت به من شرح إنجيل يوحنا، ويدفعنا إلى هذا السؤال منهجك في الشرح من ناحية، والتمهيد المستقل الذي قدمت له للشرح في أكثر من أربعمائة صفحة بعنوان “المدخل لشرح إنجيل يوحنا”، وواضح أنك كنت تقدم في هذا الشرح ترجمة تفسيرية جديدة للنصوص الأصلية.”

وكان رد متى المسكين: “في الحقيقة، أنا حين ابتدأتُ الترجمة واجهتُ معضلتين: الشرح والتفسير، فالكلام بحاجة إلى تفسير، وبعض التفسير بحاجة إلى شرح، لأنني أوضِّح معنى النص، وأرتبط بالنص ارتباط أمانة، ونقطة البداية هي ترجمة النص لأنه يوناني ذو ترجمة سقيمة، ولذلك أبدأ بإعادة ترجمته، بعد ذلك أبدأ التفسير على ألا أخرج خارج النص إطلاقًا، وإلا فإن ذلك لا يُعتبر تفسيرًا، فأي خروج نسميه عدم أمانة،  فهو يوضح كلام المسيح ويشرحه، فقبل النص هناك صاحب النص، ولذلك لا بد أن أتعرف على النص كي أقول الشرح، وتلك مرحلة ما قبل التفسير، وفيها خروج عن النص ولكن في حدود صاحب النص، إذ لا بد لي أن أعرف صاحب النص، سواء كان المسيح أو يوحنا، وأن أتربى بالمعنى الصحيح تحت رجليه، وأن أعرف خلجات قلبه وفكره، وبالتالي أستطيع أن أشرح النص دون أن أخرج عنه قيد شعرة.”

ولعل حداثة وروعة أطروحات “المسكين” هي التي جذبت الباحثين لعرضها وتناولها عبر رسائلهم للماجستير والدكتوراه.. ومن بينهم الشيخ محمد هنداوي الأزهري، الحاصل على ليسانس الدعوة الإسلامية جامعة الأزهر، وعلى درجة التخصص الماجستير في الدعوة والثقافة الإسلامية من جامعة الأزهر أيضًا، عن الاختلافات في الكنيسة المصرية، إضافةً إلى دراسات متخصصة في الفرق والمذاهب الإسلامية المعاصرة والتيارات الاستشراقية الحديثة. وقد شارك في أكثر من مؤتمر لحوار الأديان في مصر وخارجها، وكانت مفاجأة أن يقدم دراسة أكاديمية ضخمة عن الأب متى المسكين ويحصل بها على الماجستير بامتياز، لتكون أول دراسة تتعمق في كتب اللاهوت، وتتغلغل في الأفكار اللاهوتية.. بموضعية وحياد..

وحول دور رجل الدين، يؤكد “الراهب” أنه إذا تكلم بأمر الكنيسة وبما تمليه عليه في الأمور الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية التي هي أصلًا ليست من اختصاص الكنيسة، صار هو والكنيسة مسئولين أمام الدولة، ولذلك يجب على الكنيسة ألا تأمر رجل الدين أن يتكلم إلا فيما يختص بالشؤون الكنسية وفي دائرة اختصاص المسيحية حتى لا تقف الكنيسة مسئولة أمام السلطان الزمني لأنها لا تُسأل قط إلا أمام المسيح روحيًا.

ويرى “الراهب” أن رجل الدين عامةً له كل حقوق المواطن الحر، والرسامة لا تلغي شخصيته كإنسان وإنما تضيف إليها صفة كنسية وحقوقًا إلهية، فهو بشبه المسيح يحيا، وباسمه يكرز ويتكلم، وبفمه يُعلَّم ويوبخ، وهو سفير الكنيسة أينما حل في دائرة رعايته، ولكن صفة الكاهن الكنسية لا تعطيه حصانة ضد مؤاخذات الدولة، فهو يمثل أمام الدولة كمواطن أولًا وقبل كل شيء، ولذلك يلزم أن يكون حريصًا في معرفة الواجبات التي تربطه بالدولة، وحقوق الوطن عليه يؤديها جميعًا في دقة ومبادرة، وكما سلك السيد المسيح له المجد يسلك هو أيضًا ناظرًا كيف بادر المسيح ودفع الجزية دون احتجاج مع أن القانون حينذاك لم يكن يسمح بجمعها من المواطنين وإنما من الغرباء فقط… الكاهن رب أسرة جسدية أفرادها كلهم مواطنون للدولة يعولهم من عرق جبينه، ولذلك فله لدى الدولة حقوق المواطن الكادح، وله أيضًا أن يعلن عن رأيه كمواطن مسئول ويعطي صوته في حينه، كما أن الكاهن أيضًا راعٍ لشعب، ولكن بسبب أن الكنيسة لا الدولة هي التي أقامته على الشعب، فإنه يصبح مسئولًا عن رعيته أمام الكنيسة وليس أمام الدولة، كما يصبح عليه أن يعلِّم رعيته بما تأمره به الكنيسة التي أقامته، وليس للكنيسة أن تأمره أن يعظ أو يعلِّم إلا في حدود اختصاصه. والكاهن مسئول أن يمهِّد لشعبه بواسطة خدمة الكلمة والصلاة حياة التوبة لتخلص نفوسهم في يوم الرب.. ولا يتسلط الكاهن على شعبه كحاكم ولكن كخادم وبخوف الله، كما يقول الله نفسه: “إذا تسلط على الناس بار يتسلط بخوف الله، وكنور الصباح إذا أشرقت الشمس” (2 صم 23: 3-4).

في انتظار مشاركة متى المسكين، وطه حسين، وفرج فودة، وسلامة موسى، وصلاح فضل، والإمام محمد عبده، والبابا كيرلس الرابع، أبي الإصلاح وغيرهم من رموز الفكر التقدمي العظيم..على أول مائدة أول حوار وطني تاريخي على أرض وطن قرر مواطنوه بناء عُمد جمهورية جديدة..

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا