إذا انقلبت الأعمدة فالصديق ماذا يفعل؟

30

العدد 49 أكتوبر 2009
إذا انقلبت الأعمدة فالصديق ماذا يفعل؟

     لا شك أن نظرة سريعة لما يحدث اليوم في عالمنا العربي الصغير، ثم العالم كله من حولنا، تؤكد أن كثيراً من الثوابت والأساسات أو الأعمدة التي لا ينبغي لها أن تنقلب أو تنهدم قد أصابها التصدع والخوار وفي طريقها إلي الانهيار، إن لم تكن قد انهارت بالفعل. وهذا ما دونه لنا كتاب الكتب كلمة الله الحية الفعالة التي هي أمضى من كل سيف ذي حدين، المعصومة والتي لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها، التوراة والإنجيل، تلك التي فيها هدى للناس ورحمة. لقد عبر نبي المولى داود في مزموره الموحى به من الله عن حالة التصدع والانهيار هذه للأعمدة والأساسات عندما رأى الأشرار يمدون القوي، وفوقوا السهم في الوتر ليرموا في الدجى مستقيمي القلوب وهم يقولون للصديق أن يهرب إلي الجبال كعصفور ويترك أرضه ووطنه وذكرياته وموطن آبائه ويرحل بلا رجعة، حتى تساءل داود النبي والملك بالروح القدس وقال للمولى تبارك اسمه: يا رب لماذا تقف بعيداً، لماذا تختفي في أزمنة الضيق، لأن داود رأى أن المسكين يحترق في كبرياء الشرير، ولأن الشرير يفتخر بشهوات نفسه والخاطف يجدف، يهين الرب، والشرير حسب تشامخ أنفه يقول أن الله لا يطالب، فكل أفكاره أنه لا إله، وقد قال في قلبه لا أتزعزع من دور إلي دور بلا سوء، فمه لعنة وغشاً وظلماً، تحت لسانه مشقة وأثم، يجلس في المختفي كأسد في عريسه، يكمن ليخطف المسكين فتنسحق وتنحني وتسقط المساكين ببراثنه. تماماً كما يحدث اليوم في كل بقاع العالم وخاصة في شرقنا الأوسط، فهذا ما يعنينا بالمقام الأول. تحير داود النبي لهذا الوضع المتدني لبشر خلقهم المولى تبارك اسمه شعوباً وقبائل ليتعارفوا ويتواصلوا ويتحابوا، ورأى الأساسات تتهدم والأعمدة تنقلب فتساءل: إذا انقلبت الأعمدة، فالصديق ماذا يفعل؟ وفي ترجمة أخرى إذا انهدمت الأساسات فالصديق أو البار ماذا يفعل؟

      وما من شك أن هناك كثيراً من الأساسات والأعمدة التي تبنى عليها حياة الفرد والجماعة والأمة لتقوم لها قائمة، فإذا انقلبت هذه الأعمدة وانهارت الأساسات فلابد للبناء كله أن يتصدع ثم يسقط ويكون سقوطه عظيماً.

      ولعل أهم الأسس والأعمدة التي تبني عليها حياة الفرد والجماعة والأمة هو أولاً أساس الدين والعقيدة الروحية التي يتبعها الفرد، فتقوده وتسيره في حياته وتضبط علاقته بنفسه وبأخيه الإنسان وخالقه تبارك اسمه، وهذا الأساس الديني يقوم على عدة أساسات تدعمها أعمدة الثقة في وحي الكتب الدينية وكونها منزلة من رب العالمين لهداية الناس وخلاص أرواحهم في يوم الدين، والتي بدورها تنقسم إلي أعمدة وحدانية المولى تبارك اسمه، ومسألة خلاص الإنسان من مرض الخطية، ثم كيفية دخول الحياة الأبدية أو البحيرة المتقدة بالنار والكبريت، ثم هناك أساسات الثقة في رجال الدين ونظافة حياتهم وسيرتهم الذاتية وبعدهم عن الشرور والمعاصي وتصرفهم كقدوة للعامة والشفافية والأمانة في نقل وشرح ما دون في الكتب الدينية وتطبيقه على أنفسهم أولاً.

      وكما قلت، إن نظرة سريعة للأحداث الجارية توضح مدى انهيار هذا الأساس والأعمدة المدعمة له، فوحي الكتب الدينية قد شكك فيه الجميع، فاليهود لا يعترفون بوحي الإنجيل مع أن المسيحيين يؤمنون بما أوحى إلي أنبياء العهد القديم جميعاً، والمسيحيون بدورهم لا يؤمنون بوحي القرآن بالرغم من ادعاء الإخوة المسلمين إيمانهم بالإنجيل، لكن الواضح أنهم يؤمنون بإنجيل آخر غير الذي هو بين أيدينا، فكل ما لا يتفق في إنجيلنا مع ما دونه القرآن فهو محرف في شرعهم وبالتالي فالإنجيل كله محرف بالنسبة لهم. ولا شك أن هذه ليست قضية جديدة بل هي قديمة قدم المسيحية ثم من بعدها الإسلام، أما الجديد في الأمر فهو هجوم كل جماعة على الأخرى والتشكيك في أهم الأساسات التي يبنى عليها كل ما يأتي بعدها، والجديد في الموضوع أن هناك اليوم متفرغين للبحث عن الثغرات والنقائص والتضارب في كتب الأديان المختلفة، ثم إذاعتها على الملأ وتحدى أهل الذكر أن يجيبوا علي هذه التحديات إن استطاعوا إلي ذلك سبيلاً. وما يقال عن وحي وعصمة الكتب الدينية يقال عما احتوته من مواضيع شائكة، فهل الله واحد أم ثلاثة؟ هل هو صمد أم ثالوث؟ هل حقاً يعبد المسيحيون ثلاثة آلهة؟ فمنذ بداية الإسلام وقد حاول القرآن والمؤمنون به أن يؤكدوا أن الله واحد أحد صمد ولم يدخروا وسعاً في إعمال المعاول في هذه الحقيقة وغيرها من حقائق الكتاب المقدس، وقد جاء الإسلام بعكس ما دون في كتاب الله تماماً التوراة والإنجيل. فأسماء الأنبياء معظمها مختلف في القرآن عن الإنجيل، لا حديث ولا اعتراف بطبيعة الإنسان الساقطة الفاسدة، لا اعتراف بالفداء والموت النيابي الكفاري، لا اعتراف بالصليب والقيامة والصعود، لا اعتراف أو قبول لأوصاف الجنة كما دونها الإنجيل. وعلي نفس المنوال بدأ المسيحيون يردون على المسلمين بالمثل ويظهرون من كتبهم وكتاباتهم ومشايخهم ما كان مستوراً لقرون عديدة، وازداد المفسرون والمعلقون من الجانبين فتصدعت صورة الدين في أعين الجميع وانهارت الأساسات والأعمدة الدينية التي وضعت من الآباء منذ زمن غابر.

      ومع أن نسبة الكتاب والمثقفين والباحثين قليلة جداً بالمقارنة مع تعداد عامة الشعب، إلا أن الصراع يحتدم بينهم ويؤخذ العامة الغلابة في الرجلين فتنهار أساسات الدين في أعينهم ويلحد الملحدون ويلهو اللاهون بالمقدسات، وطبيعي أن يضع الناس ثقتهم في مثل هذه الظروف في رجال الدين يتطلعون إليهم لإرشادهم وزيادة إيمانهم بكتب الأديان، فرجل الدين هو من ينبغي أن يكون العامود الثابت الذي يحمل الآخرين، لكن نظرة سريعة لهذه الفئة تؤكد أنه ما أقل الأمناء المخلصين لوجه الله تعالى منهم، وما أكثر مدبري المكائد والمصايد وملفقي الفتاوى والحرمانات للعامة، وما أكثر المتملقين الوصوليين الذين يهتفون عاش الصليب مع الهلال والذين يتطوعون لتحفيظ أطفال المسلمين القرآن في المدارس المسيحية الكنسية، فلا شك أن أعمدة الثقة في رجال الدين قد انهارت وانهدمت، ولولا بقية تقية منهم مازالت لم تحن ركبة لبعل لتلاشت هذه الأعمدة من الوجود.

      ثانياً: أساس آخر علي وشك الانهيار تماماً هو أساس العلاقات الإنسانية، وأهم أعمدتها ثقة الإنسان في أخيه الإنسان بغض النظر عن نقاط الاختلاف بينهما، فالعلاقات الإنسانية تلك التي كنا نفتخر بها كأبناء وطن واحد، لم تعد لها قائمة الآن. فالعلاقات اليوم حتى في الأوساط الدينية المختلفة تتحدد بالماديات والدولارات، فكم وكم بين العامة من خلق الله، فصديقك الأقرب إليك من حبل الوريد قد يتخلى عنك لأتفه الأسباب، وذاد الطين بلة انهيار الاقتصاد العالمي والموازنات الدولية، فهذه أعمدة قد تصدعت من زمن بعيد واليوم على وشك الانهيار، تفتت الأسرة وازدياد الجريمة والطلاق وغيرها، كلها مؤشرات لانهيار العلاقات الإنسانية.

      ثالثاً: لعل واحداً من أهم الأساسات التي تهوي الآن وتتهدم على رؤوس العباد هو أساس الدولة بما فيها من أعمدة الحكومة والبوليس والمصالح والهيئات.

فالحكومة حسب الأساسات الصحيحة، ينبغي أن تكون من الشعب وللشعب، تعبر عن الشعب بكل فئاته ومصالحه وأفراحه وأحزانه، وللشعب الحق أن يحاسبها ويعزلها عندما يريد، أما حكومات هذه الأيام فلا يهمها في قليل أو كثير رأي الشعب فيها متكلة على مجلس للشعب هو أبعد ما يكون عن تمثيل الشعب، وأغلبهم قد وصل إلي كرسيه بالتملق والرشوة والبعض بالتهديد والوعيد والخناجر والجنازير. ففي بلادنا العربية الحكومة حكومة الصفوة وأهل الثقة المقربين والمجالس المختلفة هي مجالس الموالين والخاضعين والمصفقين لكل ما يقوله الحكام، يمكنك أن ترى كل هذا في مسرحية الزعيم لعادل إمام وعمارة يعقوبيان.

      أما المصالح والهيئات تلك التي من المفروض أنها أسست لتخدم الإنسان المواطن فقد تخصصت في زيادة معاناة الإنسان، فالحصول على ورقة تخصك من مصلحة من المصالح أصبح عذاباً أليماً دونه عذاب القبر والنار، الفساد دخل إلي النخاع وأصبح الخروج منه درباً من دروب المستحيل.

      والبوليس الذي من المفترض أنه من الشعب لحماية الشعب وضمان سلامته أصبح اسماً مرعباً مخيفاً حتى للأمناء من الناس، فالبلاد بلا قوانين معروفة ومفهومة. ضابط المرور الذي يوقفك في الطريق لا يقول لك لماذا أوقفك، ولست تعرف القانون الذي سيطبقه عليك نتيجة لخطئك الذي لا تعرفه وكلها خاضعة لمزاج الباشا وما أدراك ما الباشا.

     والباشا لا يُحاسب بالطبع حتى لو أخطأ، فالباشاوات لا يحاسبون، وإذا كان لابد من حساب الباشا لفظاعة أعماله فسيحاسبه باشا آخر. رحم الله عبد الناصر وضباطنا الأحرار الذين أوهمونا أن واحداً من أهم أسباب قيامهم بالثورة هو القضاء على الباشاوات في مصر. ليس هناك قانون معروف ومحترم يطبق عليك في حالة سفرك من المطارات والموانئ، فاللصوص وسارقو البنوك وناهبو الشعب يسافرون ويرجعون دون أدنى اكتراث من الباشاوات، أما القسوس والرعاة والخدام فإن لم يمنعوا من السفر فلابد من المعاناة في دخولهم وخروجهم، المتنصرون الذين آثروا الخروج من البلاد خوفاً من الباشاوات وعذابهم الأليم أو الأهل وانتقامهم الأثيم، يمنعون من السفر بدون إبداء أسباب، تؤخذ جوازات سفرهم دون محاكمة أو قضية أو قرار من النيابة، البريء متهم، والقوي ضعيف، والنزيه لص في دولة البوليس، وانهار عامود العلاقات بين الشعب والحكومة والبوليس.

      ويبقى السؤال: الصديق ماذا يفعل؟

     أولاً: لابد للصديق أن يعرف أن الرب في هيكل قدسه، الرب في السماء كرسيه، ففوق العالي عالياً والأعلى فوقهما. وكرسي الرب أعلى من كرسي الملوك والرؤساء والوزراء والباشاوات، فعلى الرب ينبغي أن يتوكل المتوكل ولإلهه لابد أن يرفع شكواه، فهو ذا السيد الرب آت على سحابة فتهتز أوثان مصر وسيضع الله أحكاماً بكل آلهة المصريين.

     ثانياً: يجب على الصديق أن يعرف أن الله ليس فقط في هيكل قدسه وفي السماء كرسيه، لكن عيناه تنظران وأجفانه تمتحن بني البشر، فالصديق غير متروك للشرير ليفعل به ما يشاء فعينا الرب أطهر من أن تنظرا الظلم والسحق ويسكت بل في وقته يسرع به.

     ثالثاً: الرب يمتحن الصديق، ليخرج منه معدنه السماوي الأصيل وينقيه ليأتي بثمر أكثر ويدوم ثمره.

     رابعاً: سيأتي اليوم الذي يمطر فيه المولى على الأشرار فخاخاً ناراً وكبريتاً وريح السموم، هذا هو نصيب كأسهم.

     خامساً: ليعلم الصديق أن الرب عادل ويحب العدل وسيحكم بالعدل وينجي كل المتوكلين عليه.

     سادساً: ليتأكد الصديق أن المستقيم يبصر وجهه وعندئذ يرفع وجوه أحبائه ومتقيه.

     سابعاً: لا تخف أيها الصديق فإن سقطت الأعمدة وانهارت الأساسات في الأرض فأساسات السماء باقية والرب في هيكل قدسه. فقط تكلم ولا تخف، ادخل إلى فرعون وقل له “أطلق شعبي ليعبدوني”، تكلم ولا تسكت، ارفع صوتك وناد وقل للشرير ستموت بشرك وقل للصديق خيراً، إلي أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح المنير ويظهر حقك مثل الظهيرة. لا تخش من خوف الليل ولا من سهم يطير في النهار، ولا من وبأ يسلك في الدجى ولا من هلاك يفسد في الظهيرة يسقط عن جانبك ألف وربوات عن يمينك إليك لا يقرب إنما بعينيك تنظر وترى مجازاة الأشرار.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا