ثلاثية تدمير الحضارة

4

د. مراد وهبة

عنوان هذا المقال له قصة جديرة بأن تُروى بدايتها عام 1979، عندما تحالفت المخابرات المركزية الأمريكية مع أفغانستان إثر الغزو السوفيتي لأفغانستان في 27 ديسمبر من عام 1979، بموافقة من الرئيس الأمريكي جيمي كارتر مع تصريح خاص لبريجينسكي مستشار الأمن القومي لزرع شبكات للإسلام السياسي في جمهوريات طاجيكستان وأوزبكستان وتركستان وإمداد المجاهدين الأفغان بالأسلحة والأموال بالتعاون مع باكستان.

وعندما تولى رونالد ريجان رئاسة أمريكا، وافق في 15 يناير من عام 1981 على مواصلة العمل بما قام به كارتر. وفي هذا السياق، أُنشئت في فرانكفورت بألمانيا وحدة ملحقة بالمخابرات الأمريكية مهمتها الاتصال بالمهاجرين الأفغان الذين كانوا قد انتشروا في أوروبا، وزرعهم في المنظمات والشركات الدولية التي تتعامل مع باكستان. وفي هذا السياق أيضًا، اقترح رئيس المخابرات الفرنسية ألكسندر دي مارنشيز على الرئيس ريجان إغراق أفغانستان بالمخدرات لإفساد الجنود السوفيت بدلاً من الاعتماد على جماعات الإسلام السياسي.

وفي عام 1982، افتُتح مركز لاستقبال المتطوعين الراغبين في السفر إلى أفغانستان وكان تمويله من المخابرات الأمريكية وبلغت فروعه سبعة عشر فرعًا في أمريكا. وفي عام 1984، كثفت أمريكا المساعدات الاقتصادية والعسكرية للمجاهدين الأفغان من غير إفصاح، ومن هنا فإنها استعانت بباكستان كساتر لها. وفي عام 1985، مولت المخابرات الأمريكية العمليات الأفغانية داخل الأراضي السوفيتية، الأمر الذي هدد السلام العالمي. وهنا تدخل الرئيس ريجان بوقف تلك العمليات، إلا أن ذلك التدخل لم يمنع المخابرات الأمريكية من تسهيل تجارة المخدرات. ولا أدل على صحة هذا القول من أن الكشف عن ذلك التسهيل لم يحدث إلا بعد انتهاء الحرب.

وفي عام 1989، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية أنها تقدِّر قيمة النقود التي يتم غسلها في البنوك الأمريكية، أي تحويلها إلى نقود شرعية بإخفاء مصادرها الجنائية، بنحو 110 مليارات من الدولارات سنويًا. وفي هذا السياق، نجحت المخابرات الأمريكية للمرة الثالثة في كسب ثقة مهربي المخدرات في كولومبيا، وذلك بمساعدتهم على تهريب طن هيروين إلى داخل أمريكا.

دخلت أمريكا أثناء الحرب في علاقة قوية مع الزعيم التونسي راشد الغنوشي، الذي كان يقوم بدور الوساطة بين الجماعات الأصولية الأفغانية المتصارعة والذي كان موضع دفاع في قاعة الكونجرس من أجل دخوله إلى أمريكا في عام 1991. كذلك فإنها دخلت في علاقة عضوية مع مهربي الهيروين، فالناقلات التي كانت وسيلة لنقل الأسلحة من باكستان إلى أفغانستان كانت تعود محملة بالهيروين، وكانت النتيجة أن باكستان التي لم يكن بها مَنْ يتعاطون الهيروين. في 1979 أصبح بها أكثر من مليوني متعاط مع نهاية الحرب. ويقال إن القادة العسكريين الباكستانيين يتحكمون اليوم في جزء لا يُستهان به من تجارة الهيروين في أمريكا. وفي مواكبة مع كل ذلك، تولت أمريكا احتضان الأصولية السُنية لإضعاف شوكة الأصولية الشيعية. وفي هذا السياق، كان مولد الصراع بين هاتين الأصوليتين. وقد تأثر بهذا الصراع ما هو حادث في الشرق الأوسط حيث تمكنت إيران من احتضان كل من حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، ولا يبقى بعد ذلك سوى أسئلة مثارة في حاجة إلى جواب إن أمكن ذلك. من أين جاءت النقود التي اشترت بها المخابرات الأمريكية طنًا من الهيروين لتهربه إلى أمريكا؟ إن أحدًا لا يمكن أن يخطر على باله أن تجار المخدرات الكبار في كولومبيا قد قدموا طنًا من الهيروين هبة للشعب الأمريكي أو حتى ضمن برنامج مساعدات لأصدقائهم في المخابرات الأمريكية. ويترتب على هذا السؤال سؤال آخر: ما هي البنوك الأمريكية المشتركة في عملية غسيل الأموال التي أمكن بها تحويل المبالغ اللازمة لإتمام أي صفقة؟ قد تسهم في الإجابة عن هذين السؤالين معرفة أن المخابرات تودع أموالاً ضخمة بأسماء شركات وهمية تؤدي دور الواجهات، مثل شركة طيران إير أمريكا، مع تعليمات مشددة بمنع أي تحقيق رسمي للتدقيق في مصادر الأموال المودعة. وكذلك الحال بالنسبة إلى بنك أوف أمريكا الذي يُعتبر من أكبر البنوك الأمريكية، إذ ليس من حق أحد محاسبته فيما يقوم به من عمليات غير مشروعة سوى المخابرات الأمريكية التي كانت بدورها متورطة في التستر على مثل هذه العمليات.

وقد تم تتويج كل ذلك بما حدث في 11/ 9/ 2001، عندما هاجمت أمريكا جماعة من البشر مستعينة في هجومها بطائرات مختطفة تحولت إلى أسلحة حربية لقتل ثلاثة آلاف من المواطنين الأمريكيين وتدمير مبنى مركز التجارة العالمي الذي هو أعلى مراحل الثورة العلمية والتكنولوجية. وتبين أن القتلة أعضاء في شبكة إسلامية دولية ممتدة إلى أربعين دولة وشهرتها تنظيم القاعدة واسم منظمها بن لادن.

وفي 13/9 /2001، صدر بيان من ستين مفكرًا أمريكيًا وموجه إلى المجتمع الدولي. ومما جاء في البيان إثارة ثلاثة أسئلة: السؤال الأول: لماذا نحارب؟ وكان الجواب هو أن الحرب مسألة محزنة إذ تستلزم التضحية كما تستلزم القتل. والسؤال الثاني: ما هي قيمنا؟ وكان جوابهم: نحن نعترف بأننا ندين القتل الجماعي للأبرياء.

والسؤال الثالث: مَنْ نحن؟ وجاء جوابهم: نحن نقر بأن الإنسان غاية في ذاته ومن هنا فإن البشر متساوون، وأن القضاء على هؤلاء القتلة لن يكون إلا بسيادة العلمانية التي يمتنع معها إقحام الله في أي قتال بشري. وبغير ذلك فإن ثلاثية تدمير الحضارة المتمثلة في المخابرات الأمريكية والأصولية الدينية والرأسمالية الطفيلية تكون هي الغاية المرتقبة بلا مقاومة.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا