دروس أساسية من نتيجة الانتخابات الأمريكية

1

العدد 135 الصادر في ديسمبر 2016
دروس أساسية من نتيجة الانتخابات الأمريكية

    ما من شك أنه قد فوجئ العالم كله في صباح التاسع من نوفمبر 2016 بفوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. فوجئنا جميعًا بفوزه، كما فوجئ أيضًا بذلك الغالبية العظمى من مسئولي وأعضاء الحزب الجمهوري الأمريكي أنفسهم، الذين رفض الكثيرون منهم، علنًا وبإصرار، التصويت لصالحه، أو أولئك الذين صوتوا لصالحه، والذين من بينهم أنا وزوجتي وأولادي، لا لحبهم له أو اقتناعهم به، بل لأنه الخيار الوحيد أمامنا كجمهوريين أمريكان. والحقيقة أننا جميعًا لم نكن نتوقع أن يفوز السيد ترامب بالرئاسة الأمريكية هذه المرة، لأسباب عديدة سأذكر ما تيسر منها، والدروس المستفادة من كل واحدة من هذه الأسباب في عجالة في هذا المقال:

    أولاً: إن الشعب الأمريكي يتأثر في اختياره لرئيسه بتفاصيل حياته الدقيقة وشكله وشكل عائلته، وطريقة تربيته لأولاده، وما لديه من ثروة، وكيف حصل عليها، وإن كان قد سدد الضرائب المستحقة عليه بانتظام أم تهرب من دفع حتى جزء بسيط منها، وطريقة معاملته وقبوله للسيدات، وعلاقاته النسائية، وموقفه من المهاجرين الجدد لأمريكا وخبرته في التعامل مع الدول الأخرى وعلاقاته الخارجية، لدرجة أن حتى التفاصيل الدقيقة لوجهه وشعره وطريقة حركات يديه وسرعة بديهته وطريقة كلامه ونطقه لألفاظه والعبارات التى يستخدمها في وصف مؤيديه ومعارضيه، وغيرها وغيرها الكثير، وكلها تُحدث تأثيرًا صغيرًا أو كبيرًا على نتائج الانتخابات وتحدد مدى قبول الشعب الأمريكي لرئيسه المنتخب. والحقيقة التى لا مفر من الاعتراف بها هي أنه لم تتجمع الكثير من هذه التفاصيل، بالصورة السلبية الواضحة، والتى من الممكن أن تؤثر سلبًا على مرشح أمريكي للرئاسة مثلما تجمعت في السيد ترامب، فأقل ما يقال عن ألفاظه ولغته أنها سوقية مستفزة، فهو لا ينتقي ألفاظه. فلم نسمع قبل اليوم أن يصف مرشح للرئاسة الأمريكية لمن ينافسه على الرئاسة من الرجال بأنه رجل فاسد أو منحل أو أعوج أو ملتوي، فكم وكم لو كان الوصف يقال من مرشح رجل عن مرشحة امرأة! فقد كرر دونالد ترامب عبارة هيلاري المعوجة “crocked Helary “، تلك العبارة التى كررها تقريبًا في كل مرة ألقى فيها ترامب كلمة على مؤيديه، حتى لصقت هذه العبارة بها وباسمها وكأنها اسم عائلتها، ولم يرفض مرشح أمريكي أن يصافح غريمه قبل أية مناظرة أو بعدها عندما يلتقيان في مكان واحد كما فعل ترامب، ولم يهدد مرشح غريمه بأنه عندما ينجح في الانتخابات سوف يضعه أو يضعها في السجن، كما فعل ترامب. لكن مما هو واضح أن هذه اللغة السوقية وألفاظه غير المنمقة وإهانته للسيدة كلينتون علنًا أمام الجميع على شاشات التليفزيون كانت سببًا في كشف إعوجاج منافسته وواضح أنها ساعدته على كسب الانتخابات، ليكون رئيسًا منتخبًا للولايات المتحدة الأمريكية، بالرغم من وقوف الرئيس الحالي أوباما بكل إمكانياته البلاغية والخطابية وراءها، واستخدامه لشعبيته، التى اهتزت الآن وتناقصت إلى أدنى مستوى لها منذ توليه الرئاسة، في تدعيمها. لكن الفرق بين ما يحدث في بلادنا العربية وبين ما يحدث في بلاد الفرنجة هو أن الزعيم في بلاد الفرنجة “ما يقدرش يفضل في منصبه للأبد” ولا “يلهط على طول”، على حد تعبير عادل إمام في مسرحية الزعيم، لأن في بلاد الفرنجة توجد أحزاب متضادة ومتنوعة حقيقية، لها كيان حقيقي وكلمة واضحة مدروسة ومسموعة حقيقية، ولها من الدراسات والتحليلات ما يكشف المستور، وعندها المليارات لفضح أي تلاعب في المعلومات والمراسلات والإيميلات والانتخابات، وأي تلاعب في العملية الانتخابية سيؤدي في النهاية إلى خسارة المتلاعب، كما حدث مع كلينتون، وصندوق الانتخابات عندهم له قدسيته وهو مغلق إليكترونيًا بإحكام، وورق الانتخابات لا يتم توزيعه قبل العملية الانتخابية بأسابيع، والذين ينقلون أوراق الانتخاب من المطابع الأميرية الأمريكية إلى مواقع الاقتراع يكونون مراقبين بالكاميرات حتى وهم في دورات المياه الخاصة بهم، والنتائج تُعد وتحصى وتظهر في التو واللحظة بطريقة  إليكترونية بمجرد أن يُدلي الناخب بصوته، وعملية إعادة فرز الأصوات -إن تطلب الأمر ذلك- لن تستغرق أكثر من ساعات قليلة، والقضاة ليسوا هم المسئولين عن صناديق الانتخابات، ومن تسول له نفسه أن يتلاعب في أوراق الانتخابات، يكون متأكدًا أنه لا بد أن يخترع طريقة جديدة يمكن بها أن يحقق مآربه دون أن يكتشفه أو يشك فيه أحد وهو يعلم يقينًا أنه لا بد أن يكتشف إن آجلاً أم عاجلاً، وعندها لا سماح ولا طرمخة ولا اتفاقات في الخفاء. ولا مكان للسكر والزيت والبطاطس في الانتخابات الأمريكية فجميعها متوافرة في المحلات وبأسعار أقل من أسعارها في أي مكان آخر في العالم، ولا حاجة للناخب أن يأخذها من المرشحين، والخمسين دولار المقطوعة نصفين والتى يأخذ الناخب نصفها مقدمًا ويأخذ النصف الآخر عند خروجه من قاعة الانتخابات وإثبات أنه انتخب الرجل الطيب المحسن المؤمن المطلوب منه انتخابه لا تصلح في أمريكا، فالدولار المقطوع لا مكان له في بلاد العم سام. ولأجل كل ما تقدم يحترم الأمريكي نفسه وبلده ومرشحيه ويذهب بثقة إلى صندوق الانتخابات وهو يعلم أن صوته له تأثيره لا محالة، ليس ذلك فقط، بل نجح الأمريكان في أن يقنعوا الجيل الجديد الذي أصبح الإنترنت إلهه، والفيس بوك كتابه، والانستجرام والوتس أب معبده، ولاعبي كرة السلة ملائكته، والمواقع الإباحية والجنسية شياطينه، ونجوم السينما والغناء أهله وإخوته، نجح الأمريكان بالرغم من كل هذا أن يخلقوا تقديرًا إيجابيًا خاصًا للعملية الانتخابية في أذهان هؤلاء الشباب، على الرغم أيضًا من أنهم مازالوا شبابًا قد يندفعون لاختيار أحد المرشحين دون التدقيق أو الإطلاع على ماضيه وحاضره وبرنامجه أو برنامجها الانتخابي، ودون تفكير، إذا ما خسر مرشحهم الانتخابات -كما حدث مع كلينتون الزوجة- اندفعوا بقوة الشباب إلى الشوارع في مسيرات واعتراضات، وهم لا يعلمون أن ما كُتب قد كُتب ولا فائدة من كل ما يعملون. لكن الدروس الأساسية التى نتعلمها من هذه النقطة هى أننا نحتاج أن نتعلم أن المنتخب الحر القادر على التعبير عن نفسه في حياته اليومية هو من لا تعوزه لقمة العيش ليأكل ولا المياه النظيفة ليشرب ولا ينقطع التيار الكهربي في بيته، إلا في الكوارث الطبيعية، هذا المنتخب هو وحده من يستطيع أن يعطى صوته لمن يعبر بصدق عنه وعن آماله وطموحاته، مهما كانت صفات المرشح. وهكذا يكون المرشح أيضًا على طبيعته، فإن كان سليط اللسان يبقى كما هو ولا يحاول أن يتجمل أو يداهن منتخبيه، لكى يعطوه أصواتهم، فسلاطة اللسان، سواء أنها ظهرت في وقت الانتخابات أم ظهرت بعد النجاح في الانتخابات، ستظهر لا محالة وعندها سيكتشف الناخبون أنهم أعطوا أصواتهم لممثل، شخصية غير حقيقية، يتلون ويتشكل وفقًا للظروف وليس لشخص أمين يترك نفسه على طبيعتها، وإن حاول التغيير يكون جادًا فيه، فيحدث التغيير في الناخب بغض النظر عن نجاحه أو فشله في القضية الانتخابية. فليس على النائب تغيير تسريحة شعره أو نبرات صوته، أو طريقة كلامه أو عصبيته أو هدوئه لكسب الانتخابات، فالناخبون الأمريكان من الذكاء، بما كان حتى يعطوا أصواتهم لمن يكون على سجيته في كل المواقف والأزمات. ولعلنا كعرب نحتاج أن نتعلم كيف نصنع من شبابنا العربي الذكي قوة محددة مهدفة موجهه لسير الانتخابات ونتائجها في بلادنا.

    السبب الثاني الذي زاد من دهشة الناس عند نجاح مستر ترامب في انتزاع الرئاسة الأمريكية من يد السيدة كلينتون، هو عدم اقتناع أغلب أعضاء حزبه الجمهوري به أن يكون رئيسًا لهم ولكل الأمريكان. فلقد تعود الجمهوريون منذ عشرات السنين على استخدام أساليب وطرق متعالية وقديمة وعقيمة عفى عليها الدهر، وحلول تقليدية لم تعد تتناسب مع العصر الذي نعيش فيه وعلى كبريائهم واعتزازهم بتاريخهم القديم واعتمدوا على فوزهم بالرئاسة الأمريكية على أصوات الأمريكان البيض الذين كان عددهم هو الأكبر بين تعداد سكان الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي اعتمدوا على أعضاء الكنائس الأمريكية، ولذا فلم يعطوا أهمية كبيرة لأصوات المهاجرين الجدد من المتحدثين باللغة الأسبانية من المكسيكان ووافدي دول أمريكا الجنوبية وغيرهم من وافدي الدول الآسيوية، وخاصة الجنس الأصفر أو الكتلة الشرقية، وكذلك لم يهتموا كثيرًا بأصوات الأمريكان السود حتى لحظة انتخاب الرئيس الأمريكي الأسود باراك أوباما، وبالطبع لا ولن يدخل قريبًا تعداد الأمريكان العرب في حسبانهم لقلة عددهم وتفرقهم في كل الولايات الأمريكية بأعداد قليلة وانعدام تأثيرهم الإيجابي الملموس في المجتمع الأمريكي، أضف إلى ذلك تصدير العرب للإرهاب إلى العالم كله. لذا فللأسباب السابقة الذكر خسر الجمهوريون الانتخابات الأمريكية أمام باراك حسين أوباما وبالتالي أمام الديمقراطيين، ورأى جل المسئولين عن الحزب الجمهوري، بما فيهم عائلة بوش التى حكم اثنان منهم أمريكا وحاول الثالث أن يفوز برئاستها هذه المرة، والمرشح السابق ميت رومني الذي خسر الانتخابات أمام باراك أوباما، وزعيم الأغلبية الجمهورية في الكونجرس الأمريكي بالطبع مع بقية مرشحي الحزب الجمهوري للرئاسة هذه المرة أمام دونالد ترامب، رأوا جميعًا أن السيد ترامب بدأ في تحريك مياه الجمهوريين الراكدة، وكشف فشل سياساتهم وانقساماتهم وفشلهم في أن يقدموا بدائل منطقية لخطط الرئيس الحالي أوباما وحكومته وبطانته، بما فيهم وزيرة خارجيته السيدة كلينتون. وقد بدأ ترامب في أن يكشف ويعري تقاعسهم في تجميع الأمريكان حولهم لانتخاب مرشحهم الجمهوري في الدورتين السابقتين، اللتين تقلد فيهما الأمريكي الديمقراطي الأسود باراك أوباما مقاليد الحكم في أمريكا، الأمر الذي كان ولا يزال يهددهم حتى بعد فوزهم وفوز حزبهم من خلال السيد ترامب برئاسة الجمهورية. ولعل الدرس الهام الذي ينبغي للعالم عامة والوطن العربي خاصة أن يتعلمه، والذي ثبتت بالدليل القاطع أهميته، هو أن إهمال قطاع كامل من الناخبين ممثل في لون بشرتهم أبيض كان أم أسود، أو ديانتهم مسلمين كانوا أم مسيحيين أو جنسهم رجالاً كانوا أم نساء بسبب قلة عددهم أو التقليل من تأثيرهم، أمر قد يؤدي إن عاجلاً أم آجلاً إلى نتائج سيئة غير متوقعة، ولن يمر أكثر من خمسين عامًا مقبلة على الانتخابات الأمريكية حتى نرى تأثير الأقلية العربية الإسلامية عليها ونرى رئيسًا أمريكيًا مسلمًا خالصًا، ليس كباراك أوباما من كان نصفه أفريقيًا مسلمًا ونصفه الثاني أمريكيًا كاثوليكيًا، بل سنرى رئيسًا مسلمًا أباً وأماً وأجداداً من أبناء الجيل الرابع من المسلمين الأمريكان، والسبب ببساطة: إن المغيبين الأمريكان تتفشى بينهم ظاهرة الزواج المثلي. وعلى حد علمي أن زواج رجل برجل أو امرأة بامرأة لن يمكنهما من الإنجاب والتكاثر وانتاج جيل من الأطفال الأمريكان، فهم بالتالي ينقرضون. أما المسلمون الأمريكان، فلا يُسمع بينهم عن زواج للمثليين بالرغم من أن بينهم الكثير جدًا من المثليين والمثليات.

    والأمريكان حتى المتزوجون منهم على سنة الله وكتابه المقدس، وهي زواج رجل واحد بامرأة واحدة، لأنه سبحانه وتعالى خلقهما منذ البدء ذكرًا وأنثى، ومازاد على ذلك فهو في عرفهم من الشيطان، هؤلاء لا يكثرون الأطفال، فواحد أو اثنين على الأكثر. أما الأحباء المسلمون في أمريكا، فهم ينكحون ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع وما ملكت أيمانهم من النساء الأمريكيات البيض والسود المتيمات بالرجال العرب، وينجبون مثنى وثلاث ورباع وتساع وعشار من زوجاتهم وعشاقهم وعابري السبيل عليهم. وقد سهلت لهم الحياة المادية في أمريكا إتمام هذه الوصية القرآنية كما سهلت لهم القوانين الأمريكية تلك المهمة، مهمة الإنجاب دون زواج شرعي موثق. فالقوانين الأمريكية لا تسأل المرأة عن اسم أب ابنها، أو من أين جاءت به، أو إن كان من أنجب منها هذا الطفل زوجها أم زائر فجر لم يرها إلا المرة الواحدة التى زرع بها بذرته التى أنجبت لها ابنها أو بنتها بعد تسعة أشهر. هذه التفاصيل الدقيقة لا تهم الأمريكان ولا تمثل بالنسبة لهم أية عوائق للإنجاب، المهم أن لا تتزوج المرأة زواجاً رسمياً برجلين في نفس الوقت وأن لا يكون هذا مدونًا في أوراق رسمية ثبوتية، فهذه جريمة يعاقب عليها القانون الأمريكي. أما أن تعاشر المرأة عشرة رجال في الليلة الواحدة وتنجب خمسين طفلاً من خمسين رجل مختلف في فترة حياتها، فهذا أمرًا طبيعيًا لا يثير غرابة الأمريكان، ولا يعاقب عليه القانون الأمريكي لا المرأة ولا الرجل، الأمر الذي فطن له بعض المسلمين في أمريكا واستخدموه في زيادة تعدادهم فيها، عملاً بوصية من كان يلقبه الرئيس المصرى السادات بـ”مجنون ليبيا” والذي أوصى بها في إحدى خطبه الرجال العرب قائلاً ما معناه: “ليش تروحون تدمرون أبراج في أمريكا وتقتلون الناس، اذهبوا تزوجوا من أمريكيات مسلمات وغير مسلمات وأنجبوا أطفالاً مسلمين وأولادكم ينجبون أطفالاً بدورهم وبعد خمسين سنة تقدروا تغيروا موازين القوى في أمريكا وتصبحون الأغلبية فيها”. وتحضرني قصة طريفة عجيبة حدثت لشابة مصرية مسيحية كانت حديثة العهد بالعيش في أمريكا والاحتكاك بالأنظمة الطبية بها. كانت هذه الشابة قد مات زوجها من مدة لا تزيد على سنة واحدة وبالتالي فلم تكن متزوجة. ذهبت صديقتي للمستشفى لعمل فحوصات طبية لمرض بعيد كل البعد عن جهاز إنجابها للأطفال. قرر الأطباء أنها تحتاج إلى عملية جراحية عاجلة. في طريق إعدادها لإجراء العملية الجراحية التى لا علاقة لها بالإنجاب من عدمه، طلبت منها الطبيبة المعالجة أن تجري اختبارًا طبيًا لتعرف إن كانت صديقتى حاملاً بطفل أم لا. ردت صديقتي بكل ثقة وهدوء: لا أنا مش حامل. سألتها الطبيبة: كيف عرفت أنك لست حاملاً؟ أجابت صديقتي: “لأنني لست متزوجة”. نظرت إليها الطبيبة بتعجب من إجابتها وقالت: ما علاقة أنك حامل من عدمه بأنك غير متزوجة؟ أجابتها صديقتي ببساطة: كيف سأصبح حاملاً إن كنت غير متزوجة. كانت الطبيبة تنظر إليها وكأن صديقتي إنسانة قد هبطت لتوها من الفضاء الخارجي، فلم تكن الطبيبة تعرف ما العلاقة بين الزواج والحمل، فالمرأة في نظر وعرف الطبيبة يمكن أن تصبح حاملاً وهي غير متزوجة، يكفي أن يكون لها صديق رجل بالغ والذي يُطلق عليه الأمريكان الـboy friend . أصرت صديقتي أنها لن تعمل اختبار الحمل، لأنها ليست متزوجة، ولأنها تعرف أنها ليست حاملاً، ولأنها لا تريد أن يدّون في الملف الطبي الخاص بها أنها أجرت تحليلًا طبيًا كهذا وهي غير متزوجة، وأصرت الطبيبة وإدارة المستشفى أنه إن لم ترضخ صديقتي لتعليماتهم، فلن تُجرى لها العملية الجراحية. مفاهيم مختلفة بين الحياة في أمريكا والشرق الأوسط لكنها دلالات على طريقة معيشةوفهم للأمور مختلف تماماً بين الاثنين.

    أليس من المضحك المبكي أن يظن المهاجرون إلى أمريكا، وخاصة من المسلمين، أنهم قادرون الآن في2016 على تغيير ميزان القوى في الانتخابات الأمريكية! ولهذا السبب حشدت كثير من البلاد الإسلامية إمكانياتها البشرية والمادية وراء المرشحة الديمقراطية كلينتون، ومنهم من دفع لها 20 مليون دولارلإعانتها في حملتها الانتخابية، هذا هو المعلن لكن ما خفي كان أعظم. وقد حشدوا المسلمين الأمريكان وراءها واستغلوا مساعدتها، السيدة “هوما عابدين” ممثلتهم في البيت الأبيض، للوصول إليها وإلى حياتها الخاصة وإقناعها بأن العالم الإسلامي وراءها. ولم يفلح كل هذا. فالأمريكي الأبيض هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة حتى الآن. ومن هذه النقطة نتعلم درسًا بسيطًا وهو أنه لا ينبغي لنا كعرب أن نعطي أنفسنا أكبر من حجمنا وأن نتخيل أمورًا، لا يمكن أن تحدث الآن وكأنها صارت، ونبدأ في التحرك والزج بأنفسنا فيما لا يحمد عقباه، فنخسر أموالنا وسمعتنا ومكانتنا ونصبح أضحوكة في أفواه الأمريكان، فرحم الله أمرءًا عرف قدر نفسه.

    الأمر الثالث الذي أدهش حتى الجمهوريون من فوز دونالد ترامب بالرئاسة هو إنعدام خبرته السياسية وتنقله بين الأحزاب، فهو لم يقض يوماً واحداً كاملاً بالبيت الأبيض من قبل ولا معرفة عنده بالمطبخ السياسي، الذي لا بد له أن يديره بكل حنكة لخدمة من صوتوا في صالحه وللتصدي لأعدائه الذين ما أكثرهم في الداخل والخارج، فهو لم يكن يومًا عضوًا بمجلس الشيوخ أو النواب، ولم يتقلد ليوم واحد أي منصب سياسي، ولولا أنه ملياردير لما سمع عنه أحد وما كان ليلفت أنظار إنسان، فكل خبرته تنصب على أنه رجل أعمال يعرف كيف يرسم وينفذ مشاريع مختلفة تجلب له الغنى الوفير، بعكس منافسته كلينتون والتي قضت أكثر من ثلاثين عاماً تعمل في ذلك المطبخ السياسي. فقد كانت سيدة أمريكا الأولى لمدة ثماني سنوات. وقد قيل إنها هي التى كانت تدير الأمور في أمريكا من خلف الستار وما كان زوجها سوى المنفذ لسياساتها. وفي وقت كانت أيضًا عضوة في الكونجرس الأمريكي عن ولاية نيويورك، ثم وزيرة للخارجية في عهد باراك أوباما. وقد زارت أكثر من ثلاثين دولة وتفاوضت مع قادتها في مدة عملها كوزيرة للخارجية. وهي صاحبة الملوك والرؤساء العرب ومنشأة نظرية الفوضى الخلاقة التى أدت بالعرب إلى ماهم عليه الآن من فوضى وصراع وحروب، والتى أطلقوا عليها الربيع العربي، مع أنه كان ولايزال وسيظل صيفًا محرقًا للأخضر واليابس بالوطن العربي كله.

    فكيف يستوى الذين يعرفون والذين لا يعرفون، وكيف يستوى السياسيون وغير السياسيين، وكيف ينجح من لا خبرة ولا دراية ولا تجربة سياسية له وتفشل من تمتلك كل هذه الأمور؟!! سبحان مغير الأحوال! أما الدرس الذي نتعلمه هنا هو أن المشاكل الاقتصادية والاحتياجات المادية للفرد هي الدافع الأول والأقوى على تغيير أي نظام، أو الإطاحة بأي رئيس، أو انتخاب أي شخص ليكون رئيسًا للبلاد، حتى ولو لم تكن له أية خبرة سياسية عملية، إذا ما اقتنع المواطن البسيط، رجل الشارع العادي، في أية دولة، كبرى كانت أم صغرى، إن الحل لمشكلته المادية تقبع في يدي هذا المرشح أم ذاك. قد تنفع الكلمات المعسولة والوعود البراقة والجدعنة العربية أي رئيس عربي أو غير عربي للسيطرة على مقاليد الحكم في البلاد لكنها لن تنفعه على الإطلاق، حين تصبح الجيوب خالية والبطون خاوية. فالجيوب الخالية والبطون الخاوية أشد فتكًا بالرؤساء من الجيوش المعادية. والأيدي الخاوية مما تقبض عليه من قوتها ومصرفها هي من تمسك بالطلقات الرصاصية القاتلة. فمن ترتفع في عهده من الرؤساء والملوك أسعار السلع الأساسية، التى يعتمد عليها المواطن المسكين الفقير في قتل جوعه وعطشه، مهما كانت أسباب رفعها منطقية، ومهما كانت شعبيته، لن يستمر طويلاً في منصبه، مهما تكن الوسيلة التي يقمع بها معارضيه ويكمم بها أفواه محبيه أو كارهيه. فكمامات الأفواه قد تصمد أمام نار الاضطهاد والتمييز الدينى والعرقي والظلم والقهر وخلافه، لكنها لن تصمد أمام قوة الجوع التى ستفتح هذه الأفواه، بالرغم عنها وعن أصحابها إن آجلاً أو عاجلاً. لقد زادت أسعار كل السلع المباعة في أمريكا منذ تولي باراك أوباما الحكم، وارتفعت نسبة البطالة وساكني الشوارع من لا مأوى لهم، وضاعت هيبة أمريكا في أنظار العالم كله. فهذه إيران تتحدى أمريكا وتستمر في انتاجها لليورانيوم المخصب من مفاعلاتها النووية، التى تقول إنها تستخدمها في أغراضها السلمية والتى يعلم ويعلن العالم أجمع أنها تبغي من خلالها انتاج الأسلحة النووية الفتاكة، فكافأهم أوباما بطائرة كاملة مليئة بملايين الدولارات الكاش. وهذا أسد سوريا مسنودًاعلى روسيا يتحدى أمريكا ويبقى على العرش لمدة أكثر من خمس سنوات، بالرغم من كل محاولات إقصائه عن الحكم. وهذه داعش، التي استنسختها الأنظمة الغربية والأمريكية من القاعدة والإخوان المسلمين، تتحدى العالم أجمع بما فيهم أمريكا. لذا كان الأمريكان على استعداد أن ينتخبوا من يعدهم بتقليل الضرائب، وتوفير فرص عمل جديدة لهم، وإيقاف سيل المهاجرين الذي يجرف أمامه كل ما تبنيه أمريكا للأمريكيين. أما الدرس المستفاد من هذه النقطة هو أن المرشح الذي هو على استعداد أن يجعل بلده أولاً ويملأ أفواه وبطون الغلابة والمساكين من شعبه ومواطني بلده ومصالحهم أولويته القصوى التى لا ينازعه فيها أحد، هو من يستحق أن يأخذ أصوات الناخبين، وهو من يستحق أن يظل على كرسيه إلى ما شاء القدير.

    الأمر الرابع الذي كان من المستبعد معه أن يفوز السيد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية لسنة2016، هو وقوف المرأة والشباب ضده ووقوفهم في صف كلينتون. فلقد نبشت كلينتون وأتباعها في قبور حياة ترامب من سنيين لتستخرج ماخفي من علاقاته الأنثوية وما عمله وقاله عن النساء وتعليقاته عليهن، حتى فيما كان يعمله أو يقوله في السر ومع أصدقائه الرجال داخل سيارته الخاصة، ونست أو تناسب أو حاولت تجاهل أو تخفيف ما جرى من زوجها الرئيس الأسبق، ليس في سيارته الخاصة بل داخل غرفات البيت الأبيض نفسه، الذي أأتمنه الناخب الأمريكى على دخوله والبقاء به لثمان سنوات، مع إقرار أن المرأة التى لا تملأ عين زوجها ولا تستطيع أن تحكم تصرفاته الجنسية لا تصلح بأن تحكم بيتها، فكم وكم إذا أرادت أن تحكم أعظم بلاد العالم أي الولايات المتحدة الأمريكية! أما الشباب، فقد صورت لهم أنها المدافعة عن حقوقهم، والتى ستمكنهم من الدراسة والتفوق والتخرج دون ديون مادية تحني ظهورهم لسنوات عديدة يرزحون تحتها إلى أن يقوموا بتسديدها، وأنها ستصلح لهم مستوى المباني المدرسية المتهالكة وستقوم بتجديد معداتها وأثاثاتها. ليس ذلك فقط بل هي من ستعطيهم الحرية أن يختاروا أية دورة للمياه في المدارس، فسيصبح من حق الولد إذا كان يشعر في نفسه أنه بنت أن يدخل إلى دورات مياه البنات، ومن حق البنت التى تشعر أنها ولد أن تقضى حاجاتها في دورات المياه الخاصة بالرجال، ووعدتهم أنها ستمكنهم من أن يمارسوا الجنس في مدارسهم الإعدادية والثانوية وستوفر لهم الواقي الذكري أو الأنثوي الذي سيحفظهم من وقوع المحظور والحمل بسفاح، وإن حدث وتم الحمل، فسوف تساعدهم على الإجهاض وكتمان الأمر عن الجميع والتخلص من ثمرة خطيئتهم، مصورة لهم أن هذه هي الحرية الأمريكية التى لا بد أن تتمتع بها الفتاة أو المرأة الأمريكية، فهي تمتلك جسدها وهي حرة وصاحبة القرار أن تحمل طفل خطيئة من عدمه، وهي حرة أن تختار بين أن تبقيه على قيد الحياة أو تقتله، مهما كانت أسابيع حياته في رحمها، وعلينا نحن كأمريكان الذين نعمل بعرق وجوهنا حتى نأكل خبزاً، أن ندفع الضرائب التى لابد أن ينفق بعضها على هؤلاء الساقطات، حتى يتخلصن من تبعات جرائمهن بحملهن واختيارهن أن يقتلن ثمرة بطونهن، الأمر الذي تراه النسبة العظمى من النساء الأمريكيات، أنه من حقهن وهو حق أصيل لهن غير قابل للمناقشة أو التعديل. وقد غذت هيلاري في الفتيات والسيدات الأمريكانيات الكراهية ضد ترامب الذي صرح أنه ضد الإجهاض لغير أسباب صحية، وضد القتل العمد للأطفال للتخلص من تبعات الحمل والولادة للأم الصغيرة الراغبة في التخلص مما اقترفت من ذنب ومعصية. ولعل أهم الدروس التى نتعلمها من هذا الأمر أن العلي متسلط في مملكة الناس، وأن كل من يحاول أن يقاوم شرعه سبحانه ويغير من سننه في خليقته، لا بد أن يفشل في كل ما يعمل ولا يوليه القدير على خلائقه إلا وفقًا لحكمته وخطته وتوقيتاته تعالى التى لا يسبر الإنسان غورها.

    الأمر الخامس الذي كنا نظن أنه من المستحيل معه أن يفوز ترامب بالرئاسة الأمريكية لهذه الدورة، هي وقوف معظم المكسيكان والمتحدثين باللغة الأسبانية في الولايات المتحدة الأمريكية وكل المسلمين العرب في داخل أمريكا وخارجها ضده لإعلانه منذ اليوم الأول لبداية حملته الانتخابية وقوله إنه سيبنى سور على الحدود المكسيكية الأمريكية، وسيمنع الهجرة غير الشرعية للمكسيكان والمسلمين إلى أمريكا. وقد صورته كلينتون على أنه عدو المكسيكان والعرب والمسلمين، والرجل الذي سيضعهم في سلة واحدة ويلقي بهم على الحدود الأمريكية المكسيكية من الجهة الواقعة في المكسيك وسيبني سور ليمنعهم من العودة، ومن يقترب من السور سيقبض عليه من خلال حرس حدوده ويضعه في السجن الداخلي، حتى يلقي به مرة أخرى في المكسيك. وبحسب مركز (بيو)، الأمريكي لاستطلاعات الرأى، فإن الناطقين بالإسبانية يمثلون، اليوم، أكبر أقلية فى الولايات المتحدة، حيث يبلغ عددهم 53 مليوناً، بزيادة نحو 50% خلال 10 سنوات فقط، كما أن عددهم فى الولايات المتحدة يعد أكثر من أى بلد أمريكى لاتينى، باستثناء المكسيك.

    أما الدرس المستفاد من هذه الجزئية، هو أن المواقف الواضحة والمؤكدة والصريحة للمرشح دائماً ما تأتي بثمرها، وأن الاهتمام بشئون المواطن الشخصية في بلده لديها الأولوية في تفكيره، حتى لو كانت متعارضه مع المصالح الإقليمية والدولية لهذا البلد أو ذاك.

    الأمر السادس، هو إعلانه عن تغيير كثير من الاتفاقات والمعاهدات والخطط الداخلية والخارجية وما يعتبره الديمقراطيون الأمريكيون، وعلى رأسهم أوباما، من أعظم إنجازاتهم كالتأمين الصحي، المعروف بـ”أوباما كير”. وعلى صعيد الاتفاقات الدولية، تعديل الاتفاقات التجارية مع الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، واتفاقية التجارة بين أمريكا والمكسيك وبعض الدول الأخرى المعروفة بالنافثا، ومسألة فرض ضرائب على الشركات الأمريكية العاملة بالدول المختلفة خارج أمريكا للاستفادة من الأيدي العاملة الرخيصة في أنحاء العالم، وغيرها وغيرها الكثير. ويمثل هذا تحديًا كبيرًا لقطاعات عريضة من المستثمرين الأمريكان خارج أمريكا والمصدرين لها من كافة الدول في العالم. باختصار لقد هز ترامب المركب العالمية هزًا عنيفاً ضد رغبة الجميع. فكيف لمثل هذا المرشح أن يفوز على أي شخص آخر يمكن أن يزاحمه في هذه الانتخابات! أما الدرس المستفاد من هذه النقطة هو أن من يضع من الملوك والرؤساء مصلحة شعبه أولاً ويطلب لهم الرخاء دون تمييز أو عنصرية ويتحدى العالم كله لتنفيذ خططه ورفع مستوى مواطنيه، لا بد أن يكون من الرابحين. أما من لا يهمه سوى الوصول للكرسى، والبقاء فيه أطول مدة ممكنة، والتمتع بخيرات بلاده والاستيلاء عليها بطريقة أو أخرى، فلا بد أن يُطرد شر طردة ولا يعود يعرفه موضعه بعد.

    أما السبب السابع الذي يدعونا للتعجب من فوز السيد ترامب بالرئاسة الأمريكية، هو موقف المخابرات الفيدرالية الأمريكية منه ومن منافسته على السواء. فقد صارع رجال الـ “أف بي آي” صراعًا مريرًا، حتى يخفوا حقيقة مسح كلينتون للإيميلات الأمريكية الرسمية السرية التي كانت تتداولها مع كثير من رؤساء وملوك دول العالم والعديد من ممولي مؤسستها، التى كان من المفروض أن تكون مؤسسة اجتماعية غير ذاتية المنفعة. مسحت كلينتون تلك الإيميلات التى كان من المفروض أن تستخدم معها نظامًا اتصاليًا وتخزينيًا آمنًا وخاصًا بالمراسلات الرسمية الحكومية المتعلق بعملها كوزيرة للخارجية الأمريكية أي “Private Server “، لكنها ضربت بالقوانين الأمريكية عرض الحائط واستخدمت الكمبيوتر أو السرفر الخاص بها في الاتصالات وإرسال واستقبال الإيميلات، مما سهل على قراصنة الإنترنت أن يحصلوا على نسخة من هذه الإيميلات، بما فيها من معلومات حساسة تتعلق بوظيفتها كوزيرة للخارجية. لقد مسحت السيدة كلينتون ومعاونيها ما يقرب من ستين ألف إيميل، والمولى وحده يعلم حتى الآن ما بهذه الإيميلات من أسرار وصفقات ومنفعة لها ولمؤسستها الخيرية التى تلقت من خلالها أموالًا طائلة من كثير من الدول والزعماء، وخاصة ملوك الخليج وعلى رأسهم العربية السعودية وقطر. وكانت كلما حاولت سحب إحدى رجليها من وحل طين ما فعلت في هذه القضية بالذات، كلما غاصت بالرجل الثانية، فعاودت كذبها، فتارة تقول أنها لم تكن تعلم أن هذا السيرفر الخاص بها ليس قانونيًاأن تستخدمه في إرسال وتلقي الإيميلات الخاصة بأسرارأمريكا كوزيرة للخارجية، ومرة أخرى تقول أنها لا تعرف كيف تستخدم هذا السيرفر ولذا فقدت الإيميلات، ومرة ثالثة تدعيأن الإيميلات قد مُسحت تمامًا وليس هناك إمكانية لاسترجاعها، ثم يتضح أن هناك نسخة من الإيميلات الممسوحة لدى ما يعرف بـ”وكي ليك”، وأن هناك نسخة أخرى على كمبيوتر زوج مساعدتها المسلمة “هوما عابدين”، التى كانت تقول عنها إنها ابنتها الثانية. فالسيدة “هوما عابدين” هذه هي من كانت حلقة الوصل بين الملوك والرؤساء المسلمين، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، وبين البيت الأبيض الأمريكي. أما الدرس المستفاد من هذه النقطة، هو أن إخفاء الحقائق عن الشعوب، وبيع الكلام المعسول لهم، وعدم مصارحتهم بحقيقة ما يحيط بهم، ومسح الإيميلات والأدلة على قضية ما لن يمحوها، والتستر على المعاملات غير الإنسانية ضد الأقلية العرقية أو الدينية والتعامي عنها، لن يحل مشاكل البلاد والعباد، ويوماً ما ستُكتشف الحقائق وسيلحق الخزي والعار بكل من أخفى جريمة أو صفقة أو مظلمة، فما يتكلم به الرؤساء في مكاتبهم وغرفاتهم السرية ومخادعهم قد ينادى به من فوق السطوح، فلقد قال سيدى المسيح قولته الشهيرة: “فليس مكتوم لن يستعلن ولا خفي لن يعرف” “لذلك كل ما قلتموه في الظلمة يُسمع في النور وما كلمتم به الأذن في المخادع يُنادى به على السطوح”، وسيكون الإخفاء في حد ذاته سببًا من أسباب السقوط لفاعله. وأن ما لن يُكشف في الأرض، سيُكشف أمام علام الغيوب، يوم لا ينفع مال ولا بنون، القدير من له عينان تخترقان أستار الظلام، ولا يمكن أن يختفي من وجهه تعالى شيء أو أحد. إن واحدًا من أسباب فشل كلينتون في الانتخابات الأمريكية أنها لم تضع في حسبانها احتمال لفوز ترامب، ووثقت في نفسها وفي منتخبيها ثقة عمياء، واتكلت على حسابات مغلوطة أدت بها إلى ما وصلت إليه. لقد استخفت السيدة كلينتون بعقلية الأمريكان واتكلت على مشاعر الشباب والنساء، والاتكال على المشاعر والكلام المعسول والمتحمسين من صغار السن أو الخبرة أو العقل لا بد أن يؤدي بصاحبه إن آجلاً أم عاجلاً إلى الفشل الذريع.

    لقد كان من أسباب نجاح ترامب وخسارة السيدة كلينتون وفشلها الذريع وضياع أموالها وصحتها وسمعتها وسمعة عائلتها في هذه الانتخابات، أنها استخدمت دعاية الكراهية والتخويف والترهيب التى ثبت أنها لا تنفع ولا يمكن أن تنفع مع الشعوب المتقدمة والواعية عامة، كما لم تنفع في مصر في مرات كثيرة إلا عندما سلم الطنطاوي، رئيس المجلس العسكري الذي أأتمنه مبارك على عرش مصر قبل خلعه الإخوان المسلمين حكمها، والذي أخاف المصريين من الإخوان وتهديداتهم التى أطلقوها بأنهم سيجعلون الدم في الشوارع للركب إن هم خسروا الرئاسة، لكنها لا يمكن أن تنفع مع الشعب الأمريكي خاصة. فلقد دارت سياسة كلينتون حول تخويف الأمريكان المسلمين من ترامب الذي لن يسمح لهم بدخول أمريكا في حالة انتخابه، بالرغم من أنه لم يصرح بذلك بل قال إن على أمريكا أن تعرف من يأتي إليها وأن تبحث جيدًا في تاريخ ومعلومات القادمين إليها قبل السماح لهم بالدخول إلى أراضيها، وقد أخافت المتحدثين باللغة الأسبانية، سواء أولئك القادمون من دول أمريكا الجنوبية أو الساكنين في المكسيك الدولة المجاورة لأمريكا، أخافتهم من ترامب عندما أعلن أنه سيبني سورًا بين أمريكا والمكسيك ليمنع تدفق شلالات المتسللين من المكسيكان ومن هم في المكسيك إلى أمريكا، وحاولت أن تحشدهم ضده مستخدمة أمر بناء السور. حاولت زرع الخوف في قلوب النساء من ترامب مصورة إياه أنه زير للنساء وهو من لا يحترمهن ولن يكن آمنات على أولادهن وبيوتهن وأشغالهن إن هن أعطينه أصواتهن. حاولت  زرع الخوف في أنفس كثير من مؤيديها، حتى أعلن الكثير منهم أنه إن تم انتخاب ترامب، فسيتركون أمريكا ويهاجرون إلى كندا. وكأمريكان جمهوريين، فنحن الآن في انتظار أن نرى كم منهم سيُنفذ ما قاله ويرحل إلى كندا بعد فوز ترامب.

    لقد زرعت كلينتون الخوف في قلوب الأمريكان من سياسات ترامب المعادية لإيران والصديقة لروسيا. فقد حصلت إيران في عهد أوباما ووزيرة خارجيته كلينتون من المميزات والعطايا والتنازلات ما لم تحصل عليه منذ قيام ثورتها الإسلامية على يد الخوميني -كما ذكرت سابقاً. وقد حاولت كلينتون نسيان، وعملت جادة على أن ينسى الأمريكان الحقيقة المعاصرة وهي أن روسيا لم تعد مهددة لأمريكا بأي شكل من الأشكال، إن كانت أمريكا مستعدة لاحترام نفسها ومكانتها بين الشعوب. وقد تأكد هذا للأمريكان بعد أن فردت روسيا عضلاتها وأكدت للأمريكان أنها بقادرة على الوقوف في وجهها ضد مخططاتها في الشرق الأوسط، وخاصة في سوريا في مساندتها للرئيس بشار الأسد، مع علمي الكامل أن ما يحدث، سواء في سوريا أو السعودية أو اليمن أو ما حدث ويحدث في العراق وكردستان أو داعش أو غيرها من بلادنا العربية، ما هو إلا نتاج خطة أمريكية روسية مُحْكَمة التفاصيل ومحددة المعالم والأدوار، يمثل كل منهما فيها دوره بدقة، ويضطر البعض من الحكام والشعوب العربية قبولها، لأنها تتفق تماماً مع مصالحهم وأغراضهم، ويضطر البعض الآخر بالتظاهر بأنه لا فكرة عنده عن هذه الخطة، لكنهم يشتركون فيها ويكتوون بنارها، فيبكون ويَقْتلون ويُقْتَلون في تمثيلية دولية لا تعود على العرب إلا بالخراب والدمار، وعاش الشتاء العربي.

    أقول أخيراً: إن من الدروس الهامة التى لا بد من تعلمها، هو أن الانتخابات المبنية على الغش والخداع والكذب لا يمكن أن تربح، وإن ربحت فإلى حين. لقد سربت لكلينتون إحدى مساعداتها الأسئلة التى كان من المزمع أن توجه إلى كل منها في المناظرة الثانية، وقبل لقائها الثنائي بينها وبين السيد ترامب لكي ما تكون كلينتون مستعدة بالإجابة مسبقًا عليها، كالتلميذ الخايب الغشاش، الأمر الذي لم يحصل عليه ترامب قبل المناظرة. فلماذا يتم تسريب الأسئلة لها إن كانت تتكلم من القلب بحقائق لا غش فيها ولا محاولة للتجميل وإخفاء بعضها والتركيز على البعض الآخر؟! فتسريب الأسئلة لا يكون إلا للتلميذ الخايب غير المستعد للامتحان، أو من يغير إجابته وفقاً للأزمنة والأوقات. لقد ذكرني هذا الفعل بتسريب أسئلة الثانوية العامة في بلادنا المصرية العريقة، مع الفارق بين الاثنين، فتسريب الأسئلة في امتحانات الثانوية أو سرقتها وبيعها للطلبة، أو سرقة أوراق إجابة الطلبة المسيحيين لا يفقد فيه رئيس أو وزير أو غفير وظيفته أو مكانه أو مكانته، حتى إذا كان هو المسئول عن غرفة الكنترول، والتى تم فيها السرقة لصالح ابنه الذي كان من بين الطلبة الممتحنين في ذلك الوقت. أما في أمريكا فمثل هذا الفعل أو شبهة حدوث هذا الفعل يكون آخر مسمار يدق في نعش المرشح، الذي لابد أن يكون بأمر الديان العادل سبحانه من الخاسرين للانتخابات الرئاسية الأمريكية.

    اللهم اهد ترامب إلى مافيه خير أمريكا والأمريكان. اللهم أعطنا أن نتعلم من أخطائنا ونعترف بمعاصينا وتعدياتنا. اللهم امنحنا سلامك واحفظنا في مخافتك يا ملجأنا وملاذنا. اللهم ملك علينا حكماءنا وابعد عنا سفهاءنا واحمنا من أعدائنا، فأنت إلهنا وربنا.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا