جعلوني ملحداً!

2

العدد 181 الصادر في أكتوبر 2020

 جعلوني ملحداً!

   بينما كنت أتفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وأردد في قلبي المزمور الثامن: “أيها الرب سيدنا، ما أمجد اسمك في كل الأرض! حيث جعلت جلالك فوق السماوات. من أفواه الأطفال والرضع أسست حمدًا بسبب أضدادك لتسكيت عدو ومنتقم، إذا أرى سمواتك عمل أصابعك، القمر والنجوم التي كونتها، فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن ادم حتى تفتقده. تسلطه على أعمال يديك. جعلت كل شيء تحت قدميه. الغنم والبقر جميعًا، وبهائم البر أيضًا. وطيور السماء وسمك البحر السالك في سبل المياه . أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض”. تبادر الى ذهني سؤال منطقي، كيف يمكن لأي من ذي عينين يرى بهما خليقة الله تبارك اسمه وأعمال يديه سبحانه القمر والنجوم التى كونها جلاله، وكيف لمن له عقل يستخدمه في التفكير وله عواطف وإرادة يمكن أن ينكر وجود الخالق، وهو في نفس الوقت يتمتع بأعمال يديه تبارك اسمه، يرى القمر ويدفأ بالشمس، يرى نفسه كإنسان صوره المولى في أحسن تقويم، ويجاهر أو حتى يخفي في نفسه أنه ملحد، وأن لا إله له يعبده ويلجأ إليه، فيؤنس وحدته ويقوده في دروب الحياة المتشعبة والمتقاطعة والمتضادة أحياناً كثيرة، كيف يسير رحال في دروب الحياة بلا بوصلة تهديه إلى سواء السبيل!، وكيف يملأ فراغ قلبه الذي لا يستطيع أن يملئه، حسب إيماني، إلا الله وحده خالق هذا القلب!، وكيف يجاهر الملحد، أو حتى يخفي لسبب أو لآخر في نفسه، أن لا دين له يحفظه في طريق الحق، ويضمن له النعيم الأبدي، فيؤمن أن لا إله، ولا دين، ولا آخرة ولا نعيم أو جحيم ينتظره بعد موته!، بل ومن الملحدين من تحدى المولى – تبارك اسمه – القادر على كل شيء، تحداه أن يثبت أنه موجود، لو كان حقًا موجودًا، وأن يؤكد وجوده بأن يصعقه بتيار كهربائي، أو يقبض روحه في الحال وهو واقف في وسط أصحابه يتفاخر بأن الله غير موجود، وعندما لم تنزل الصاعقة من السماء أو تؤخذ نفسه منه في الحال، كما طلب في تحديه لله سبحانه، استخدم هذا في تأكيد نظريته أن لا إله في السموات يسمعه أو يقبل تحديه، وإن كان موجودًا، فهو لا يسمع ولا يتصل ولا يتدخل في حياة البشر، ولسان حال الملحد هو أنه “على فرض أن ما تقولون عن الله بأنه موجود، فهو لا يلزمني ولست بحاجة إليه في كل الأحوال، فأنا إله نفسي”.

  والغريب إنه مع كل هذا يبقى القدير وكأنه غريب في الأرض وكمسافر يميل ليبيت أو جبار لا يستطيع أن يخلّص أو ينازل أحد خلائقه سبحانه، فيزداد الملحد في عناده وكبريائه وبُعده عن فكرة وجود إله يحكم هذا الكون.

   والأمر المحير هو أن أغلب الملحدين، على اختلاف أديانهم، هم شخصيات مرموقة في المجتمع، وهم المثقفون، المتعلمون، محبو القراءة والبحث والتأمل، المؤثرون في مجتمعاتهم وأغلبهم شخصيات قيادية تتحلى بملكات وإمكانيات لم تتوفر لغيرهم. والغالبية العظمى منهم من أساتذة العلم في أشهر الجامعات في العالم كله، وهم من كانوا ينتمون إلى عائلات متدينة من اليهود والمسيحيين والمسلمين، كالمسلمة الأصل “أيان هيرسي علي” Ayaan Hirsi Ali ، والتي انتخبت في وقت ما لتكون عضو البرلمان الهولندي.

   وأيضاً الأستاذ الجامعي الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء ستيڤين وينبرج Steven Weinberg الذي قال إن الدين هو إهانة للجنس البشري.

   وعالم الرياضيات الشهير “ستيڤن هوكنز” Steven Hawking ، الكاتب الروائي اليهودي الأصل. و”فيليب روث” بل والأكثر من ذلك منهم من كانوا قسوسًا وخدامًا للإنجيل من مذهب الرسوليين AnthonyPinnوالخمسينيين والمشيخيين من أمثال أستاذ الدراسات الدينية بجامعة رايس.

   ولذا وبعد دراسة شخصيات مثل هؤلاء الملحدين وغيرهم قررت أن أقود وأخوض في مشوار بحث طويل حول الأسباب التى يمكن أن تجعل الإنسان ملحدًا. وخاصة أولئك الذين ولدوا وتربوا في مصر وبعضهم ولد في عائلات مسيحية بل والأكثر من ذلك منهم من كانوا أبناء قسوس وخدام مشهود لهم من جميع من حولهم بالإيمان الثابت غير المتزعزع في المسيح فادي البشر أجمعين ومؤسس كنيسته والواعد بأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها، فكيف استطاعت قوات الجحيم أن تختطف أولادهم وتحولهم من شباب كان من المفروض أنهم يسيرون على دروب آبائهم إن كانوا حقًا مخلصين في إيمانهم، أو قل على درب المسيح بغض النظر عن ما كان عليه آباؤهم وأمهاتهم من أوضاع، يوم أن كانوا يخدمون المسيح في مصر والبلاد العربية!

   في حديثي مع مجموعة منهم، الحديث الذي سأشاركك – عزيزي القارئ – بما يتيسر منه دون الإشارة لأشخاص بالذات.

   قابلت أحدهم وقلت له إن حديثى معك اليوم لا يحمل شيئًا من الإدانة لشخصك أو لمعتقداتك أو ما تؤمن به عن الله وليس من منطلق أنني أفضل منك في أي مجال من مجالات الحياة لأنني أؤمن بوجود الله، ولن أتحاور معك فيما تؤمن أو أحاول أن أقنعك بوجهة نظري أو إيماني بشيء ما، فهذا ليس مقصدي من اللقاء معك والحديث إليك، فلقائي معك هو من منطلق بحثى عن الأسباب التي تجعل شخصًا ما مؤمنًا بوجود الله، أو ملحدًا لا يؤمن حتى بفكرة وجوده سبحانه، لذا فسؤالي: كيف انتهى بك الأمر إلى ما أنت عليه من إلحاد وإنكار لوجود الله وقد كنت في القديم، حسبما رأيتك يومًا من الأيام، عضوًا عاملاً في ملكوت ذاك الذي تنكر وجوده الآن؟!، أجابني: ولدت كما تعلم في عائلة مسيحية بسيطة، كان أبي خادمًا لما تسمونه أنتم إنجيل المسيح، عندما كنت في الثانية عشرة من عمري فهمت من أبي الخادم أنني لست مثل باقي الأولاد الذين في مثل عمري، عندها سألته، ما الفرق بيني وبين بقية الأولاد، قال أنت ابن خادم للمسيح، قلت وهل هذا يجعلني أقل أم أفضل منهم، قال والدي الأمر ليس أقل أو أفضل، لكن الأمر هو كيف يستقبل المؤمنون وأعضاء الكنيسة تصرفاتك وحركاتك في كل المجالات، قلت لا أفهم، قال إن خطأك في أمر ما كابن خادم، وخاصة إذا أخطأت على مرأى ومسمع من أعضاء الكنيسة، فسيكون ذلك سببًا ليس في إدانتك أنت فقط، بل وأنا أيضًا، قلت وما دخلك أنت بخطئي، قال أنت ابن الخادم والناس جميعًا يضعون الخادم وعائلته وأبناءه تحت مجهر خاص يُمَكّنهم من رؤية أي خطأ في حياتهم، حتى لو لم يكن ظاهرًا للعين المجردة. قلت هذه مشكلة الناس يا أبي التى يحتاجون أن يتخلصوا منها وليست مشكلتي أو مشكلتك أنت، قال لا، هذه مشكلة كبرى بالنسبة لنا ولهم ولا يمكنني أن أشرح لك كل تفاصيلها اليوم لأنك لن تستوعبها “لأنك لست تعلم الآن ولكنك ستفهم فيما بعد”.

   لم أفهم يومها ما معنى العبارة، سألت نفسي يومها أي “بَعْد” هذا الذي يتكلم عنه أبي، ومتى سيأتي هذا “البَعْد”، في البداية ظننتها جملة من اختراع أبي القسيس لكي ينهي حديثه معي دون أن يشرح لي أو يعرفني لماذا يتدخل الناس في حياتنا ويراقبونني ويتتبعون خطواتي التى كانت صغيرة يومها، إلى أن كبرت وعرفت أن هذه العبارة “لكنك ستفهم فيما بعد” قالها المسيح لتلميذه بطرس ربما لكي يتخلص من أسئلته وحواراته الكثيرة، والتى كان لديه كل الحق لسؤال سيده عنها، لكن المعلم، كما تلقبونه أنتم المسيحيون، لم يكن على استعداد أن يشرح له أمر غسل رجليه واكتفى بعبارة”لكنك ستفهم فيما بعد”. العبارة التى اكتشفت أن معظمكم أيها المؤمنون المغيبون تستخدمونها كالبغبغاوات أو الشماعات لتستريح ضمائركم ولتقبلوا أو تتعايشوا مع أمركم الواقع ومع المصائب والمتاعب والمشاكل التى تواجهكم في أغلب الأمور التى لا يمكنهم معرفة منشأها أو تستطيعون فهمها أو تحليلها أو الاقتناع بها.

   كان صديقي يدلي بحديثه لي وقد بدت عليه علامات الغيظ والحقد والاكتئاب ممن يؤمنون بوجود من يسمونه الله على حد تعبيره، كنت محصورًا بين أمرين كلاهما مر، أولهما إنني وعدته أن هدف لقائي به هو فقط لأعرف طريقة تفكيره وبأنني لن أحاول أن أصحح أفكاره في حالة اختلافي معه حولها، مع علمي التام بأنني إذا بدأت في تصحيح أفكاره وفقًا لما أؤمن أنا به سأفتح بيننا بابًا للنقاش لن يسد ولن يغير من عقله أو قناعاته شيئًا، حيث أن التغيير الحقيقي لن يأتي، حسب ما أؤمن به أنا، إلا من الروح القدس لشخص يطلب بتواضع أن يعلمه الروح القدس ويشرح له ما خفي عنه من حقائق. فينبغي أن الذي يأتي إلى الله (إنه أولاً) يؤمن بأنه موجود – تبارك اسمه – وأنه يجازي الذين يسألونه” وصديقي لا يؤمن بوجوده من الأصل.

   الأمر الثاني الذي زاد من توتري وحيرتي فيما يتعلق بما أسمع من صديقي هو أن صديقي يتكلم عن أمور كتابية كثيرة بطريقة غير صحيحة وأنه يقتطع مقتطفات من آيات كتابية من سياقها ويستشهد بها، بل قل يستهزأ بها، وأنا لا أستطيع أن أدافع عن الحق الكتابي كما أفهمه. وكنت على علم أنه إذا بدأت أنا بالدفاع عن الحقائق الكتابية أن صديقي سينهي حديثه لي ولن أحصل على غايتي في دراسة حالته وحالة أمثاله ممن لسان حال كل منهم “جعلوني ملحداً!”.

   اكتفيت بابتسامة لها مغزى واضح وعميق، فهمها صديقي جيدًا، وقد وصلت رسالتى إلى صديقي بأن لديّ الكثير أن أقوله لك وأختلف معك في تفسيره لكني لن أفعل كما وعدتك، فأكمل حديثك ولن أقاطعك. قلت لصديقي أكمل يا صديقي، ماذا حدث بعدها مع والدك القسيس، قال: كصغير السن يومئذ لم أفهم كثيرًا من أين جاءت فكرة أن ابن الخادم ينبغي أن يحيا حياة تختلف عن كل الأطفال الذين في مثل عمره، لذا فقد عشت من يومها إلى أن تحررت من فكرة وجود هذا الإله الذي لا يدافع أو يحامي عن خدامه وأسرهم ولا يتدخل ليقف في جانب ابن الخادم المظلوم والمحسوب عليه كل تصرفاته، عشت في عذاب بين قوة تشدني لأحيا حياتي وعمري وأيامي، وأجرب الصواب والخطأ، أنجح وأفشل كباقي الشباب، وبين شكلي وصورتي كابن خادم وحرصي على صورتي وصورة أبي قدام الناس، كنت أشعر أنني ممثل كبير في ملهاة صاخبة اسمها الحياة الدنيا، في بعض الأحيان يحالفني الحظ في لعب دور المؤدب العاقل الرزين القديس الذي لا يعرف خطية وليس في فمه غش، وأحيانًا أخرى كنت أفشل في لعب هذا الدور، فينفضح الأمر، وأظهر على حقيقتي، ويصبح ظاهرًا للجميع أنني لست حقيقيًا بل ممثلاً، ولست أنا بممثل فحسب، بل أنا ممثل فاشل أيضًا وكذاب ومنافق وغشاش ومخادع لنفسي ولمن حولي. وفي كل مرة فشلت فيها وبانت حقيقتي سمعت من حولي يستخدمون آياتهم من كتابهم الذي يظنون أنه منزه عن الخطأ، ويطلقونها كالرصاصات على رأسنا وأذاننا أنا وأبي قائلين إن القسيس ينبغي أن يعرف كيف “يدبر بيته حسنًا، وإن يكون له أولاد في الخضوع بكل وقار. وإنما إن كان أحد لا يعرف أن يدبر بيته، فكيف يعتني بكنيسة الله؟”. وعندما كبرت وتمردت على هذا الوضع بدأ من حولي يغيرون من نوعية رصاصاتهم وقوة قذفها على رأسي ورأس أبي فأصبحت “إعزلوا الخبيث من بينكم”. الآيات التى لم تكتب في الكتاب للإنتقام من شاب مثلى.

   قلت وماذا بعد، قال لقد لاحظت في أوقات كثيرة أن أبي أيضًا يلعب هذا الدور لأسباب قد تتفق أو تختلف تمامًا عن أسبابي. فقد أصبح يقول ويعمل ما يطلبه المستمعون منه، يطلبون منه أن يكلمهم بالناعمات، فيكلمهم بالناعمات حتى أصبح أعضاء كنيسته من ذلك النوع المستحكة مسامعهم، وأخذ أبي يسمي الأمور بغير مسمياتها، والتنازل عن الكثير مما كان يعلمنا أنها ثوابت كتابية لا مجال للتنازل عنها أو المساومة حولها، فإرضاء الناس على حساب الحق أصبح بالنسبة له حكمة في الرعاية، وحبًا وخوفًا على النفوس، وإغراء أعضاء كنائس كثيرة لترك كنائسهم والانضمام إلى كنيسته واعتمادهم أعضاء في كنيسته وانتخابهم كشيوخ وشمامسة ومسؤولين على الأنشطة المختلفة بها، كل هذا أصبح بركة الرب التى تغني ولا يزيد معها تعبًا، باختصار كانت هناك رابطة روحية رفيعة عالية المستوى بين أبي وبيني، فكلما ازداد عدد حضور كنيسته وكلما تمادى في حالة التغييب التي عاش فيها كلما بعدت أنا بروحي ثم بجسدي عنه وعن كنيسته وعن كتابه المقدس وتعاليمه وآياته التى سئمت سماعها منه ومن أعضائه ولم أر يومًا تنفيذًا لها.

   فهم يتكلمون جميعهم عن محبة الأعداء مرددين: “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم”. أما جُلهم فيكرهون أصدقاءهم، ويلعنون مباركيهم، ولا يحسنون إلى محبيهم ولا يصلون لمن يحسنون إليهم بل يطردونهم.

   فالكنائس امتلأت بمن دعوا أنفسهم للخدمة أو دعاهم الناس أو دعتهم الحاجة ليصبحوا قسيسين ورهبانًا وهم يستكبرون، وامتلأت من المظاهر والكبرياء والغش والتفاخر بين مرتاديها، وأصبح لمعظم روادها صورة التقوى وهم منكرون قوتها، وتشابك قسوسها وخدامها ومرنموها حول طاولة الاختلافات الشخصية والعقائدية الطقسية، فطفت أبحث عن من يسمونه رئيس السلام بين صفوفهم، فلم أجد سوى رئيس الخصام والحروب والصراعات، جلت أبحث عن طريق للنجاة من أفكاري ومن نفسي فوجدتني وسط جماعات مختلفة الأفكار والقناعات، فهذه الكنيسة الأم صاحبة التراث القديم والتى حافظت على الإيمان القويم وهي تؤمن أنها الكنيسة التى أسسها الرسل وأن ما تفعله وتعلّم به اليوم هو نفس ما كان الرسل يفعلونه ويعلمونه منذ أيام بطرس ومرقس وتوما رسل المسيح. وتلك الكنيسة المصلحة التى قامت بإصلاح التعاليم المسيحية الفاسدة التى انتهت إليها الكنائس التقليدية على اختلاف طوائفها، وهكذا بدأوا يتهمون بعضهم البعض بالذئاب الخاطفة، ويؤكد كل منهم على أن كل من لا يتبع تعاليمهم المتضاربة مصيره البحيرة المتقدة بالنار والكبريت، وأن من يتزوج أو يعتمد أو يأخذ جسد الرب ودمه في غير كنائسهم، فقد أصبح من الضالين من لن تقبل توبته إلى يوم الدين.

   نظر إليّ صديقي بوجه غاضب وصرخ في وجهي، ارجع أنت إلى صوابك، واستخدم عقلك الذي أعطته لك أمك، وكفى سيراً كالأعمى وراء قادة عميان كل ما في يدهم هو سيف الله الملتهب الذي ينتظركم في الآخرة إن لم تحيوا في الأرض كقطيع الأغنام وراءهم بلا حول أو قوة لكم، يطالبونكم بممارسة طقوس الله التى لم ينص كتابكم المقدس إلا على واحدة منها فقط وهي ما فرض عليكم ممارسته والتى يطلقون عليها العشاء الرباني، وحتى في هذه الفريضة الواحدة المدونة بكل وضوح في كتابكم لم تتفقوا فيما بينكم يا أتباع المسيح على أي تفاصيلها، فبعضكم يرى أن قربان فريضتكم الذي قمتم بعجنه في معاجنكم، ووضعتموه في أفرانكم ذاك الذي أسميتموه الحمل كما سُمي مسيحكم نفسه بحمل الله الذي يرفع خطية العالم، والذي صدق الغالبية العظمى منكم على اختلاف مذاهبكم وطوائفكم دون تفكير، أنه يتحول في أفواهكم إلى جسد حقيقي للمسيح، وأن عصير العنب المخمر الذي أطلقتم عليه الدم تحول في أفواهكم إلى دم حقيقي للمسيح، أي ذبيحة حقيقية حرفية من جسد ودم تقدم عنكم، ولذا لزم أن يقدمها كاهن أو قسيس وخلافه، وما دامت هي ذبيحة، فلابد لها من مذبح، وأخيرًا اختلفتم فيما بينكم، بسبب سخرية القدر منكم وسماح إلهكم بأن تصبكم الكورونا، إختلفتم في طريقة تقديمها للغلابة من القطيع معصوبي العينين المُسيرين وراءكم، وتحاورتم وتشاجرتم وانقسمتم فيما إذا كان يصح أن تقدم للقطيع في كأس واحد يرتشف كل منكم رشفة بعد الآخر، كما تعودت بعض طوائفكم أن تفعل قبل اجتياح كورونا كنائسكم، أم تقدمونها بملعقة واحدة يلعكها كل وراء الآخر، ثم تغمس الملعقة مرة أخرى في نفس الكأس ليلعكها آخر، أم تستخدمون كؤوسًا صغيرة، كأس لكل منكم لا يصلح للاستخدام إلا لمرة واحدة ثم يلقى بعدها بسلة المهملات، الأمر الذي يرفضه تمامًا الغالبية العظمى من معدي الذبيحة لكم، فكيف يتحول خبز المائدة وخمرها المعد سابقًا والذي يباع في الأسواق إلى جسد المسيح ودمه!، وكيف تلقون ببقايا قطرات دم المسيح الذي تلطخ كؤوسكم الصغيرة أو الكبيرة في سلة المهملات!، لا يصح، بل دم المسيح لابد أن يغسل مرة ومرات ولا تلقى المياه التي غسلتم بها كأس دم مسيحكم ببلوعة الصرف الصحي، بل يجب أن تشرب حتى لو كانت المياه المستخدمة في غسلها مياه ملوثة وأدت بالفعل إلى وفاة المغيبين من كهنتكم المقيدين بحبال التقاليد والطقوس والتعاليم الكنسية التى ما خطها لكم مسيحكم في كتابكم، بل وضعوها أناس مرضى بأمراض نفسية وروحية مختلفة، وهكذا سلموها لكم كقضبان السكك الحديدية السابقة التجهيز لتسير عليها عربات حياتكم دون الخروج عن المسار المرسوم لكم، والويل لمن يفكر بالخروج بعربة حياته الخاصة لأنه سيكون في النهاية، حسب تقديراتكم الشريرة من الخاسرين.

   سكت صديقي برهة، ثم قال لي بصوت يملأه التحدي، وحتى إن كانت خسارتي فيما تقولون عنه الآخرة أو الأبدية ستكون خسارة حقيقية، فأنا أفضل أن أحيا حياتي ملحدًا حرًا من أفكاركم وطقوسكم وممارساتكم وسلطانكم عليّ، غير مؤمن بوجود هذا الإله الذي يريد أن يجبرني على الإيمان به وبأتباعه من الخدام والقسوس والكهنة والشيوخ، على أن أذهب إلى ما تسمونه النعيم الأبدي في سماء أعدها الهكم للمغيبين الخانعين المسيرين إلى حيث لا يعلمون، لذا فأنا ملحد مقتنع، ولو كان إلهكم موجودًا حقًا، فأنا أتحداه أن يجبرني على الرجوع إليه، فلو استطاع إجباري على الإيمان به والاعتراف بوجوده، سأعترف أن هناك ما تسمونه الله، وإلا فأنا إله نفسي، أنا الذي أرشدها وأسيرها في الطريق الذي أريده لها أن تسير فيه، لا في طرق رسمت لي مسبقًا وأنا ملزم أن أسير فيها وإلا ينتظرني عقاب شخص ما بعد الممات يقولون إن اسمه الله.

   سكت كلانا لبرهة قليلة كان صديقي فيها ناظرًا إلى الأرض، مستغرقًا في تفكير عميق، أما أنا فكنت أمنع نفسي بكل قوة عن محاولة تصحيح بعض ما قال من أخطاء في حديثنا السابق. كان صديقي يعلم أن سكوتي وتركيز عيني عليه يعنى أن الفرصة مازالت مفتوحة أمامه ليتكلم ويخرج ما بداخله وأنني مصمم على أن لا أبدأ في إغراقه بآرائي أو نصائحي.

   أراد صديقي أن يثبت لي أن عنده أكثر كثيرًا جدًا مما قاله ليجعله ملحدًا مقتنعًا ثابتًا على أفكاره التى تمنعه عن قبول فكرة ما يسمى الله، فسألني أية مسيحية أو مسيح أو إله تريدني أن أؤمن بوجوده، هل هو إله اليهود أم إله المسلمين أم إلهكم أنتم المسيحيون، ألا يكفّر كل منكم الآخر، ألم يصلب اليهود إلهكم يوم صلبوا المسيح ثم اختلفوا معكم حول قيامته، فأنتم تؤكدون أنه أقام نفسه من الأموات وهم يؤكدون أن تلاميذه قد سرقوه، ألا يكَفّركم المسلمون بكلمات واضحات في قرآنهم ويصفونكم بالضالين، كما جاء بكتابهم “كفر الذين قالوا إن عيسى بن مريم هو الله” وأن من ابتغى غير الإسلام دينًا لن يقبل منه يوم القيامة، وهكذا الحال أيضاً معكم، ألا تُكَفّرون أنتم اليهود والمسلمين وتؤمنون أن الإسلام من عند غير الله، وأن من مات من اليهود والمسلمين دون أن يقبل إلهكم يسوع المسيح فسيكون في الآخرة من الخاسرين، لأن الله وسماءه بالنسبة لكم، وفي عقولكم وكتابكم، لها طريق واحد، وباب واحد، وحق واحد، وحياة واحدة، وكلها وردت في قول مسيحكم: “أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلا الآب إلا بي”. الأمر الذي دعا أحد مشاهير مرنميكم أن يسعى جهده أن يجد حلاً لهذه المشكلة فاخترع لكم نظرية “لاهوت المحبة الحر” ونادى ولازال ينادي بإصرار أن هناك طرقًا أخرى غير الطريق الإبراهيمي، أي طريق إلهكم المسيح، لنوال رضى الله وقبول نعيمه وحياته الأبدية، واستشهد لكم ودلل على ذلك بأن ملكي صادق وأيوب ويثرون وغيرهم قد عرفوا الله بغير الطريق الإبراهيمي، لأنهم كانوا قبله وهم ليسوا من نسله، ألم يفسر لكم أن الله في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده، واعتبر أن هذه الآية هي أساس لوجود بر مواز لبر المسيح الإبراهيمي، ألا يزال يصارع في أن الصوفية هي طريق من طرق اتصال الناس على الأرض بما تصفونه بالخالق في السماء عن طريق الحب والعشق الإلهي، فأي إله بالضبط تريدني أن أختار في هذا الصراع، صراع الآلهة على إخضاع البشر لكل منهم دون الآخر؟، ألم تتغير حتى أبسط المعلومات والإيمانيات والمعتقدات المسيحية في العشر سنوات الأخيرة، ومن كنتم تظنون أنهم أكثر الخدام إيمانًا وتواضعًا وحكمة وبساطة وتمسكًا بما تسمونه أنتم المسيحيون بالحق الكتابي تغيروا، فأصبحوا هم من ينشرون أفكارهم الصوفية، والأفلاطونية، وتأملاتهم الباطنية، وما يحدث لهم في الحضرة وهم يؤلفون ترانيمهم بعناية حتى ينشروا هذا الفكر الصوفي بين البسطاء من المسيحيين ويشتركوا مع المسلمين والمداحين في إحياء سهرات وليالي رمضانية ويحتفلون فيها بالمولد والميلاد، وقَلَّ هذا في أعينهم، فقرروا عمل مدارس لاهوتية يختارون طلابها أو قل ضحاياها بكل حذر ويبثون فيهم أفكارهم التي يعرف الكل أنها ليست من المسيحية في شيء، بل هي أقرب إلى العلمانية الليبرالية والإسلامية منها إلى المسيحية، ومع ذلك لا يتصدى لهم سوى نفر قليل جدًا بكشف خططهم الخبيثة لإقحام الصوفية والتعاليم الإسلامية العلمانية على المسيحية، وغير هؤلاء النفر القليل لا يتصدى لهم أحد ابتداء من رؤساء الطوائف المسيحية إلى أصغر قسيس سنًا عرفته مصر والبلاد العربية حتى الآن. هل كنا نسمع في القديم أن رابعة العدوية قبلت ما تسمونه أنتم اختبار التجديد أو الميلاد الثاني لأنها كتبت أشعارها في حب ذلك الذي تسمونه أنتم الله؟، هل كان من الممكن أن يظهر المرنمون ومداحو رسول الإسلام معًا في برامج تلفزيونية أو حفلات فنية غنائية تقدم بها التسبيحات والألحان الكنسية مع دقات طبول الذكر وترديد عبارة: الله، الله، الله؟، هل أصبح من الطبيعي والمقبول لدى إلهكم أن يُرفع الآذان من داخل كنائسكم وقاعات احتفالاتكم وتجاهرون بأنكم كنتم ترون النور يخرج من مداح صوفي مسلم يقول عن نفسه إنه “مخاوي” أي أن له قرينة من الجن، وأنكم كنتم تتعلمون منه المحبة والتواضع وتشتركون معه على قنوات تليفزيونية وضع الشيطان يده عليها لتضل الساكنين على الأرض ويصمت القادة في كنائسكم وكأنهم من أهل الكهف أو الهابطين إلى الجب، هل كان بينكم من يسمح بأن يؤذن في كنيسته أو يصلى مسلمون على منبره لروح ضد المسيح ولا يحرك ذلك له ساكن ولا يقوم بالاعتذار لشعب المسيح في كنيسته وفي مصر والبلاد العربية عن ما وصلت إليه مسيحيتكم من ضعف وخوار وشر؟، هل نادى قبل اليوم أحد قساوستكم الإنجيليين بنشر ثقافة التزاوج بين الرجال المسلمين والفتيات المسيحيات علنًا على الهواء مباشرة ولم يُوَبّخ ويُنتهر من أصحاب قناته الفضائية المسيحية التى دأبت على بث كل ما هو مخالف لتعاليم مسيحكم؟، ألم ينته بكم الأمر كمسيحيين وكأساتذة في اللاهوت أن تجيزوا رسائل للماچيستير تبرئ الحية من غواية آدم وحواء في الجنة من السقوط في الخطية؟، ألم تتركوا أكابركم ليشككوكم في وحي كتابكم المقدس والقول أن الإصحاحات الاثنى عشر الأول منه لا يجب أن تؤخذ وتفهم بطريقة حرفية، وأن آدم لم يكن سوى شخصية اعتبارية وليست حرفية وفي إمكانية أن تحبل العذراء وتلد ابناً دون أن يمسسها بشر أو تك بغيًا، هل سمحتم من قبل بأن تنشروا ترجمات لكتابكم المقدس أشبه ما تكون بما جاء بقرآن المسلمين من تعاليم وألفاظ وتعابير ومعاني، فأين إلهكم وأين مسيحكم من كل هذا؟، هل تحول هو أيضًا إلى بعل آخر ينادونه فلا يجيب، يتقطعون أمامه فلا يسمع، فلو كان حقًا موجودًا، أما كان من الواجب عليه أن ينزل نار من السماء ويحرق الضالين المضلين أو حتى على أحسن تقدير يظهر ذاته ويغير ما بقلوب الناس وعقولهم فنؤمن به.

   سكت صديقي برهة ورأسه منكس إلى الأرض، ثم رفعها بتحد وصرخ بصوت عال، هل تريدني بعد كل ما أسمعتك إياه أن أصير مسيحيًا كنسيًا أؤمن أن هناك ما تسمونه الله وأرجع مرة أخرى إلى حالة الحيرة والغي والضعف والمسكنة والخداع الذي وجدتها راسخة في أعماقكم وفي كنائسكم وقادتكم عبر تاريخ كنيسة المسيح؟ هل تريدني أن أحيا حياة الازدواجية والصبر والحرمان على الأرض انتظارًا لبيوت غير مصنوعة بيد أبدية وشوارع من ذهب وأبواب من لؤلؤ ونعيم أعده لي إلهكم في سماء الآخرة؟ آسف يا صديقي، لن أضحي باليوم الذي أراه في انتظار الغد الذي لا أراه ولا أؤمن حتى بوجوده وبمن أوجده إن كان له وجود.

   سألت صديقي، إذا لم تجد الله كما تخيلته في المسيحية، فلماذا لم تحاول أن تجده في اليهودية أو الإسلام؟، لماذا اتجهت إلى الإلحاد وإنكار وجوده سبحانه من الأصل؟ أجابني صديقي، من قال لك إنني لم أبحث عنه في اليهودية والإسلام، بل وفي البوذية والهندوسية وغيرها؟!

   قلت إذًا، فأنت تريد أن تقول لي إن الإلحاد لم يكن هو اختيارك الأول، بل أنت أُجبرت على أن تكون ملحدًا، سأسمع منك أيضًا في لقاء قادم عن رحلة بحثك عن الله، أجابني نعم اذهب وقل لكنيستك ولإخوانك في لعبة الإيمان بما تسمونه الله إنهم هم الذين “جعلوني ملحدًا!”. قل لهم قبل أن تطالبونا نحن الملحدين، كما تسموننا، أن نؤمن بإلهكم ونعمل أوامره ووصاياه، اعملوا أنتم بها أولاً، ليبكِ كهنتكم بين الرواق والمذبح وليقولوا يا رب خلصنا من شرورنا وآثامنا وأرجعنا إلى مسالكك المستقيمة إن كنت موجودًا وتسمع لصرخاتنا.

   وبالرغم من عدم اقتناعي بكل ما قاله صديقي وعدم إعفائي له من مسؤولية الدوران في الأرض والتمشي فيها، وتأكيدي لنفسي عن مسؤوليته الشخصية الكاملة عن كل قرار اتخذه بشأن إلحاده، مهما كانت الظروف والحقائق التى أوصلته إلى ذلك، إلا أنني قمت من أمام صديقي منصرفًا وأنا أتفكر في كل من دق مسمارًا في نعش هذا الصديق، سواء بقصد أو بغير قصد، بإخلاص أو بخبث، بعلم أو بجهل من الرياسات الكنسية والقيادات الروحية والكهنة والقسوس وخدام الإنجيل والمرنمين وأصحاب الفضائيات المسيحية، وبالرغم من أنني لم أتناقش معه في أي مما سرده لي، سواء الصحيح منه أو ما ظنه صديقي أنه صحيح، حتى أتمكن من مواصلة حديثي معه في لقاء قريب، إلا أنني للآن لم أستطع أن أتخلص من نبرة صوته الحزين العالي وهو يطلب مني، قل لهم إنهم “جعلوني ملحدًا!”.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا