الديموقراطية ورئيس الجمهورية

2

العدد 70 الصادر في يوليو 2011
الديموقراطية ورئيس الجمهورية

    جاءتنى مكالمة عاجلة وغريبة، إلى حد ما، من أحد أصدقائى الرعاة الشباب  بالعراق وقت انتخابهم لرئيس الجمهورية العراقية. وبعد السلامات والتحيات والسؤال عن الأولاد والبنات، قال لى صديقى إن السبب الذى دفعه لكى ما يتحدث إلى هو أنه يحتاجنى لكى أساعده هو وكنيسته فى اختيار المرشح العراقى لرئاسة الجمهورية العراقية. وقال صديقى: لقد قررنا أن نستشيرك فيمن ينبغى أن ننتخبه رئيساً للجمهورية العراقية. ثم أضاف: والشخص الذى ستطلب منا انتخابه سننتخبه جميعاً بلا تردد، فأنت إنسان روحى ونحن نثق فيك وفى نظرتك للأمور و..و..و.

    وبينما كان صديقى يعدد ما يراه فىّ من حسنات ومؤهلات (من وجهة نظره بالطبع، وليست بالضرورة متوفرة فيّ حقاً) والتى تجعلنى أهلاً لمساعدته فى اختياره لرئيس جمهوريته، كنت أقول لنفسى: ما هذه الطفولة والسطحية؟ كيف يفكر هذا الرجل بهذه الطريقة الطفولية؟ فهل لمجرد أننى إنسان روحى (كما يرانى هو) وعندى- مهما كان ما عندى- من خبرات، هل هذا يؤهلنى أن أختار له ولكنيسته المرشح الذى ينتخبونه لرئاسة الجمهورية العراقية؟ فأنا لم أعش فى العراق طوال عمرى، أنا فقط زرتها خمس مرات، وأنا لا أتابع أخبار العراق كل يوم عن قرب كما أتابع الأخبار المصرية بالطبع، حيث إن الحالة هناك مستقرة إلى حد ما، على الأقل فى تلك الأيام، وأنا لم أسمع عن كل المرشحين لرئاسة الجمهورية العراقية من قبل، وفوق الكل أنا لست عراقياً، فكيف يطلب منى هذا الأخ مثل هذا الطلب الغريب؟ احترت للحظات فيما يجب أن أقوله له، فثقته بى كبيرة ولست أريد أن  أخذله، ولكن فى نفس الوقت كيف لى أن أحدد للعراقيين من سينتخبونه ليكون رئيساً لجمهوريتهم؟

    شعر صديقى بترددى فى إجابته على سؤاله فقال أعلم أننى أطلب منك طلباً غريباً وخاصة أنك لست عراقياً، لكن هذا أيضاً غير مهم، فأنا أسألك عن المبدأ وليس عن اسم شخص تحدده لنا لانتخابه. سألته: ماذا تقصد؟ قال ما هى المبادئ التى ينبغى أن تتوافر فى الشخص الذى نعطيه أصواتنا ليصبح رئيسنا؟ فنحن فى العراق ككنيسة لم نتعود الذهاب لصندوق الانتخابات من قبل، بالطبع دون أن نتجرأ على الإعلان عن مقاطعة أية انتخابات، فإحساسنا أن أصواتنا لا قيمة لها وأن صدام حسين هو الرئيس إن قلنا نعم أو لا، جعلنا نحجم كل أعمارنا عن المشاركة فى الانتخابات. قلت له: نعم، هكذا نفس الحال عندنا فى مصر. أكمل صديقى وقال: واليوم وبعد أن انزاحت الغمة ولم يعد هناك صدام حسين، فنحن العراقيين نريد أن نشارك بحق فى انتخاب رئيس جمهوريتنا، ونحن نرى ككنيسة أننا إن لم نشارك فى الانتخابات وقاطعناها كما كنا فى الماضى ستكون هذه خطية علينا، فالسلبية فى نظر كنيستنا والتقاعس عن المشاركة فيما ينفع بلادنا خطية ينبغى أن لا نرتكبها، وينبغى أن نتوب عنها ونعترف بها، حيث إننا قد ارتكبناها فى الماضى مراراً كثيرة بغض النظر عن الأسباب التى دفعتنا لذلك، فالخطية خطية بغض النظر عن مسبباتها وظروف ارتكابها. كان صديقى يتكلم بكل جوارحه وحبه المتدفق نحو العراق وشعبه. قلت لصديقى هذا شعورعظيم وكلام جميل وعمق روحى من جانبك تشكر عليه، لكن أين المشكلة فى أن تذهبوا وتنتخبوا واحداً من المرشحين لرئاسة الجمهورية؟ قال صديقى: المرشحون لرئاسة الجمهورية، واحد منهم موالٍ لإيران ويريد أن يحكم العراق بالشريعة الإسلامية الشيعية، والثانى من السنة الذين لا مانع لديهم من التعامل حتى مع تنظيم القاعدة حتى يقمع الشيعة العراقيين ويكسر شوكتهم، وهو بالطبع ضد كل ما هو مسيحى، والثالث كردى، والرابع كذا، والخامس كذا، وأنا لا أريد كراع لكنيستى أن أزكى أحدهم، لأنى أعتبر نفسى شريكاً ومسئولاً عن أعمال من أنتخبه، فكيف لى أن أزكى شخصاً أعلم أنه يعمل بروح ضد المسيح لتدمير المسيحيين العراقيين؟ وكيف لى أن أوافق على شخص أعلم أنه سارق ولص وذو وجهين وبلا ضمير؟ وكيف لى أن أنتخب شخصاً لا خبرة له فى أى عمل سياسى من قبل، فهو مرشح الأمريكان للرياسة، وكيف.. وكيف.. وكيف أوجه شعب كنيستى لانتخاب مثل هؤلاء؟ أليست هذه أيضاً خطية وذنباً عظيماً؟

    والحق يقال، لم أفهم عمق سؤال صديقى العراقى وسبب الأزمة التى كان فيها مثلما فهمتها وأعيشها اليوم، فهناك فرق بين أن تسمع عن مشكلة ما وأن تعيشها، فرق بين أن تحاول أن تساعد صديقاً لاتخاذ قرار ما وأن تكون أنت صاحب القرار، فرق بين أن تساعد رفيقاً على انتخاب رئيس لجمهوريته وأن تنتخب أنت رئيس جمهوريتك، فكلما اقترب ميعاد الانتخابات المصرية لاختيار الرئيس القادم ازددت حيرة فيمن أنتخب رئيساً للجمهورية. فمرات أفكر أن مصر لم تعد مصرنا التى كنا نحلم بها، فلماذا الاهتمام بهذا الأمر أو حتى التفكير فيه ووجع الدماغ؟ فنحن كمسيحيين صرنا غرباء عن مصر غير مرغوب فى بقائنا فى بلاد كانت يوماً بلادنا، فبعد أن جاء المستعمر الإسلامى لبلدنا ومحا تاريخنا، وشتت شملنا، وأنسانا لغتنا وثقافتنا وعلمنا، وغرس فينا قومية ليست لنا، واليوم تحكم فى أولادنا وأرزاقنا وأحلامنا ودور عبادتنا وعلاقتنا بربنا، فليس لنا أن ننتخب رئيساً ولا وزيراً لنا. فالرئيس سيكون رئيسهم، والوزير سيكون لتلبية رغباتهم، ولن يلتفت لنا كمسيحيين إلا من يزايد على أصواتنا، ونحن نعلم جيداً أنها التفاتة مؤقتة حتى يتولى العرش وبعدها ستخيب آمالنا، وهى التفاتة لغرض سرعان ما ستنتهى بانتهاء تحقيق الهدف منها، وليس بعدها إلا نسياننا. ومرات أخرى أقول لنفسى لا، فمصر هى مصرنا وأرضها وترابها يحمل خلايا أجدادنا وإخوتنا وأخواتنا، فلن نكف عن الجهاد لإعادتها لنا. ولكن من ننتخب رئيساً لنا؟ وهل ننتخب أم لا ننتخب؟ وإن انتخبنا فهل ننتخب مرشحاً من الإخوان الذين يؤمنون أن لا حق لنا فى بناء كنائسنا فى أرض اغتصبوها منا وقالوا لنا بالقوة إنها أرضهم، وأننا كنصارى أهل ذمة ورعايا وأنه ليس من حقنا أن يرشح أحدنا نفسه لمنصب رئيس الجمهورية؟ أم ننتخب من يتلون بكل لون فهو مع الإخوان إخواني ومع العلمانيين علماني ومع المسيحيين، فى الخفاء فقط، مسيحي؟ أم أنه من الأفضل لنا أن ننتخب كلباً من كلاب السلطة القديمة (وهذه ليست شتيمة لكنها تعبير مجازي) ومن سلالة الحزب الوطنى “وأهو اللى تعرفه أحسن من اللى ما تعرفوش”؟ هل نصلى للمولى أن يساعد الناس على انتخاب مرشح بعينه؟ وهل هناك من هو مرضي عند الله حتى يطلب من الناس انتخابه؟ أم أننا لابد لنا أن نتبع نظرية اختيار أحسن الوحشين؟ وهل هناك مقاييس ثابتة واحدة تطبق على كل المرشحين حتى نعرف من هو أحسن الوحشين؟ فمن البديهى أن المرشح لمنصب رئيس الجمهورية لابد أن تتوافر فيه الصفات الآتية:

    1- لابد أن يكون دافعه الوحيد للترشح هو إحساسه الوطنى الصادق بأنه مثقل بخدمة وطنه وأرضه وأهله والتضحية لأجلهم وهو على استعداد أن يتحمل كل الصعاب من أجل رفعة هذا الوطن وخدمة أبنائه.

    2- لابد أن يكن له من الدراسة والخبرة العملية فى مجال العلاقات المحلية والدولية ما يؤهله لتولى هذا المنصب الخطير. وواضح أن هذا الشرط لن يتحقق فى أحد من المصريين، فقد نجح الرئيس السابق فى أن يحتفظ بكل العاملين معه فى الظل بعيداً عن كل خبرة نظرية أو عملية يمكن أن تؤهل أحدهم لرئاسة الجمهورية لكى لا يكون منافساً لجماله المبارك.

    3- لابد أن تترجم هذه الخبرة النظرية والعملية إلى خطط وبرنامج عمل وإحصائيات وأدلة وإثباتات يطرحها المرشح على الناخبين ويكون مستعداً لمجاوبة المؤيدين والمعارضين له وحتى المفترين الحاسدين والطامعين فى نفس المنصب لسبب أو آخر. وواضح أن هذا الشرط أيضاً لا يتوفر فى أى من المرشحين وهو نتيجة طبيعية لإقصائهم عن ممارسة العمل السياسي كل هذه السنين، فلا يكفى أن يكون المرشح من أولياء الله الصالحين ذا زبيبة عريضة وقدرات خارقة فى الخطابة وتحميس الناس وإقناعهم بوجهة نظره حتى يصلح للرئاسة، ولا يكفى أن يكون مديراً للجنة الطاقة الذرية وقام بزيارة الكثير من دول العالم والتقى بزعمائها لمدة ساعات لمراقبة برامجها النووية، ولا يكفى أن يكون من عائلة السادات حتى يظن فى نفسه أنه قادر على تحمل المسئوليات الرئاسية، فيكفينا سادات واحد وما دمره فى بلادنا وعقولنا وكنائسنا ومعتقداتنا، ولا يكفى حتى أن يكون وزيراً سابقاً أو رئيس وزراء، فالرؤساء الثلاثة السابقون لم يعطوا فرصة لأحد ليحل مكانهم عند غيابهم لسبب بسيط، لأنهم لم يكونوا مقتنعين أنهم سيتركون الحكم وهم أحياء عملاً بمقولة الفنان عادل إمام فى مسرحية الزعيم: “هو فى زعيم بيموت يا باشا؟”.

    4- الرئيس المنتخب لا بد أن تكون له مواقف عملية سابقة أظهر فيها اتجاهاته وانتماءه بعيداً عن عدسات المصورين وبرامج المذيعين. فمن يصرح أن الكتاب المقدس هو كتاب مكدس وأنه محرف وأن الأديرة والكنائس هى مخازن للذخيرة يعدونها لحرب قادمة بين المسيحيين والمسلمين، لا يصلح لأن يكون رئيساً لمصر، ببساطة لأن مصر بها أكثر من 15 مليون مسيحى ولهم خبرات سيئة مع مثل هذا المرشح.

    5- لابد أن يكون معتدلاً غير محاب لجماعة على حساب الأخرى، منصفاً صادقاً مع نفسه ومن انتخبوه، ساعياً لتحقيق كل ما وعد به الناس فى فترة دعايته الانتخابية. فما أكثر الوعود المقدمة للشعوب مع علم قائليها أنها من رابع المستحيلات فى تنفيذها. وكيف يكون معتدلاً وهو المحتاج لأصوات فئات بعينها غير متكافئة فى العدد والإيمان والمعتقدات مع بعضها؟ فالطبيعى أن أى مرشح لابد أن يرضى الأغلبية، والأغلبية المصرية تكره الأقلية ولا تعتبرها جزءاً من هذا الوطن.

    6- لابد أن يكون مأخوذاً من الشعب بطريقة ديمقراطية، لا عسكرية انقلابية ثورية كما تعودنا فى بلادنا العربية جمعاء منذ زمن بعيد. لكن الديمقراطية وحدها لا تكفى فالديمقراطية لفظة إغريقية تعنى حكم الأغلبية، والأغلبية هى 50% + 1 أو أكثر. وفى القديم كانت الديمقراطية تصلح لحكم الشعب نفسه بنفسه عن طريق ممثليه المنتخبين بطريقة حضارية حرة أمينة، لأن الناس كانوا يفصلون بين الدين والدولة، ولم يكن هناك هذا الكم الهائل من الأحزاب والتيارات السياسية المتضاربة المصالح والأهداف، ولم تكن هناك هذه الكمية من المشاكل والانقسامات، أما اليوم فالانتخابات الديمقراطية فى مصر تعنى الحكم الإسلامى سواء أكان سلفياً أم معتدلاً وهذا طبيعي حيث إن 80% من المصريين مسلمون، وهذا ما ظهر جلياً فى معركة الصناديق واستبقاء الدستور القديم. وإذا أردنا استخدام الطريقة الديمقراطية فى معرفة حكم بناء الكنائس فى مصر فإن أكثر من نصف المصريين سيصوتون بطريقة ديمقراطية بعدم بناء الكنائس فى أرض المسلمين وغيرها من الأمثلة الكثير. فهل حقاً تصلح الديمقراطية اليوم فى انتخاب رئيس جمهورية عربية؟ وإن كانت الديمقراطية لا تصلح، فما الذى يصلح لاختيار رئيس الجمهورية؟ وهل تتوفر كل هذه النقاط فى شخص مرشح واحد فى مصر؟

    إن مسألة استخدام الديمقراطية فى اختيار رئيس الجمهورية لابد أن يسبقها وضع وتفعيل أسس ومبادئ حقوق الإنسان، وهذه الأسس والمبادئ تكون ملزمة للجميع حاكماً ومحكوماً ولا تكون مطروحة على الناس للاستفتاء عليها حتى بطريقة ديمقراطية، فهذه الأسس والمبادئ تم الاتفاق والتوقيع عليها من قبل الدول المختلفة فى معاهدات دولية واجتماعات عالمية، ولم يطبق منها إلا القليل جداً فى بلادنا العربية. فالديمقراطية لا تعنى تجاهل الأقلية العرقية أو الدينية. والديمقراطية لا تعنى تطبيق شريعة دينية على أقلية لا تؤمن بها حتى لو وافقت الأغلبية على ذلك. فما أتعس الديمقراطية التى تسود فيها الأغلبية على الأقلية فتتحول الديمقراطية ذاتها إلى ديكتاتورية مقنعة.

    سألنى صديقى العراقى فى النهاية وقال: ماذا نفعل؟ قلت له إن المولى سبحانه وتعالى هو وحده المتسلط فى مملكة الناس، هو ينصب ملوكاً ويعزل ملوكاً، وهو يقيم رؤساء ويقصى رؤساء، فإذا أراد المولى معاقبة أمة على شرورها وعصيانها وتمردها عليه -تبارك اسمه- سلط عليها مولى قاسياً وحبسها فى فقر وجهل ومرض حتى تتوب عن شرورها وترجع لإلهها فيرحمها ويفرج كربها، فحتى أولئك الملوك والرؤساء الأشرار هو يسمح بتوليهم الحكم على شعوبهم ثم يتركهم لشرورهم، وفى النهاية ينفخ فيهم ليؤدبهم ويطردهم من مناصبهم وممتلكاتهم. لذا فاسأل المولى عن من يريدك أن تنتخبه كرئيس لك، ولا تتعجب إن كان اختياره قد يبدو وكأنه اختار أسوأهم، فهو الله كلى الحكمة والعلم وهو فعال لما يريد، وفى النهاية لا ترتع ففوق العالى عالياً والأعلى فوقهما.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا