تخيلات في قضية تبني شنودة

98

العدد 205 الصادر في أكتوبر 2022

تخيلات في قضية تبني شنودة

قالوا في الأمثال “من الخيال ما يتحقق”. ذهبت سيدة فاضلة وحنونة بدافع الأمومة التي حُرمت منها ومن اختبارها وممارستها مع أولاد من رحمها ومن صُلب زوجها، حُرمت منها بأمر الله وقضائه، ولا راد لقضائه وأوامره، وأيضًا بدافع الرحمة والشفقة على طفل لا ذنب له في مجيئه إلى هذه الدنيا دون أن يعرف هو أو مَنْ حوله مَنْ هو أبوه أو مَنْ هي أمه، ذهبت إلى مكتب السجل المدني بقسم الزاوية الحمراء لاستخراج شهادة ميلاد لمولود جديد. كانت المرأة تحمل في حضنها طفل جميلًا هادئًا نائمًا في سلام وطمأنينة على صدرها، أما هي فقد كانت في حيرة شديدة واضطراب نفسي كبير، حيث إنها لا تعرف بيانات أو معلومات كثيرة عن الطفل الذي ذهبت لاستخراج شهادة ميلاد له، ظنًا منها أن هناك مَنْ سيستمع لقصتها ويرأف بحالتها وسيساعدها على حل مشكلتها المتعلقة بهذا الطفل. آمال، أخت مسيحية فاضلة، تلميذة للمسيح يسوع تبارك اسمه، مؤمنة به سبحانه، ومدققة في حياتها اليومية العادية، لذا فقد قررت ألا تكذب أبدًا مهما كانت الظروف والأحوال والمصاعب التي تواجهها في الحياة، فهكذا ينبغي أن يكون المسيحيون المؤمنون الحقيقيون تلاميذ المسيح، فتعاليم المسيح، تبارك اسمه، تؤكد على الإنسان المسيحي المؤمن الحقيقي ألا يكذب تحت أي ظرف من الظروف أو حال من الأحوال. فالمسيح لم يسمح للناس أن يكذبوا حتى في حالة الحرب، أو للدفاع عن النفس، أو لدرء خطر أعظم، أو حتى للدفاع عن دينه أو نصرة أخ في الدين سواء أكان ظالمًا أم مظلومًا، فالضرورات لا تبيح المحظورات في تعاليم المسيح، والكذب ليس مُحللًا للإنسان، حتى إذا كان لجلب منفعة أو مصلحة أكبر أو لدفع مفسدة أعظم.

والسبب الواضح والبسيط لتحريم الكذب هو أنه إذا كان المسيح حقًا هو الله الظاهر في جسد إنسان فهو إذن فعال لما يريد، وهو كلي القدرة والقوة وقادر على الدفاع عن الناس وعن نفسه، وهو لا ينتظر من الناس أن يدافعوا عنه، فهو مَنْ يستطيع أن ينقذ الإنسان ويدافع عنه ويحميه في كل ظروف حياته، وبالتالي فلا داعي أن يبيح ويبرر للإنسان الكذب حتى ينجي نفسه أو غيره من أي شر يمكن أن يواجهه.

ذهبت آمال، المرأة الفاضلة، إلى مكتب السجل المدني وتسجيل الأطفال حديثي الولادة. كانت هناك في غرفة المكتب ثلاثة مكاتب متراصة جنبًا إلى جنب. المكتب الأول عليه قطعة خشبية مكتوب عليها: الأستاذ الحاج محمود عبد الله، وهو المسئول عن أخذ بيانات الأطفال الجدد واستخراج شهادات الميلاد لهم. وعلى المكتب المجاور له كان يجلس شخص غير معروف الاسم لمن يلتقون به لأول مرة، حيث إنه لا وجود للافتة خشبية على مكتبه تدل على اسمه أو صفته أو وظيفته، لكن السيدة آمال علمت من الواقفين حولها ومن حديثهم معه أن اسمه الأستاذ جرجس مرقس، وأنه رئيس العاملين بالمكتب والمسئول عن حفظ واستخدام الأختام التي لا بد من وضعها على شهادة الميلاد بعد استيفائها لكل البيانات المطلوبة عن الطفل بواسطة الأستاذ محمود. وكانت تجلس بينهما، على مكتبها الذي يتوسط مكتب الحاج محمود ومكتب الأستاذ جرجس، السيدة المحجبة سعاد الهضيبي، مساعدة الأستاذ محمود. وقفت السيدة آمال في طابور طويل أمام الحاج محمود، حاملة الولد حتى صارت وجهًا لوجه أمامه. كان الرضيع قد أفاق من نومه وبدأ الإعلان عن جوعه بأنات خافتة، وبدأت السيدة نادية في تحريكه بهدوء حتى لا تزعج من حولها، وحتى يتوقف الطفل عن الأنات والتي سرعان ما أصبحت صرخات. كان الحاج محمود ذا لحية طويلة، دون شارب، ويبدو على جبهته السوداء أنه يكثر الصلاة وحك الجبهة بالأرض. قالت المرأة في نفسها: ʼالحمد لله، يبدو أن هذا الرجل من أولياء الله الصالحين الذين سيتفهمون الموقف الصعب الذي سأشرحه له بكل تفصيل لاستخراج شهادة ميلاد لطفلي هذا الغالي الجميل، وسأطلب مساعدته في حل هذه المشكلة العسيرة.‘ نظر إليها الحاج محمود بامتعاض فهي لا ترتدي الحجاب، وفوق هذا تلبس صليبًا من الذهب يتدلى من سلسلة على صدرها. قال الحاج محمود في نفسه: ʼيا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم. هذه المرأة مسيحية من الضالين. اللهم انصرنا على القوم الكافرين.‘ وحيث إن كل الواقفين أمامه جاءوا لتسجيل أطفالهم حديثي الولادة واستخراج شهادة ميلاد لهم لأول مرة، فعند وقوف السيدة آمال أمامه، ولكي يتخلص منها ومن صراخ الطفل بأسرع ما يمكن، أمسك الحاج محمود بالقلم دون أن يسأل المرأة عما تريد وعن سبب مجيئها إلى مكتبه، بل سألها بعجلة وباستخفاف وبقرف: “اسم المولود؟” أجابت المرأة: “من فضلك يا أستاذ.” قال الموظف بغضب: “يا ست انتي، أنا بسألك عن اسم المولود.” قالت السيدة: “من فضلك أنا أريد أن أشرح لك قصة هذا المولود الذي جئتُ لاستخراج شهادة ميلاد له.” رد الأستاذ محمود بعصبية وبصوت عالٍ جذب انتباه كل الواقفين في الصف: “يا هانم أنا هنا ليس لأستمع لقصص أو حكايات أو توضيحات أو شرح لأي أمر منك أو من غيرك. أنت هنا لاستخراج شهادة ميلاد، هل هذا صحيح؟” قالت: “صحيح.” قال الحاج محمود: “إذن، وباختصار لأجل خاطر ربنا سبحانه وتعالى والناس اللي واقفة في الطابور وراكي، ما اسم المولود؟” قالت: “هذا ما أريد شرحه لك.” قال: “ستشرحين لي اسم المولود؟ أنا أريدك أن تعطيني الاسم لا أن تشرحي لي الاسم.” قالت آمال: “إن كنت لا تريد أن تسمع القصة، وتساعدني في حل هذه المشكلة، فأرجوك اكتب البيانات التي سأقولها لك الآن، لكن في ورقة منفصلة، وليس في الدفتر الرسمي الخاص بشاهدات الميلاد حتى لا تخسر ورقة من الدفتر.”قال الموظف: “ده مش شغلك، ومن فضلك ماعنديش وقت لكلام الستات.” ثم كرر الحاج محمود سؤاله: “اسم المولود؟” أجابت المرأة: “مجهول.” صرخ الحاج في وجه المرأة وقال: “اسم المولود مجهول؟ يا ست انتي اتكلمي عدل. اسم المولود مجهول؟، هل تريدين أن تسمي ابنك مجهول؟” قالت: “لا، يا حضرة الموظف. مجهول هذا ليس اسم الطفل. مجهول معناه أنه لا أحد يعرف اسمه.” قال الموظف: “يا سبحان الله، اللهم ألهمني الصبر على هذه المرأة.” ثم قال: “والله العظيم لأكتب اسم المولود في السجلات مجهول.” كتب الحاج اسم الولد مجهول. “وما هو اسم الأب؟” قالت المرأة: “اسمه مجهول.” قال: “اسم الولد مجهول، واسم الأب مجهول أيضًا.” قالت المرأة: “واسم الأم أيضًا مجهول.”

تدخلت السيدة فاطمة مساعدة الأستاذ محمود وتطوعت بالقول: “يا ست انتي جاية تقرفي فينا ولا تطلعي شهادة ميلاد؟ ما تتكلمي بعقل ومنطق وصراحة علشان نخلص في اليوم اللي مش فايت ده. هو فيه طفل اسمه مجهول وأمه اسمها مجهول وأبوه اسمه مجهول؟” أجابت آمال: “يا ست فاطمة الولد ده له قصة مختلفة عن أي مولود آخر، لكن لا انتي ولا الأستاذ محمود عندكم استعداد لسماعها، ولذلك أنا أجيب بما أعرفه من بيانات.” تدخل أحد الوقوف وقال: “سايق عليكم النبي حد يسمع لهذه السيدة لأجل ما نخلص ونروح أشغالنا.” ألقى الموظف القلم من يده وقال للمرأة: “اشرحي لي هذه الفزورة.” قالت المرأة: “هذا ما رجوتك أن تسمعه مني خلال النصف ساعة الماضية.” كان الوقوف خلف المرأة في الطابور على وشك العراك مع المرأة والحاج وكل مَنْ في المكتب. نادى الموظف بأعلى صوته: “يا خلق يا هو، اسمعوا هذه المرأة التي جاءت لاستخراج شهادة ميلاد لهذا الطفل الذي تحمله وتريدني أن أكتب أن اسمه مجهول واسم الأب مجهول واسم الأم مجهول.”

صمت الجميع والتفوا حول المرأة ليستمعوا لقصة هذا الطفل المجهول. قالت المرأة: “هذا الطفل وجدناه ملقى في دورة مياه كنيسة العذراء بالزاوية الحمراء، حيث نسكن نحن وحيث توجد الكنيسة التي ننتظم على الحضور بها. والمشكلة هي أنه لا أحد يعرف اسمه، ولا اسم أبيه، ولا اسم أمه، أو أية بيانات أخرى عنه. فهل لدى أحدكم رأي بشأن كيف يمكن أن نتصرف في هذه المشكلة.” قال أحد الوقوف”: “اختاري أنتِ له أي اسم.” قالت المرأة: “سهلة وبسيطة. لقد اخترتُ له اسم شنودة.” ثم سألت المرأة الوقوف: “وهل أختار له أنا اسم الأم واسم الأب أيضًا؟ قال آخر من الوقوف: “أيوه، اختاري أي أسماء وخلصينا. نريد أن ننصرف فوراءنا أعمال ومصالح نريد الذهاب إليها.” وقال ثالث: “لماذا لا تكتبي اسمك كأمه واسم زوجك كأبيه؟ أم أنك لا ترغبين في تربيته؟ أم تخافين على ميراث أولادك الباقين.” قالت آمال: “أنا متزوجة منذ ثلاثين عامًا ولم يرزقني الله بأي أولاد أو بنات، وأنا وزوجي ندعو الله ليلًا ونهارًا أن يرزقنا بابن منذ سنين عديدة، حتى لو لم يكن من صُلبنا، لنربيه ونعتني به ويصبح ابننا.” قال الواقفون: “إذن فالأمر محلول. هذا الطفل ليس له أب أو أم معروفين، فاكتبيه أنتِ باسمك واسم زوجك.”

نظرت المرأة للحاج محمود موظف السجل المدني، وقبل أن تسأله إن كان ممكنًا أن يكتب الولد باسمها واسم زوجها، قال الحاج بصراخ وانفعال: “هذا من رابع المستحيلات. هذا لا يمكن أن يحدث أبدًا، ولا يمكن أن أعمله أنا أو أشترك في عمله أبدًا.” سأله الواقفون: “يا حضرة، لماذا لا يمكن أن يُكتب هذا الولد باسم هذه المرأة وباسم زوجها؟” قال: “لعدة أسباب: أولا، هذا يُعتبر تزويرًا في أوراق رسمية، فهذه المرأة ليست أمه، وزوجها ليس أباه، والأهم من الكل أن هذا الولد سيكون متبنى، ولقد نهانا الإسلام بوضوح عن التبني، فالتبني معصية لله تعالى ولأوامره سبحانه، وأنا لا يمكن أن أشترك في جريمتين: جريمة التزوير في أوراق رسمية، وجريمة تسهيل أمر التبني الذي نهى عنه المولى. والأهم من الكل وفوق الكل هو أن هذا الطفل سيتربى ويكبر ويكون مسيحيًا ومن المغضوب عليهم والضالين.” نظر الحاج محمود للسيدة فاطمة وسألها: “ولا إيه رأيك يا ست فاطمة؟” لم يسأل الحاج الأستاذ جرجس، وهو رئيسه المباشر. قالت الست فاطمة: “طبعًا يا أستاذ محمود، لا تسمح أن تشترك في هذه الجريمة والمعصية لشرع الله سبحانه وتعالى، فلا تبني في الإسلام.” ثم نظرت إلى الطابور الواقف أمامها وقالت: “اسمع يا سيد أنت وهو، كل واحد فيكم يوفر كلامه ويضع لسانه داخل فمه ويسكت خالص. الأستاذ محمود على حق.” سأل أحد المسيحيين الواقفين في الصف: “وماذا لو كانت هذه السيدة كذبت عليك ولم تروِ لكم القصة كاملة؟ أما كنت ستكتب يا حاج البيانات التي تقولها لك؟” قال الحاج محمود: “نعم، فليس من صميم عملي أن أتحرى عن البيانات التي يعطيها لي الأب والأم.” قال: “إذن فجريمة هذه المرأة التي تمنعها من كتابة الطفل باسمها هي أنها قالت الصدق.” فقال الحاج: “نعم.” قال الشخص: “واضح أن غلطتها كانت أنها شرحت لكم الأمر بإخلاص وشفافية، أم أن جريمتها أنها مسيحية، ولو كتبت هذا الطفل باسمها وباسم زوجها فسيصبح الولد بالتبعية مسيحيًا؟” سخر الحاج محمود من المتكلم وقال: “صح كده، فهمتها لوحدك الحقيقة دي؟ ولا حد قالك عليها؟” قال شخص آخر من الواقفين: “يا حضرة، هذا الطفل وجدوه في كنيسة، وهذا يدل على أن أمه التي ولدته إما أنها مسيحية ولذلك اختارت الكنيسة لتترك فيها مولودها، وإما أنها مسلمة ولم تأتمن إلا الكنيسة ومَنْ فيها على تربية ابنها. فلو كان هذا الطفل قد عُثر عليه أمام جامع أو حتى في شارع بعيد عن الكنائس والجوامع لكانت هناك نسبة 50 في المائة أن يكون أهله مسيحيين أو مسلمين. ثم أننا نحن المسيحيين لم يُحرَّم علينا التبني، ولنا شريعة وقوانين كتابية تختلف عما جاء عندكم في القرآن، فلماذا تطالبنا بتطبيق شريعتكم علينا وهي تخالف شريعتنا تمامًا؟” قال الموظف: “وأنت من أقامك محاميًا أو قاضيًا لهذه القضية؟ أنت خليك في حالك، ولو لم يعجبك كلامي سأجيب على سؤالك، لأننا يا سيد مسيحي في دولة إسلامية، فالدين الرسمي للدولة الإسلام.” تدخل ثالث من الوقوف المشاهدين لهذه المأساة وسأل الحاج: “فما الحل عندك يا مولانا لهذه المشكلة؟ هل يظل الطفل بلا اسم وبلا اسم أب أو أم؟ هل تريد أن تجعله فعلًا مجهولًا أو من ساقطي القيد؟ أجاب الحاج محمود: “هذا ليس شأني، وليس شأن أحد فيكم.”

نظر الحاج للمرأة المسكينة، حاملة الطفل، وقال لها بكل قسوة وغطرسة وكبرياء: “روحي يا ست أنت ضعي هذا الطفل في ملجأ أو في دار رعاية للأطفال، ولا تنسي أن تقولي لهم إنكم وجدتموه في دورة مياه الكنيسة، وهم سيختارون له الاسم والديانة وكل ما يتعلق بالولد من بيانات، وسيستخرجون لكِ شهادة ميلاد.” أجابت السيدة آمال: “يعني بعد ما فرحت بالولد أنا وزوجي، وعندنا استعداد نربيه في جو أسري صحي مريح، ونعطيه حياتنا كلها وكل ممتلكاتنا أروح أسلمه بإيدي لملجأ أو دار رعاية أطفال وما أعرفش إزاي هيربوه؟” أجاب الحاج محمود: “يلا يا ست، معندناش وقت أكتر من كده. والله العظيم تلاتة لو ما مشيتي لأجيب لك البوليس وأقول لهم هذه المرأة خطفت هذا الطفل المسلم وتريد أن تستخرج له شهادة ميلاد على أنه مسيحي.” بدأت الدموع تجري كالنهر على خدي الأخت آمال، وقال الحاج بصوت حاد غاضب: “مع السلامة يا ست أم مجهول، خذي المجهول معك وأعطيه لأبيه المجهول.” ثم نادى على الطابور: “اللي بعده”.

خرجت السيدة آمال من الطابور واتجهت نحو باب الخروج والدموع تملأ عينيها. جلست على أقرب كرسي وجدته في صالة الانتظار لتستريح وتهدأ من انفعالها، وأخرجت زجاجة الحليب الذي أعدته لطفلها ووضعتها في فمه. كان الطفل لا يزال يصرخ من الجوع، لا للأكل فحسب، بل، كما تخيلت آمال، كان الطفل الذي بين يديها يصرخ من معاملة الناس له ولها بسبب أنها قررت العطف عليه واحتضانه وتربيته، يصرخ من القوانين الجائرة والوصايا الدينية التي قيل إنها تنزيل الحكيم العليم والتي لا ترحم صغيرًا أو كبيرًا، يصرخ من ظلم العالم الذي وجد نفسه فيه، دون الأب والأم اللذين اشتركا في الإتيان به إلى هذا العالم الحاضر الشرير ثم ألقيا به في دورة مياه الكنيسة. تخيلت آمال أن الطفل يصرخ إلى الله سبحانه ويسأله: “يا رب، هل أنت حقًا مصدر هذه التشريعات والقوانين، أم أن هذه التشريعات والقوانين جاءت وكُتبت وفُرضت على الناس لغرض ما في عقل كاتبها؟ ألا يقول الناس عنك أيها الإله أنك محبة؟ فكيف تكون محبة وأنت تأمر الناس جميعًا بألا يتبنوا طفلًا مثلي، لا يعرف أباه أو أمه؟”

وقبل أن يكمل الرضيع وجبته، والمرأة لا زالت تبكي على ما حدث لها ومعها من الأستاذ محمود داخل المكتب أمام جميع الوقوف حولها، خرج الأستاذ جرجس من المكتب ليذهب إلى دورة المياه. رأى الأستاذ جرجس السيدة آمال تبكي وهي ترضع الطفل التي تحتضنه، فاقترب منها وقال لها: “أنا آسف يا أخت آمال على ما حدث لكِ. أنا أعلم أننا أبناء معمودية واحدة ولا بد لنا أن نساعد ونساند بعضنا البعض في هذا الحال وهذه الأوضاع التي نحن فيها، لكن ما باليد حيلة.” أجابته آمال: “ماذا أعمل يا أخ المعمودية الواحدة بأسفك الآن؟ ألست أنت مدير هذا المكتب، والمفروض أنك أنت الرئيس المباشر لهذا الموظف؟ لماذا لم تتدخل في الحديث وتنصف أختك المسيحية المظلومة التي لا تريد أن تكذب عليكم؟ أو على الأقل لتقول لي صحيح القوانين والأحكام التي لديكم والتي تسلطونها على رقاب العباد لتحقيق أغراضكم وقناعاتكم الشخصية وتجبرون الناس على إتباعها بالقوة والقهر؟ هل يُعقل أن يكون المبدأ الإسلامي الذي يسير به المسلمون هو ʼانصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا‘، وأنت المسيحي، أخي في المعمودية كما تقول أنت، لا تنصف أختك، المظلومة؟” قال جرجس: “يا ست آمال، لو تكلمتُ سيتهمونني بالتعصب للمسيحيين، ومحمود كثيرًا ما أعلن عن رغبته في التخلص مني في المكتب، وهو ينتظر الفرصة التي يتهمني فيها بأنني لا أصلح أن أكون رئيس المكتب، ليتخلص من وجودي ويصبح هو الرئيس، فهو يؤمن أن المسيحي لا ينبغي أن يكون في موضع سلطة أو رئيسًا على مسلم مهما كانت إمكانيات المسيحي ودرجته الوظيفية. يا أخت آمال نحن لا نستطيع أن ندافع عن أنفسنا، وليس فقط عن المظلومين أمثالك، فكيف أدافع عنك يا أختي؟” هزت آمال رأسها للأستاذ جرجس وقالت: “الله يكون في عونك وعون كل مَنْ هم في مكانك وعوننا جميعًا. ماذا لو كنتُ قلتُ له إن اسم المولود محمد أو محمود وقد وجدته أمام جامع؟ أما كان سيتغاضى عن كل ما قاله من أسباب تمنعه من استخراج شهادة الميلاد لطفلي ولاستخرجها في الحال؟” نظر الأخ جرجس إلى الأرض وقال: “بكل تأكيد، فقد رأيته بأم عيني يفعل ذلك مرات كثيرة. يستخرج شهادات ميلاد وأيضًا شهادات وفاة لأشخاص دون وجود أية مستندات أو أوراق تدل على ميلادهم أو وفاتهم، وعندما كنتُ أرفض ختم تلك الشهادات والإمضاء عليها كان يقول للوقوف أمامه إن السبب في أنني أرفض الإمضاء هو أن اسمي جرجس، وهذا الجرجس يخالفنا في العقيدة والدين، ثم يأخذ الأوراق للرئيس العام ليصدق عليها بالإمضاء ووضع الأختام، فلا أملك أنا الاعتراض أو رفض أمر الرئيس العام الكبير، فأضطر للتوقيع وختم الورقة التي أعلم علم اليقين أنها مزورة.” أحنى الأخ جرجس رأسه إلى أسفل وقال لآمال بحزن شديد: “ربنا معاكي ويلاقيلك مخرج من هذه الأزمة.” ومضى إلى حال سبيله.

 بعد أن أنهى الطفل رضعته، رجعت به السيدة آمال إلى بيتها وهي في حيرة وحزن شديدين، وروت القصة كاملة لزوجها. اقترح الزوج أن يتصل بكاهن الكنيسة الذي أعطاهما هذا الطفل وأوصاهما أن يضماه إلى حضانتهما ويتخذانه ابنًا لهما، وأن يطلبا من الكاهن زيارتهما في منزلهما ليبحثا معه أمر استخراج شهادة ميلاد للطفل. لبى الكاهن الدعوة بأسرع ما أمكنه تلبيتها، وروت له السيدة آمال بالتفصيل كل ما حدث معها في مكتب السجل المدني. سألت آمال وزوجها الكاهن: “يا أبانا، لماذا لم يوافق محمود الموظف على تسجيل ابننا واستخراج شهادة ميلاد له؟” أجاب الكاهن: “لأن الشريعة الإسلامية تحرِّم التبني كما قال لكِ، والموظف علم منك أن الطفل ليس ابنكما.” سأل الرجل: “ولماذا تم تحريم التبني في الشريعة الإسلامية؟” أجاب الكاهن: “مع أنه ليس الوقت أو المقام لإجابة هذا السؤال، ورغم أنه مهما كانت الأسباب فلن تغير من أمر تسجيلكما للطفل باسميكما، إلا أن هناك عدة أسباب قال بها العلماء والفقهاء في الإسلام لتحريم التبني. هناك أسباب موثَّقة مبنية على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأسباب أخرى يعرفها ويتناقلها العامة والخاصة، وبالطبع معظمها يكذِّبه علماء الإسلام فلا يعرف حقيقتها إلا الله، كالقول بأن نبي الإسلام أراد أن يتزوج زينب التي كانت زوجة لزيد، ابنه بالتبني وقتئذٍ، لكنه أخفى ذلك في قلبه، لأنه كان أمرًا غريبًا وغير مقبول لا دينيًا ولا اجتماعيًا، حتى في زمن الجاهلية، أن يتزوج رجل ما من امرأة ابنه، حتى لو كان ابنه بالتبني، وحتى لو كان زواجه منها سيتم بعد تطليقها من الابن. ولذلك قيل بأنه قد نزل التصريح الإلهي له في القول: “وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضىٰ زيد منها وطرًا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولاً.” استطرد الكاهن قائلًا: “لكن هذه القصة غير معوَّل عليها لأنها مرفوضة من الغالبية العظمى من المفسرين لآيات القرآن. أما الأسباب التي يقول بها الأزهر ورجاله جميعًا، وعلى رأسهم شيخه، فهي أن التبني حُرِّم بسبب الخلط في الأنساب، والميراث، والعلاقات الأسرية، والتكشف على النساء.”

قالت آمال وزوجها للكاهن: “الحقيقة يا أبانا نحن لا نعرف ولا يمكننا أن نعي ونفهم ما تقول، وكيف ينطبق كل ما قلته من أسباب على وضعنا نحن المسيحيين مع هذا الطفل؟ فبادئ ذي بدء نحن غير مسلمين فلماذا تُطبَّق علينا تعاليم الشريعة الإسلامية وقوانينها؟” أجاب الكاهن: “الحقيقة يا أحبائي هي أنه بالرغم من ادعائنا كمسيحيين بأن الشريعة الإسلامية لا تُطبَّق علينا بشكل أو بآخر، إلا أن هذه هي ليست الحقيقة، لأن الشريعة الإسلامية قد صيغت في صورة قوانين وفرائض وممارسات في كُتب القضاة والمحامين يحكمون بها على كل أفراد الشعب المصري، مسيحييه ومسلميه، وأيضًا صيغت كمواد دستورية لا يمكن تغييرها أو المساس بها في الدستور، والتي من بينها النهي عن التبني المبني على نهي الإسلام عنه.” سألت آمال وزوجها: “وما معنى أن يُحرَّم التبني بسبب الخلط في الأنساب؟” قال الكاهن: “لأن الابن المتبنى أو الابنة المتبناة لا بد أن يكون له أب وأم، وكتابة الابن المتبنى باسم أب وأم غير أبيه وأمه الحقيقيين تُعد خلطًا في الأنساب.” قالت آمال: “لكن هذه الحالة لا تنطبق على هذا الطفل، فمع أن هذا الطفل أكيد له أب وأم غيرنا أنا وزوجي إلا أنهما غير معروفين ولن يُعرفا في يوم من الأيام، حيث إن الابن سيُكتب باسمينا، فكيف سيعرف الأب والأم الحقيقيان أن ابننا هو ابنهما؟” أجاب الكاهن: “أنا لا أمتلك الإجابة على كل أسئلتكما؛ أنا أشرح لكما فقط مسألة خلط الأنساب. نعم هي لا تنطبق على هذا الطفل لكن لهذا حرَّم الإسلام التبني.” سأل الزوج: “وماذا عن العلاقات الأسرية؟ ماذا بها ليُحرَّم لأجلها التبني؟” أجاب الكاهن: “لأن الولد المتبنى سيُحرَّم عليه أن يتزوج من ابنة الرجل أو المرأة اللذين تبنياه، لأنه إن فعل فسيكون قد تزوج بأخته، وهذا مُحرَّم في كل الأديان.” قالت آمال: “الحمد لله لأنه لن يكون لهذا الطفل لا أخ أو أخت في أي وقت من الأوقات، فأنا لا أنجب وقد مر الوقت الذي يمكن أن أنجب فيه بأي شكل من الأشكال.” أكمل الكاهن: “الأمر الآخر الذي حرَّم الإسلام لأجله التبني هو أن المرأة التي تبنته وبناتها سيتكشفون على هذا الطفل عندما يصبح شابًا ثم رجلًا وهو ليس ”مِحرِمًا“ (بكسر الميم) بالنسبة للأخوات وللأم أيضًا إلا إذا أرضعته مدة من الزمان.” نظر الكاهن للمرأة وقال لها: “وهذا ما لن يتوفر لكِ لأنك لن تستطيعي إرضاعه، كما أنه لا يجوز له أن يتكشف على أخواته البنات لأنهن في الحقيقة لسن أخواته.”

قالت آمال: “ألا ترى يا أبانا أنه لا شيء من الأسباب السابقة ينطبق علينا؟” قال: “نعم يا ابنتي.” قالت: “فما الحل لمشكلتنا من وجهة نظرك؟ أليس لنا تشريع خاص كمسيحيين يكفل لنا تبني هذا الطفل، أو أية طريقة أخرى يمكننا بها أن نستبقي الولد لنقوم بتربيته؟” قال الكاهن: “البديل للتبني في الإسلام هو الكفالة، أي أن يقوم أب بتربيته لكن لا يُكتب باسمه أو يُعتبر ابنه، فقط يكفله ويقوته ويربيه، ويمكنه أيضًا أن يكتب له ثلث ممتلكاته.” قال الأب والأم: “لكن نحن لا نريد أن يعرف الطفل في أي وقت أو زمن أنه ليس ابننا من صُلبنا. بالتأكيد نحن لن نكذب عليه ولن نقول له إنه من صُلبنا، فهذا كذب لا نريد ارتكابه، لكن في الوقت نفسه لا نريده أن يعلم أنه ليس من صُلبنا حفاظًا على نفسيته وعملًا على تجنبه الحيرة في البحث ومحاولة اكتشاف مَنْ هو أبوه وأمه اللذان أتيا به إلى هذا العالم.” قال الكاهن: “أعلم وأقدِّر ذلك يا أحبائي كثيرًا، لكن هذه هي القوانين المطبَّقة علينا حتى نحن كمسيحيين.” سألت الأم: “وماذا عن الناحية القانونية الدستورية؟ هل هناك قانون يحرم التبني في مصر؟” قال الكاهن: “من الناحية القانونية الدستورية، والتي لا أريد أن أشغلكما بتفاصيلها المعقدة، لا يوجد قانون واضح محدد يمنع التبني في مصر، لكن الأمر عبارة عن حلقات متشابكة تؤدي في النهاية إلى عدم قبول التبني في مصر.” قال الزوج: “يا أبانا أرجوك أفهمنا موقفنا من القانون حتى لا يلعب بنا المحامون الكرة ولا نصل إلى نتيجة.” أجاب الكاهن: “هناك المادة الثانية في الدستور المصري والتي تنص على أن الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.” قالت الأم: “وماذا عنا نحن المسيحيين؟ هل تُطبَّق علينا الشريعة الإسلامية.” قال الكاهن: “من البديهي أن تكون الإجابة لا، لأن المادة الثالثة من الدستور تنص على أن ”مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية.” وأكمل الكاهن: “هناك ما يُعرف بلائحة 1938 للأقباط الأرثوذكس والتي تنص على جواز التبني للرجل وزوجته، وهذا ما جعلني أعطيكما الطفل لتتبنياه.” قال الزوج: “الحمد لله. إذن من حقنا التبني لهذا الطفل.” أجاب الكاهن: “نعم، من حقكما، لكن بكل أسف، الحق شيء، وتفعيل الحق شيء آخر؛ الحق شيء، والسماح بممارسة الحق من قِبل الحكومة والمحكمة شيء آخر؛ الحق شيء، لكن من الواضح أن الباطل هو السائد علينا في هذه الأيام، ليس في هذا الأمر فحسب، بل في كثير من الأمور التي نعيشها كأقباط في مصر.”

تعجب الزوج والزوجة من كمية اللوائح والقرارات والتفسيرات التي تتعلق بموضوع التبني، وقالت الزوجة: “إن الله نفسه قد سمح لنا بأن نتبنى الأطفال، وليس أدل على ذلك من أنه هو نفسه سبحانه تبنانا ودعانا أبناء، وعلَّمنا عندما نقف لنصلي له أن نخاطبه بقولنا: “أبانا الذي في السموات”، وقال لنا إننا لم نأخذ روح العبودية أيضًا للخوف، بل أخذنا روح التبني الذي به نصرخ: “يا آبا الآب”، وقال لنا إنه لأننا أبناء فنحن ورثة الله نفسه ووارثون مع المسيح يسوع. فهل يمكن لمخلوق مهما إن كان أن يحاول أن يقنعنا أننا لسنا أبناء الله، وأن التبني مُحرَّم عند الله، وبالتالي مُحرَّم علينا؟” قال الزوج: “باختصار وبأقصر الطرق، يا أبانا، كيف يمكن أن نستخرج الآن لطفلنا شهادة ميلاد؟” أجاب الكاهن: “استخراج شهادة ميلاد لطفل حديث الولادة لا يحتاج لكل هذه التعقيدات.” نظر الكاهن للرجل الذي يريد أن يسجِّل الابن باسمه وقال: “اذهب أنت هذه المرة إلى مكتب السجل المدني، ولا تذكر لأحد قصة عثورنا على الطفل في دورة مياه الكنيسة. قل لهم: “أريد أن أسجل اسم ابني لديكم وأستخرج له شهادة ميلاد.” سيسألونك عن بياناته فقل لهم إن اسمه شنودة، واسم الأب عادل واسم الأم آمال وديانته مسيحي وبقية البيانات، وسيستخرجون لك شهادة ميلاد للطفل، ويا دار ما دخلك شر.”

رأى الكاهن أن هذه هي أسهل واقصر وأكثر الطرق أمانًا لتبني هذا الطفل وتسجيل بياناته في السجل المدني والحصول على شهادة ميلاد له دون تدخل الأستاذ محمود ولا الست فاطمة ولا حتى الأخ جرجس في الأمر.

ذهب الرجل وطلب استخراج شهادة ميلاد لابنه الذي أخذه من دورة مياه الكنيسة وسجله باسمه واسم زوجته، وعاش الأب والأم مع الابن، ربياه صغيرًا، فكان هو الدنيا كلها بالنسبة له. حلما باليوم الذي سيريان فيه الطفل طبيبًا جراحًا يخدم الناس وينفعهم بعلمه. علَّماه المحبة والرحمة والشفقة على الفقراء والمحتاجين، ولذا وعدهما بأنه عندما يصير طبيبًا سيجري العمليات الجراحية للفقراء مجانًا وسيشتري لهم العلاج، وسينشر الخير بين الناس للجميع بغض النظر عن خلفياتهم وأديانهم.

سمع الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس أن هناك طفلًا يعيش سعيدًا في أسرة ميسورة الحال، مُحِبَّة لطفلها، وأن الطفل الصغير يذهب إلى الكنيسة ويتعلم أساسيات الإيمان بالله، سبحانه، الذي هو العدو الأول للوسواس الخناس، وعلم أن هذا الطفل وعد باستخدام الرحمة والشفقة مع الجميع وهي خصال يكرهها الوسواس بشدة في ذاتها. وعلم إبليس أن هناك بابًا صغيرًا مفتوحًا يمكنه أن يتسلل منه ليدمر حياة هذا الطفل، وهو باب التبني في المجتمع الإسلامي المصري، فعقد اجتماعًا مع أرواح قادة قوات الشر الروحية في السماويات، وكان من بينهم روح ضد المسيح، وروح الخوف، وروح الغي، وروح النوم العميق.

افتتح إبليس الجلسة بلوم القادة وتبكيتهم على تركهم الطفل الذي أصبح عمره الآن أربع سنوات، تركهم له ليتربى سعيدًا مستريحًا وفوق الكل مسيحيًا مع أسرته المتدينة. بدأ روح ضد المسيح بالدفاع عن نفسه بالقول: “لقد حاولتُ أن أقنع المرأة التي ولدت الطفل بألا تتركه في الكنيسة بكل الطرق، واقترحت عليها أن تتركه أمام المسجد المجاور للكنيسة، ووعدتها بأن أصحاب الخير والقلوب الرحيمة من المسلمين سيعتنون بالطفل، والمولى، كما يسمونه الأرضيون، سيدخله فسيح جناته لأنه سيكبر مسلمًا لا نصرانيًا من الضالين، لكنها رفضت هذه الفكرة بكل قوتها. وعندما فشلتُ في إقناعها بوضعه أمام الجامع قلتُ لها: ”إذن ضعيه على الرصيف بعيدًا عن الكنيسة والجامع.“ حاولتُ أن أخفي عنها حقيقة أن طفلها سيكون مسلمًا في النهاية في كل الأحوال لأن الإبلاغ عن وجود طفل في الشارع بلا أب ولا أم معروفين سينتهي به على كل الأحوال في الإسلام، لكنني أيضًا فشلتُ في ذلك تمامًا، فالأم مسيحية الأصل، ولها ظروف خاصة قوية أجبرتها أن تقتل داخلها مشاعر الأمومة، فأصرت على تركه في دورة مياه الكنيسة.” سأل إبليس بغضب: “ولماذا لم تقتله بأن تجعل أحد الداخلين إلى دورة المياه يدوسه ويقتله تحت قدميه، وكأن الأمر حدث دون قصد من القاتل، وكنا قد تخلصنا من هذه المأساة؟” أجاب روح ضد المسيح: “حاولتُ مرارًا كثيرة لكن كما علَّمتنا وكما نعلم جميعًا فإننا لا نملك قتل الأطفال خصوصًا مَنْ هم مثل هذا الطفل، إلا إذا أراد خالقهم قتلهم. ولا تنسَ أن الأطفال عند موتهم دون سن الإدراك وقبل أن يخطئوا ويرتكبوا المعاصي يذهبون إلى السماء مع عدونا المسيح في كل الأحوال، وبذلك نكون قد خسرنا هذا الولد إلى الأبد. ولذا رأيتُ أن أستبقيه ولا أقتله حتى يكبر ويخطئ، ويزداد ثقل ميزان سيئاته عن حسناته فيموت وينضم إلى صفوفنا، فنحن لا نحاول قتل إلا مَنْ كانوا بالغين، فلو كان هذا الطفل من البالغين لكنتُ قد أوحيتُ إليه بقتل نفسه.” سأل إبليس: “وما هي اقتراحاتك الآن يا روح ضد المسيح؟” أجاب الروح: “أقترح إبعاد هذا الطفل عن المسيح وعن الكنيسة تمامًا، وذلك أمر سهل وبسيط وليس بالعسير عليَّ.” قال إبليس: “كيف؟” قال روح ضد المسيح: “سأرجع أمر هذا الطفل إلى الحكم عليه من خلال الشريعة الإسلامية، فقد قطعنا مشوارًا طويلًا في هذا المجال، وأقنعنا المصريين جميعًا بأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي القول الفصل في أية قضية تخص المصريين، مسيحيين ومسلمين، كبارًا أو أطفالًا، كما هو الحال في مثل قضية هذا الطفل، حتى لو كان هذا الطفل مسيحيًا.” قال إبليس بغضب لكل قادة أرواح الشر الروحية في السماويات: “إياكم أن تشفقوا على طفل أو كبير أو صغير، ولا على أمه أو أبيه.”

ثم سأل روح الخوف: “وأنت ما هو دورك وما ستعمله في هذه القضية؟ قال: “إن دوري الأساسي هو أن أخيف عائلة هذا الطفل من أن تطالب بحقها في كتابة الطفل وتسجيله باسمها، أو استرجاع الطفل، أو تصعيد الأمور إلى أكبر الرئاسات في مصر بطريقة رسمية قضائية، ورفع القضايا ضد مَنْ اختطفوا طفلها، كما سأخيف كل الرئاسات الكنسية في مصر من مختلف الطوائف والمذاهب حتى لا يساندوا أهله أو يتكلموا عن هذه القضية أو يطالبوا المسئولين الدينيين الإسلاميين أو السياسيين بأن ينقذوا هذا الطفل من مأساته، وسيدفنون رؤوسهم في الرمال كعادتهم وكما يفعلون في كل مرة عندما يحدث أمر خطير قد يؤدي إلى صراع بين المسيحيين والمسلمين.”

خاطب إبليس روح الغي وقال: “وأنت، ما دورك في هذه القضية؟” قال: “سأجعل الصحافة والأعلام والبرامج التليفزيونية العالمية والمحلية تتكلم عن هذا الأمر لمدة أيام قليلة أو أسابيع قليلة ولكن دون أن يصلوا إلى نتيجة حاسمة من كل هذه الضجة الإعلامية حول هذا الطفل.” قال إبليس: “براڤو عليك. اشرح لزملائك الغرض من وراء خطتك الإعلامية هذه.” قال روح الغي: “أولًا، نحن لا نستطيع أن نوقف كلام الناس ونقاشهم حول هذا الأمر، ولذا فينبغي علينا أن نشجعهم على أن يتكلموا ويتباحثوا فيه بتسهيل منا، وتحكم من جهتنا فيما يقال وما لا يقال. ثانيًا، سنصور للناس أن الجميع متساوون في كل شيء، مسيحيين ومسلمين، متساوون حتى في بحث قضاياهم على البرامج التليفزيونية الحكومية وغير الحكومية، وخاصةً عند استخدام مذيعين ومذيعات مسلمين ومسلمات في الدفاع عن هذا الشنودة، حتى نبعد انتباه العامة لحقيقة أن ما حدث مع هذا الطفل هو لكونه مسيحيًا ليس إلا، ودليلنا على ذلك هو أن هناك مذيعين مسلمين يتكلمون ويدافعون عن هذه القضية. الأمر الثالث هو أنه بكثرة الكلام والبرامج واللقاءات مع الأسرة التي تبنت هذا الطفل سيضيع التركيز على لب الموضوع، وسيصبح الكلام فيه مكررًا ومُعادًا فيفقد أهميته التي كانت له عند أول إعلان عنه، مع أننا سنصور للناس أن هذا الموضوع هو أهم موضوع على الشاشة العربية والدولية في هذه الأيام. رابعًا، سنقنع المسئولين الحكوميين في مصر أن هذا ليس دورهم في الحكم على هذا الأمر أو قرارهم لإرجاع الطفل لعائلته، وهذا سهل علينا جدًا، فقد نجحنا في فعله في كل مرة كان هناك أمر يخص المسيحيين، ودفعنا المسئولين بأن يعلقوا الأمر كله في يد القضاء، فليس لأحد أن يتدخل في قرارات القضاء والنيابة حتى لو كان الكبير في مصر. والقضاء يحتاج إلى شهور ليبت في أية قضية مهما كانت أهميتها وتأثيرها على الناس، وفي هذه الحالة سنجعل هذه القضية تأخذ سنين حتى يُحكم فيها. وقتها سيكون الطفل قد كبر ونسي أباه وأمه وتربيته ومسيحيته وكنيسته وأصبح مسلمًا قلبًا وقالبًا. أما الأمر الأخير فهو أننا سنركز في كل حديثنا عن هذه القضية على أن الأب والأم قد ارتكبا خطأً قانونيًا وتزويرًا في أوراق رسمية بنسب الابن لهما ولم يتبعا الخطوات والمطالب الحكومية والقانونية والدينية والأمنية في تسجيل واستخراج شهادة ميلاد ابنهما، وبهذا يبدو أمام الجميع أن المسئولين في مصر قد عطفوا وتسامحوا مع الوالدين، مع أنه كان من المفروض أن يأخذوا الطفل ويحاكموا الرجل والمرأة اللذين ادعيا أنهما والده، لكن لكرم المسئولين وأخلاقهم وطيبة قلوبهم ونصرهم للغلابة والمساكين من الشعب، ولسماحة الإسلام وتعاليمه معهما، فقد أخذ المسئولون الطفل فقط وأطلقوا سراح الوالدين دون محاكمة أو عقاب. وكل ما تقدم هو من صميم عملنا كأرواح الغي التي تبعد الناس عن معرفة الحق وتجعلهم يرون الباطل وكأنه الحق، ويرون الحق وكأنه الباطل.

سأل إبليس روح التدين وقال له: “قبل أن ننصرف لتنفيذ خطتنا، ماذا أعددت للناس بشأن هذا الطفل؟” قال روح التدين: “سأجعل الناس يرون عظمة التعاليم الإسلامية بتحريم التبني، وقد استخدمتُ بالفعل أكبر الرؤوس الدينية الإسلامية في شرح عظمة تشريع عدم التبني، والسبب في تطبيقه حتى على المسيحيين المصريين. وسنعمل كل جهدنا، أنا وزملائي رؤساء أسلحة الحرب الروحية في السماويات، لكي يبقى الحال على ما هو عليه.” رفع إبليس الرئيس العام يده اليمنى، فرفع معه الحاضرون أيديهم ورددوا قسم مملكة الظلمة: “أقسم بالشيطان العظيم، لأغوين عبادك الصالحين. سأغيِّر شكلي إلى شبه ملاك نور لخداعهم، وسألدغ كالعقارب والحيات أعقابهم، وسأهجم عليهم كأسد زائر يجول ملتمسًا مَنْ يبتلعه هو.”

وبعد نهاية الاجتماع، ذهب روح الكذب وقال لوالدي الطفل شنودة: “خذا الولد واذهبا به إلى النيابة حسب الأمر الكتابي الذي جاءكما منها، وسيُعرض الطفل على النيابة وسيرجع معكما إلى البيت ويا دار ما دخلك شر.” ثم جاء روح الخوف وقال لهما: “إن لم تذهبا بالولد إلى النيابة فسيؤخذ منكما عنوة وستتم محاكمتكما وإدانتكما لأنكما لم تبلغا عن الطفل يوم أن أعطاكما إياه الكاهن، وبالتالي فهذا تزوير في أوراق رسمية، ولذا لن تروه فيما بعد، فاذهبا أنتما به فهذا خير لكم وأبقى.” قامت الأم باصطحاب الولد وذهبت إلى النيابة، وسبق روح ضد المسيح ومساعده روح التدين الأم وولدها إلى النيابة وأقنعا وكيل النيابة بالحقيقة القرآنية “إن الدين عند الله الإسلام”، وبأنه حيث إن هذا الطفل غير معلوم الأب والأم فهو بالفطرة لا بد أن يكون مسلمًا حتى لو عُثر عليه لا في دورة مياه الكنيسة فحسب، بل حتى إذا وُجِد على مذبح الكنيسة وداخل هيكلها. وحذَّره روح التدين وقال له: “لو سمحت للولد بأن يرجع مع المسماة أمه ليتربى معها مسيحيًا فستكون قد ارتكبت معصية لا مغفرة لها، معصية ضد المولى نفسه سبحانه وتعالى بأن جعلت طفلًا بريئًا من الضالين وليس على صراط الذين أنعم الله عليهم.” وقال روح ضد المسيح لوكيل النيابة: “تذكَّر أنهم (ما قتلوه وما صلبوه ولكن قد شُبَّه لهم)، فلا تشترك معهم في ضلالهم وضلال هذا الطفل المسكين، وإلا فستكون في الآخرة والعياذ بالله من الخاسرين. واعلم أنك إن حكمت بأن ينفصل هذا الطفل عن المدعيين أبوته وأمومته، وأمرت بأن يكون هذا الطفل مسلمًا ويتربى في دار رعاية إسلامية فسيُكتب هذا في ميزان حسناتك يوم القيامة، وستصبح بإذن الله في الآخرة من الرابحين.” لذا صمم وكيل النيابة على الحكم بفصل الطفل عمن ربياه صغيرًا، وأرسله إلى دار رعاية إسلامية، وتم تغيير اسمه وديانته في شهادة ميلاد كُتبت أخيرًا وبكل سهولة له، ولم يسمح المسئولون عن دار الرعاية الإسلامية لوالديه برؤيته بعد ذلك. ولا يزال الحال على ما هو عليه وعلى المتضرر اللجوء إلى القضاء الذي أؤكد أنا له أنه لن ينصفه.

أفقتُ من تخيلاتي وتحليلاتي وشروحاتي لما حدث مع الطفل شنودة لأقول للمسئولين، سواء مسئولية مباشرة أو غير مباشرة في مصر عن هذه القضية: “إن الله لا يُشمخ عليه، فقد يبدو سبحانه صامتًا غائبًا أو كمسافر في الأرض يميل ليبيت ولا يكترث بما يحدث فيها إلا أنه هو مالكها، فللرب الأرض وملؤها المسكونة والساكنين فيها، وهو مالك يوم الدين، ويومًا ما سيقف كل عبد وكل حر، كل رجل وامرأة، ملوك الأرض وقضاتها ووكلاء نيابتها ومنفذو أحكامهم على خلق الله، سيقفون جميعهم أمامه سبحانه، لينال كل واحد منهم ما فعل بالجسد خيرًا كان أم شرًا.” وأقول للمسيحيين المغيبين: “لن ينصفكم أحد في أية قضية، فإن ينصركم الله فلا غالب لكم، وما أُخذ وخُطف بالقوة لا يُسترد بغير القوة. لا تنتظروا من الرئاسات الكنيسة أن تدافع عنكم فهي لن تفعل لسبب أو لآخر، ومَنْ يسكت سكوتًا في مثل هذه المواقف والأحداث الجسام، سيأتي الفرج بعيدًا عنه، من عند الله، وهو وبيت أبيه سيبيد، ولن يرحمكم الله من الاضطهاد الواقع عليكم إلا بعد أن تتذكروا وتعيشوا وتنفذوا قوله تعالى: “إن أغلقت السماء ولم يكن مطر وأن أمرت الجراد أن يأكل الأرض وأن أرسلت وبأ على شعبي، فإذا تواضع شعبي الذين دعي اسمي عليهم وصلوا وطلبوا وجهي ورجعوا عن طرقهم الرديئة فأني أسمع من السماء وأغفر خطيتهم وأبرئ أرضهم.”

اللهم أني قد أبلغتُ اللهم فاشهد.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا