التقليد الوسلي (١٤) جون وسلي: الجد الأكبر للحركات النهضوية في التاريخ المعاصر!

7

مُصالحة علم اللاهوت والروحانية

التقليد الوسلي (١٤)

جون وسلي: الجد الأكبر للحركات النهضوية في التاريخ المعاصر!

الدكتور ثروت ماهر

  القاريء العزيز، تناولنا في مقالات سابقة تأثير لاهوت الشرق على التقليد الوسلي، ورأينا كيف وجد اللاهوت الوسلي جذوره في لاهوت آباء الكنيسة – خاصة الشرقيين – وكيف أصّل جون وسلي لتعاليمه معتمدًا على التقاليد الآبائية. ومما لا شك فيه، فإن الجذور الآبائية الشرقية للاهوت الوسلي هي التي أعطته – في المقام الأول – الأهلية، ليكون حلقة الوصل والرابط بين الشرق والغرب.

  ارتكازًا على هذا الطرح، ينطلق بعض الدارسين لرؤية التقليد الوسلي ليس فقط على أنه حلقة الوصل بين الشرق الآبائي والغرب المُصلح التقوي، لكن أيضًا على أنه بمثابة حلقة الوصل بين التقاليد الآبائية الشرقية، والخمسينية غربًا وشرقًا، مُمَثِلاً بذلك – أي اللاهوت الوسلي – تأصيلاً لاهوتيًا للحركات النهضوية الخمسينية والكاريزماتية في التاريخ المعاصر، تمتد جذوره إلى التقاليد الآبائية. في هذا المقال، أتناول بالدراسة هذه الرؤية/ الأطروحة من خلال التعريف بمفرداتها، واستعراض إثباتاتها التاريخية.

  جون وسلي: الجد الأكبر للتقاليد الخمسينية والكاريزماتية

  بشكلٍ عام، يصيغ دارسو الحركات الروحية النهضوية/التجديدية (Renewal Movements) رؤيتهم لتلك الحركات عبر مداخل تأريخية ولاهوتية تستخدم عدسات تحليلية متنوعة. وتتنوع هذه المداخل – كما سأشرح باستفاضة في مقالات لاحقة من هذه السلسلة – بين مداخلٍ تركز على تحليل الجذور التاريخية لهذه الحركات، وارتباطها مع أصول التعاليم اللاهوتية التي شكلت دعائم هذه الحركات، فيما يُعرف بالمداخل التأريخية الجينية، ومداخل تأريخية أخرى تركز على دراسة السياقات الاجتماعية والثقافية لهذه الحركات، وهذه تتعامل بنظرة تحليلية مع تفاعل الشعوب، بثقافاتها المتنوعة، وطبقات مجتمعاتها مع هذه الحركات النهضوية.

  يعتمد الدارسون في صياغة الأطروحة التي نحن بصدد مناقشتها الآن على المدخل الجيني للتأريخ. وتركز هذه الأطروحة على اعتبار وسلي الجد الأكبر للتقاليد الخمسينية/ الكاريزماتية، وقد انتقلت من خلال تعاليمه جينات/ مفردات التعاليم الآبائية إلى من أتوا بعده من رواد النهضات. أي أن هذه الأطروحة تربط اللاهوت الوسلي باللاهوت الآبائي الشرقي من جانب، وهو ما تمّ إثبات دلائله عبر عقود من خلال رسائل ومقالات علمية موثقة. ومن الجانب الآخر، تسلط الضوء على اللاهوت الوسلي كجذر للحركات الخمسينية/ الكاريزماتية، ومصدر لها، وهو ما أركز على تأكيده في هذا المقال. وجدير بالذكر، أنه في سياقٍ أكاديمي موازٍ لهذه الأطروحة، تؤرخ هذه الحركات النهضوية (الخمسينية والكاريزماتية) كموجات متلاحقة – أربع موجات مُقترحة – يستمر فيها القديم مع الأحدث في تزامن وتلاحم، فيما يعرف بنظرية الموجات (أيضًا سأخصص لهذه النظرية مساحة للنقاش في مقال لاحق).

  البراهين المنهجية والعملية

  يُعتبر البروفيسور “فينسون سينان” المؤرخ الخمسيني الشهير (١٩٣٤– ٢٠٢٠) من أشهر العلماء المدافعين عن رؤية وسلي كالجد الأكبر للتقاليد الخمسينية/ الكاريزماتية. ويبدأ سينان أطروحته من اختبار تجديد جون وسلي في ألدرزجيت في ٢٤ مايو ١٧٣٨م، حيث سمع وسلي جزء مقروء من مقدمة مارتن لوثر لرسالة رومية حول الخلاص بالإيمان. وعندئذ، شعر وسلي “بدفء عجيب في قلبه”، وتيقن من كفاية عمل الرب يسوع المسيح الكفاري لأجله لخلاصه. وعلى الرغم من انغماس اختبار تجديد وسلي في التقاليد اللوثرية والمورافية (نسبة إلى حركة المورافيان)، والتي تركز على اختبار التجديد تركيزًا عظيمًا، غير أن رؤية وسلي للحياة المسيحية تخطت اختبار التجديد، لتمتد لاختبار “التقديس التام” كاختبار ثانٍ محدد في الحياة المسيحية، يؤهل للدخول لمستوى الكمال المسيحي. وهنا يرى سينان أن وسلي بتأكيده اللاهوتي على إمكانية – بل وحتمية – “اختبار ثانٍ” في الحياة المسيحية، قد أسس في تاريخ الفكر المسيحي المعاصر الغربي تأسيسًا راسخًا لفكرة وجود اختبارات لاحقة لاختبار التجديد بشكل عام، فيما يعتبر بوابة واسعة للتنظير للتعاليم اللاهوتية الوسلية الراديكالية، والخمسينية، والكاريزماتية، التي ركزت بدورها، فيما بعد، على اختبارات لاحقة لاختبار التجديد. فعلى الرغم من إمكانية رؤية اختبارات لاحقة لاختبار التجديد في كتب العهد الجديد، وعبر تاريخ الكنيسة (على سبيل المثال لا الحصر: أنطونيوس الكبير في نصيحته لأولاده المؤمنين بقبول نيران الروح، ومقاريوس المصري في رؤيته لدرجات الكمال المسيحي)، غير أن صياغة وسلي لتعاليمه اللاهوتية بالوضوح الذي صيغت به في عصره، كانت بداية جديدة – خاصة في الغرب – للتنظير لاختبارات لاحقة لاختبار التجديد/ التحول في الحياة المسيحية. وهكذا يقف اللاهوت الوسلي – منهجيًا – كقاعدة عريضة لتأصيل مفردات لاهوتية رئيسة في التقاليد الخمسينية والكاريزماتية.

  جنبًا إلى جنبٍ، مع هذا البعد المنهجي لإثبات رؤية وسلي كالجد الأكبر للتقاليد الخمسينية والكاريزماتية، يقف دفاع وسلي عن استمرارية مواهب الروح القدس كبُعد/منظور كنسي وعملي يؤيد هذه الرؤية. فقبل عصر وسلي، كان السائد هو نظرية انتهاء المواهب، التي صاغ أغسطينوس إرهاصاتها، وتبنتها التقاليد المصلحة قبل وسلي بشكلٍ عام. ثم جاء وسلي بعد اختبار تجديده ليحاجج ضدها، ويفندها، ويثبت استمرارية مواهب الروح كتابيًا، وتاريخيًا، واختباريًا، ومنطقيًا، فاتحًا الباب للتقاليد اللاحقة له للمَضي قدمًا في نفس الاتجاه، بل وشاهدًا باجتماعاته النهضوية، بما احتوته من إظهارات الروح القدس، على قبول هذه الإظهارات، ووجوب احترامها، والتعامل معها كعلامات لنعمة الله العاملة في النفوس.

  بالإضافة للأبعاد المنهجية واللاهوتية العملية والكنسية – سالفة الذكر – لإثبات رؤية وسلي كالجد الأكبر للحركات التجديدية الخمسينية والكاريزماتية، تقف الروابط التاريخية – التي تمتد من وسلي في القرن الثامن عشر، عبر حركات القداسة في القرن التاسع عشر، إلى الحركة الخمسينية في القرن العشرين – كالجوهر الرئيس لهذه الأطروحة، والذي يظهر فيه جليًا انتقال جينات التعليم بين رواد هذه الحركات، سواء بمعاصرتِهم بعضهم لبعض، أو من خلال قراءاتهم، الموثقة في كتاباتهم، لبعضهم البعض، والتي يمكن من خلالها تعيين الخريطة الجينية لتاريخ الحركات النهضوية الخمسينية والكاريزماتية.

  برهان الروابط التاريخية: الخريطة الجينية النهضوية بين وسلي ونهضة شارع أزوسا

  لتتبع الروابط التاريخية بين التقليد الوسلي، والتقاليد الخمسينية/ الكاريزماتية، يبدأ الدارسون – مثل: البروفيسور سينان، والبروفيسور “دونالد دايتون” أستاذ اللاهوت الوسلي بجامعة درو بجيرسي سيتي – الخريطة الجينية من “جون فلتشر” (١٧٢٩– ١٧٨٥) تلميذ وسلي، والذي أخذ الاختبار الثاني عنده بعدًا نيوماتولوجيًا (أي يركز على عمل الروح القدس)، وأصر على تسميته اختبار “معمودية الروح القدس”، مع اتفاقه مع وسلي في ماهية الاختبار من حيث انتزاع جذر الفساد، وتحقق انفصال العتيق، وكمدخل لحياة الكمال المسيحي. وقد مهد التغيير الذي أدخله فلتشر لظهور ما يُعرف في الدراسات باسم “التقديس الخمسيني”؛ وهو رؤية الاختبار الثاني كاختبار مزدوج يشمل: “التقديس التام” و”معمودية الروح القدس”، وكان لهذا الفكر رواده، مثل تشارلز فني، وصديقه أسا ماهان، وفيبي بالمر، كما سبق الشرح في مقالات سابقة. أنتج تعليم “التقديس الخمسيني” تعليمًا آخر عُرف بلاهوت “الثلاث بركات”، يتلخص في أن رحلة الحياة الروحية تشمل ثلاثة اختبارات/بركات، وهي “التبرير والولادة الجديدة”، و”التقديس التام”، و”معمودية الروح القدس”، وسميت “بمعمودية النار” آنذاك. وكان من رواد هذا التعليم: الأمريكي بنيامين إروين، والكندي رالف هورنر.

  وبظهور الأمريكي بنيامين هاردين إروين (١٨٥٤– ١٩٢٦م.)، ولاهوت “الثلاث بركات” على الخريطة، يقترب المؤرخون جدًا من الدخول إلى نقطة بداية التقليد الخمسيني في أمريكا. إذ أن تشارلز فوكس بارهام (١٨٧٣–١٩٢٩م.) الذي يُعد أول لاهوتي خمسيني، كان من أشد المتحمسين للاهوت الثلاث بركات، والذي يمكن اعتباره أول نسق للاهوت خمسيني بعد إضافة “التكلم بألسنة” كبرهان للبركة الثالثة/ معمودية الروح القدس. بالنسبة لبارهام، تقع البركة الثانية/ التقديس التام في مركز رحلة الحياة المسيحية، وهي شرط ضروري سابق أو مصاحب للبركة الثالثة، بل أن البركة الثالثة نفسها – معمودية الروح القدس وبرهان التكلم بألسنة – تفقد فاعليتها إذا فُقدت الحياة المقدسة. بعد صياغة بارهام للاهوت الثلاث بركات بنسقه الخمسيني، التحق “وليام سيمور” (١٨٧٠– ١٩٢٢) بإحدى مدارس الكتاب المقدس التي يعقدها بارهام، حيث تعلم منه لاهوت الثلاث بركات في نسقه الخمسيني. ومن مدرسة الكتاب المقدس هذه، انطلق وليام سيمور، ليستخدمه الرب في إشعال نهضة شارع أزوسا في لوس انجلوس بكاليفورنيا عام ١٩٠٦، لتجتذب هذه النهضة نفوسًا من كل بقاع العالم تقريبًا، ويستخدمها الرب ليغير شكل خريطة العالم المسيحي في العصر الحديث، إذ قدرت الإحصائيات عدد أولئك المنتمين لحركات تجديد الروح القدس النهضوية الوسلية والخمسينية والكاريزماتية، في مطلع القرن الحادي والعشرين، بحوالي سبعمائة مليون نسمة حول العالم في أسرع معدل نمو عرفه التاريخ لحركةٍ ما! وتظل الشهادة الثلاثية لأولئك المنتمين لنهضة شارع أزوسا والمرسلين منها: “أنا خلُصت، وتقدست بالتمام، واعتمدت بالروح القدس”، خير شاهد على أحقية جون وسلي بلقب “الجد الأكبر للتقاليد النهضوية الخمسينية والكاريزماتية”! دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا