الخطاب الديني بين التجديد والتصعيد في العام الجديد

1

العدد 148 الصادر في يناير 2018
الخطاب الديني بين التجديد والتصعيد في العام الجديد

   لا شك أنه ليس هناك مواطن واحد على أرض مصر لم يسمع بشكل أو بآخر، ومن شخص أو آخر عبارة “تجديد الخطاب الديني”، وخاصة بعد أن قالها الرئيس السيسي في خطبه أكثر من مرة، وتداولها من قبله ومن بعده رجال السياسة والصحافة والدين كلٌ على هواه ولتحقيق أغراضه، مخلصة كانت أم مغرضة، لكن هناك عدة مشاكل وقضايا جوهرية متعلقة بترديد هذه الجملة التي فقدت معناها وأهميتها وتأثيرها على المرددين لها والمستمعين إليها.

   فواحدة من أهم هذه المشاكل هي الاتفاق حول تعريف ما معنى الخطاب الديني، وأي دين أو أديان نتكلم عنها هنا، وما معنى كلمة تجديد هل التجديد يشمل ما ورد في أصل التعاليم الدينية والكتب التي يؤمن تابعوها أنها منزلة من عند الله، سبحانه وتعالى، أم في فهمها وطريقة تطبيقها على الواقع اليومي المعاش، أم أن المقصود هو شيء آخر تمامًا لا نعرفه أو يمكننا إدراكه بعقولنا البسيطة؟؟. ثم من هو المنوط به تجديد الخطاب الديني: هل قادة الدولة الذين يمكنهم عمل أي شيء، بأي شكل، وفي أي وقت بمالديهم من طرق ووسائل كثيرة لتحقيق ذلك سواء باللسان أو اليد أو حتى القلب وهذا أضعف الإيمان، أم القادة الدينيون في كل دين؟، فقادة الكنيسة هم الوحيدون القادرون على تجديد الخطاب الديني المسيحي، بما أعطوه لأنفسهم من مفاتيح سلطان الحل والربط والمنح للبركة والمنع لها والحرمان من المعمودية والتناول والصلاة حتى على الميت المسكين في كنائسهم، والطلب من القادر على كل شيء، الفعال لما يريد -تبارك اسمه- أن يفتح السماوات له أو أن يغلقها في وجهه، وهم الذين لديهم المعرفة بأقوال الآباء وتفسيرها بما يناسب الاحتياج والظروف والمتغيرات، لكنهم في نفس الوقت هم المغلوبون على أمرهم والمحصورون بين السياسيين والمتدينين والمتطرفين والمغيبين من العامة والخاصة، فهم مغلولوا الأيدي حتى لو فتح الله بصائرهم وقرروا التدخل لتجديد الخطاب الديني المسيحي، أم أن الفئة الوحيدة القادرة على تجديد الخطاب الديني الإسلامي هم شيخ الأزهر ومجلس علمائه، فهم الذين يملكون مفاتيح المعرفة والعلم بما أعطاهم إله الإسلام من سور وآيات وأحاديث ومناهج، ولهم وحدهم امتياز إطلاق الفتاوى والسلطان الروحي والزمني على إجبار العامة وحتى الدولة ورجالها على قبول ما يقررونه من الحلال والحرام، وما يجلب الثواب أو العقاب، وما يعتبر من الكبائر وما يرون هم أنه من الصغائر، أم أن الأمر ليس في يد كل هؤلاء بل في يد المولى وحده وهو الذي لابد له أن يجد لنا طريقة من سمائه، تعالى، تجبرنا جميعًا أقباطًا ومسلمين على تغيير وتجديد الخطاب الديني وما ورثناه من موروثات دينية من أجدادنا والتي ليست من عنده جل شأنه، بل من نفوسنا المريضة التي لا يمكن شفاؤها إلا به، تبارك اسمه؟؟

   أما معنى عبارة “الخطاب الديني”، فكما ورد بالكثير من الدراسات والتعريفات وخاصة الإسلامية منها، فإن لفظة “الخطاب” كلمة عربية فصيحة مستخدمة حتى في أيامنا هذه، والأصوليون كانوا يستخدمونها كثيرًا. والخطاب هو المحاورة والمحادثة بين طرفين، ونسبتهللدين يقصد فيها الخطاب الذي يعتمد على مرجعية دينية في مخاطبته وأحكامه وبياناته. والخطاب الدينيهوما يطرحه رجال الدين، أي دين، والمنتمون إلى المؤسسات الدينية على اختلافها وتباينها في بيان الدين والشريعة سواء أكانت هذه الأديان منزلة من المولى الخالق أو مؤلفة من العبد المخلوق أو حتى موحى بها من الشيطان نفسه كعبدة النار والحجر والشمس وغيرهم.

   ويرى البعض أن عبارة، تجديد الخطاب الديني، تعني وجوب القيام بمراجعة جذرية وشاملة وعميقة، لا لأصل النصوص الدينية المنزلة، فهذه لا يمكن المساس بها، أو تجديدها أو تغييرها، فهذا من شأن من وضعها وانزلها، تبارك اسمه، بل التجديد يكون للطرق والأساليب والقوالب والصيغ وللمناهج التي تعتمد في مجال تبليغ مبادئ الدين وأحكامه وتوجيهاته ومقاصد شريعته إلى الناس كافة، ونشر رسالته التي تسعى إلى الخير للإنسانية جمعاء، على نحو يجلي الحقائق، ويدحض الأباطيل، ويفند الشبهات، ويوضح معالم الحق للخلق أجمعين، ولكل من يرغب في اكتساب المعرفة الصحيحة عن الدين.

   ومع أهمية وضرورة وحتمية تجديد الخطاب الديني واتفاق الأغلبية العظمى على ذلك إلا أن الفهم الخاطئ، والتخيلات التي لا أساس لها من الصحة أو الواقع، والأغراض الشخصية، والمؤامرات الشيطانية، غالبًاما تكون سبب لردود أفعال العامة أو فوران وهيجان البعض، أو ارتكابهم لحماقات ما كان ينبغي أن تحدث، لمجرد سماعهم عبارة تجديد الخطاب الديني، فالبعض يظن أن تجديد الخطاب الديني يعني التغيير في صحيح الدين، ونسخ بعضه، أو الإطاحة ببعضه، وتلميع بعضه الآخر حتى يتناسب الخطاب الديني مع حياتنا المعيشية اليومية، ولذا فيرى البعض أن من رابع المستحيلات أنه يمكننا تجديد الخطاب الديني الذي نستخدمه حاليًا، فهذا معناه التعدي على الموروثات وكما عبر عن ذلك الإمام الرازي بعبارة “القدح في التواتر” أي ما تسلمناه عن أجدادنا من أمور الدين المنزلة في كتب وآيات ومصاحف وأناجيل، فعلى سبيل المثال إذا حاول المسلم تغيير خطابه الديني وخاصة الموجه للقبطي المسيحي، فكيف يمكنه أن يلغي أو يحذف أو يجدد أو حتى يخفف من وقع موروثه الديني عن إتهام النصارى بأنهم المشركون والكفار والمغضوب عليهم والضالين؟، فكيف نجدد ما جاء بالقرآن “كتب عليكم القتال” أو “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم”؟ أو كيف أغير من القول:”لقد كفرالذين قالوا أن الله هو المسيح بن مريم” ثم يضع لي حكم الكافر أو المشرك في القول:”فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب” أو كيف أغير الحديث “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله….”؟ فمما تقدم يبدو أنه من عاشر المستحيلات وليس رابعها فقط أن تتم عملية تجديد الخطاب الديني لدى المسلمين من ناحية أصحاب الوطن المسيحيين. وعلى الجانب الآخر، فكيف يمكننا تجديد الخطاب الديني المسيحي من ناحية المسلمين ونحن المسيحيين نؤمن أن ما يدعي، من وجهة نظرنا، المسلمون أنه منزل من الله هو بالحقيقة ليس من عند الله، والله الجالس على العرش الواحد الذي لا شريك له لم يرسله ولم يوح به، بل هو من عند غير الله؟. وبناء على ما تقدم يكون تجديد الخطاب الديني فكرة لا تقوم إلا في عالم التمنيات لا الحقيقة، وعلينا أن نجد طرقًا أخرى لترويض الخطاب الديني وليس تجديده وأسهلها أن نقتنع ونفعل القول:”الدين لله والوطن للجميع”، فلكل منا أن يختار أن يعبد القمر أو النار أو لا يعبد أحد وينكر وجود المعروف بالله أو أن يعبد الواحد، القادر على كل شيء، وفي عبادة الواحد يكون لكل منا الحق أن يعبد الله الواحد المثلث الأقانيم من تجسد وجاء في المهد صبيًا أو الله الأحد الله الصمد من لم يتجسد ولا يوافقه التجسد، سبحانه، فهو الذي يقول للشيء كن، فيكون، إذًا فليعبده كل منا كيفما يشاء وقتما يشاء، دون أن يحكم عليه الآخر بالكفر والزندقة واستحقاق الموت أو الحياة، القتل أو الإبقاء، قطع اليد أو الجلد أو البركة أو الحرمان وغيرها وهذا هو الحل الوحيد لهذه المشكلة، بل قل مشكلة المشاكل للإنسان في البلاد العربية.

   ولو كان ما تقدم هو الحل الوحيد لتجديد الخطاب الديني وتفعيله، فلماذا الإصرار على ترديد عبارة “تجديد الخطاب الديني”، والمطالبة الملحة باتخاذ خطوات إيجابية في هذا الاتجاه؟، وما هي الدوافع الأساسية الحقيقية وراء إطلاق هذه الصيحة في عالمنا الأصم والأعمى؟

   وللإجابة على السؤال السابق أقول، هناك عدة دوافع لدى الحكومات والزعماء والمسؤولينعن أمن أي دولة لترويجهم فكرة تجديد الخطاب الديني، ويبدو أن الدافع الأول والأهم لدى الحكومات والمسؤولين السياسيين هو حفظ البلاد والعباد من تطرف المتطرفين وتخريب المخربين وهذا أمر نبيل مطلوب، لكنه لا يكفي أن يكون الدافع الأهم والأول، فهدف تجديد الخطاب الديني الأول لابد أن يكون إظهار الدين، أي دين، على حقيقته وتنظيفه من كل القاذورات التي ربما تكون قد علقت به في طريق مسيرته في الحياة الدنيا وفي عقول الدنيويين منذ أن أنزله القدير، سبحانه وتعالي خاليًا من العيوب إلى أن وصل لنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور، وبالطبع فأنا أتكلم عن دين أو أديان سماوية أوحى بها سبحانه وليست من اختراع بشر أو جن أو شيطان، فالأخيرة لا يصلح معها تجديد في الخطاب الديني، بل لا بد لها أن تترك للمولى سبحانه وتعالي لكي يكشفها ويقضي عليها ويريح العباد والبلاد منها وهذا لن يحدث إلا في مجيء المسيح يسوع الثاني ليملك ولا يكون لملكه نهاية.

   أما الدافع الثاني: للمناداة بتجديد الخطاب الديني، فقد يكون لإلقاء تبعية فشل القادة والزعماء والمسؤولين الدينيين والسياسيين في الحفاظ على أمن بلادهم والنجاح في نشر المساواة بين مواطنيها، بالرغم من اختلاف خلفياتهم وثقافاتهم وأديانهم، إلقائها على شماعة “الخطاب الديني المتطرف”. وقد يكون بسبب الوقوف وتأييد الحاكم لفئة دون أخرى أو محاولة إرضائه لطائفة تملك القدرة على الثورة والتجمهر وتكسير المحلات وحرق الأخضر واليابس، بالمقابل بفئة أخرى تنفذ تعاليم إلهها بالحق أو حتى مجرد أنها تتشدق بـ “أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم”.

   ثالثًا: قد يكون الدافع الرئيسي لدى القادة والمسؤولين الحكوميين والدينيين للمناداة بتجديد الخطاب الديني هو تغييب الناس والحفاظ عليهم في حالة من الغي والخداع وكأن شيئًا جديدًا جميلاً على وشك الحدوث، تتغير معه طبيعة المواطن وطريقة معاملته للمخالفين له في الدين، إذا ما تم تجديد الخطاب الديني.

وهناك اعتقادان خاطئان يفرضان نفسيهما على عقل الإنسان العربي وخاصة المصري سواء أكان مسيحيًا أم مسلمًا عندما نتحدث عن تجديد الخطاب الديني، أولهما هو اعتقادنا أن الدين هو المسؤول الوحيد عن كل شيء في حياتنا سواء أكان خيرًا أم شريرًا، ونسوا أو تناسوا أن هناك لا دينيين بالمرة ومن لا يؤمنون حتى بوجود الله سبحانه ومع ذلك فهم في أغلب الأحيان يميلون للسلم والهدوء واحترام معتقدات الآخرين ولم نسمع أن أحدهم فجر كنيسة أو جامعًا أو اتهم أصحاب الأديان بالكفر أو بالضلال.

   أما الاعتقاد الثاني لدى أصحاب كل دين هو أن من يحتاجون لتجديد الخطاب الديني هم أهل وأصحاب الدين الآخر المخالف لهم، أما أتباع دينهم فلا علاقة لهم ولا يحتاج دينهم إلى تجديد خطابه الديني، وخير مثال على ذلك، فبسبب ارتباط عبارة تجديد الخطاب الديني بمكافحة الإرهاب والاعتداء على رجال الجيش والشرطة وتفجير وحرق الكنائس وقتل الكهنة ومنع المسيحيين من الصلاة؛ لذا فالمسيحيون لا يحاولون التفكير في أن لدى المسيحيين أنفسهم مالابد لهم من تجديده في الخطاب الديني المسيحي. وقد يثور بعض المسيحيين من مجرد ذكري لهذه الحقيقة وهي أن المسيحيين أيضًا يحتاجون إلى تجديد خطابهم الديني، وأن تجديد الخطاب الديني لابد أن يكون عند المسيحيين والمسلمين على السواء لنفس السبب السابق، وليس المسلمين فقط، وقد يتهمني البعض بالمحاباة لغير المسيحيين ومحاولة كسب رضائهم أو تجنب إساءات بعضهم، أو حتى بالجهل ببواطن الأمور لأنني أنادي بالمساواة بين احتياج كل من المسيحيين والمسلمين لتجديد الخطاب الديني. فكما ذكرت سابقًا يظن البعض أن تغيير الخطاب الديني هو بسبب الإرهاب والكراهية والعنف والقتل فقط، لكن ماذا عن الخزعبلات والغيبيات والمغيبات التي توارثناها عن الخطاب الديني المسيحي غير المجدد؟، وهذه القضية ليست في الإسلام فحسب ولكنني كدت أجزم أن ما يحتاج إلى تجديد في الخطاب الديني المتعلق بالغيبيات والخزعبلات والمعتقدات الخاطئة والمتوارثات الكاذبة الخادعة لهو أكثر بكثير في المسيحية عنه في الإسلام، ومع ذلك فلا يفطن لهذه الحقيقة ولخطورة تطبيقها والعيش فيها إلا القلة القليلة جدًا من المسيحيين، وإن فطنوا لها فعادة ما لا يكون لديهم القدرة والجرأة أو الوسيلة لإعلانها والوقوف بجانبها، نظراً لأن هذه موروثات قديمة توارثها ليس العامة فقط بل رجال الدين أنفسهم، بكل سلطانهم الذي أعطوه لأنفسهم على العامة، للدرجة التي معها أن رجل الشارع العادي، في معظم الأوقات، يقبل ما ويبلع ما يقوله القسيس أو الكاهن كما هو دون فهم أو تدقيق أو فحص أو مقارنة الروحيات بالروحيات، يقبله كمسلمات لابد من الاعتراف والإيمان بها وتنفيذها والدفاع عنها حتى بالأيدي إن لزم الأمر.

   وهناك عشرات إن لم يكن المئات من الأمور والعقليات المسيحية التي لابد من تجديدها وتجديد الخطاب الديني الخارج من أفواهها، فعلى سبيل  المثال لا الحصر أن يكون في الكنيسة اليوم ما يسمى بسلطان الحل والربط وتصل الأمور أن ينادي أحد الكهنة بأعلى صوته في كنيسته محروم كل من يدخل كنيسة إنجيلية، لا حل ولا بركة للي يروح عندهم، فكنيستنا غير كنيستهم وإيماننا غير إيمانهم ومسيحنا غير مسيحهم ويتم تسجيل ما قاله هذا الكاهن ونشره عن طريق أحد شهود العيان، أفلا يحتاج هذا منا كمسيحيين لتجديد الخطاب الديني المسيحي؟!

   وعندما يتكلم عن الإنجيليين أحد الأساقفة كبار السن المشاهير في لقاء تليفزيوني على الملأ ويقول لمحدثه، مقدم البرنامج وهو شخص مسلم معروف عنه التعصب ضد كل ما هو مسيحي يقول الأسقف:”الإنجيليون دول ما تكلمنيش عنهم دول مش مسيحيين ودول هيروحوا جهنم”، أفلا يحتاج مثل هذا الأسقف لتجديد الخطاب الديني، بل وتجديد عقله بالكامل حتي يعي ما يخرج من فمه ويسمعه الملايين؟! وعندما تقوم الكنيسة الإنجيلية بعمل حفلات بمناسبة المولد والميلاد أو سهرات رمضانية يحييها نجوم الفن الغنائي المسيحي والمسلم ويعقب الاجتماع طعام الفطور، أفلا يحتاج مثل هؤلاء المقيمين لمثل هذه الحفلات إلى عملية تجديد للخطاب الديني؟، وعندما لا تعترف الطوائف بمعمودية بعضها البعض، ولا تسمح بزواج تابع لها من آخر يتبع طائفة أخرى ألا يحتاج هذا منا كمسيحيين إلى تجديد الخطاب الديني؟، وعندما يروي كاهن ما قصة خرافية لا أساس لها في الواقع أو دليل على صحتها على الإطلاق بأن القديسة المطوبة العذراء مريم قد سقطت نقطتان من لبن صدرها، وهي ترضع يسوع الطفل، على حجر أثناء رحلة العائلة المقدسة بمصر، فحدث فوران في الحجر وتحول الحجر إلى حجر كريم، ويصر هذا الكاهن على أن الحجر اكتشفته الحملة الفرنسية وهو محفوظ في متحف السوربون بفرنسا حتى اليوم، ويروي هذا الكاهن هذه القصة بكل ثقة وحماس وما على سامعيه إلا أن يصدقوا ما قاله ويهتفون لعظمة المعجزة الخارقة للطبيعة، فهل كان الناس الذين رأوا المسيح الصبي وأمه عندما جاءوا إلى مصر يعلمون أن هذا هو المسيح تجسد الله على الأرض ولذا كان لمجرد سقوط نقطتي اللبن كل هذه الضجة والتاريخ المدون؟، هل كان يتابع أو يتلصص أحدهم النظر لصدر العذراء مريم حتى يمكنه أن يرى قطرات لبن صدر المطوبة تتساقط على الحجر وهي ترضع ابنها؟، وكيف عرف علماء الحملة الفرنسية هذه القصة؟، وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي لا إجابة لها والتي يستحيل معها أن تكون هذه القصة قصة حقيقية حدثت بالفعل، وبناء عليه، أفلا يحتاج الخطاب الديني الأرثوذكسي إلى تجديد؟، وعندما يصلي قس إنجيلي لأجل ظهور القديسة العذراء المطوبة فوق كنيسته وكل كنيسة إنجيلية ويعلم أن جسد القديس شربل مازال ينضح ماء ودمًا بعد موته بعشرات السنين وعلى الناس أن تصدقه ومن يشك في كلامه أو يفند حججه وأساليبه يصبح والعياذ بالله من إخوان الشياطين الحاقدين الحاسدين أعداء النجاح له ولكنيسته، أفلا يحتاج المذهب  المسيحي الإنجيلي إلى تجديد الخطاب الديني؟

   أما بالنسبة للمسلمين المصريين، فالمصيبة كبيرة جدًا، فقد تعدى الأمر كون الخلافات والخزعبلات والتفاسير الدينية المتضاربة موجودة في الكتب فحسب، بل قد وصل إلى التنفيذ العملي وتطبيق ما في الكتب بطريقة عشوائية غير مدروسة أو مجددة حتى في مواضيع لبس الحجاب والنقاب والجلباب، وتربية الذقن وحلق الشارب واستخدام السواك، واعتبار أن المجتمع فاسد وأن تطبيق الشريعة الإسلامية بكل حذافيرها هي الحل الوحيد لما تعاني منه البشرية، وأن الاعتداء على المسيحيين والكنائس والمحال وغيره الكثير أمر من الله سبحانه وتعالي وجزء من الجهاد الذي كتب عليهم كما كتب على الذين من قبلهم، ومسألة قتل من بدل دينه وأكل البشر الكفار بالله سبحانه وغيرها مما لا يعد أو يحصى، أفلا يحتاج كل ما تقدم إلى تجديد الخطاب الديني الإسلامي؟

   في النهاية، أقول إن كانت هناك في الواقع العملي استحالة في تجديد الخطاب الديني لكبر درجة انحرافه عن الواقع والحقيقة، ولكثرة المتورطين به يكون المطلب الحقيقي هو ميلاد جديد لخطاب ديني جديد، وليس مجرد تجديد له، بل الأمر يحتاج إلى إنسان  جديد، مخلوق جديد يؤمن ويطبق وصايا رب الناس، ملك الناس، إله الناس. وهذا لن يحدث إلا بواسطة المسيح يسوع -تبارك اسمه- الذي قال عن نفسه:”جئت لتكون لهم حياة وليكن لهم أفضل (حياة)”. فبدون إتباع لتعاليم المسيح من قلب يؤمن حقيقة به، تبارك اسمه، مملوء بروحه القدوس لن يتجدد الخطاب الديني وإن تجدد في بعض محتوياته إلا أنه سيستمر قاصراً عاجزاً على تغيير قلوب الناس داخل صدورها وبالتالي فلن يتغير الإنسان ليشابه صورة المسيح، الذي هو الحق، السلام، المحبة، العدل، الفرح. وإن لم يولد خطاب ديني جديد فسيزداد تصعيد الأزمة بين الناس وسيدمر كل الآخر سواء بعلمٍ أو بجهل!!

   أهنئ نفسي وقرائي ومصري العزيزة والعالم كله بذكرى يوم مولدك يا سيدي المسيح وبعام جديد، نتمنى أن يكون حقًا عامًا مجيدًا سعيدًا وليأتِ على الأرض السلام وبالناس المسرة.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا