أعطى من يملك لمن لا يستحق!

13

العدد 128 الصادر في مايو 2016
أعطى من يملك لمن لا يستحق!

    لست أدري لماذا قفز في عقلي القول المعروف الذي كثيرًا ما استخدمانه عند الحديث عن وعد بلفور، والذي صدر في 1917 باقامة دولة إسرائيل وهو “أعطى من لا يملك لمن لا يستحق”، والذي اتخذته عنوانًا لمقالي.

    أود في بداية مقالي هذا أن أقرر وأؤكد على عدة نقاط، أولها هو أنني لا أذكر أي من الأشخاص الذين يتناولهم  مقالي هذا لشخصه وذاته بل بصفاتهم، كشخصيات اعتبارية، أي كممثلين لجمهوريات أو ممالك أو طوائف مسيحية أو غير مسيحية، فبديهي أنني لا أعرف الأشخاص الواردة أسماؤهم فيما يلى بصفة شخصية ولذا فالكلام عنهم جميعهم هو بصفاتهم الاعتبارية كمن هو ممثل لمصر أو السعودية أو الكنيسة أو غيرها.

    ثانيًا: إن حديثى عن الجزيرتين الحدوديتين تيران وصنافير اللتين أهداهما، أو باعهما أو أعادهما، رئيس جمهورية مصر العربية إلى ملك السعودية وشعبها، وفقًا لما تراه الفصائل المختلفة من المصريين أو السعوديين أو الإسرائيليين على اختلاف رؤياتهم ونياتهم وأجنداتهم، حديثي هذا ليس بحديث خبير بالسياسة أو الخرائط أو الجغرافيا أو التاريخ الخاص بالجزيرتين، ولذا فلن أقف في جانب أي من هذه المجموعات على اختلافها، ولكنني في ذات الوقت لست بسلبي أو متفرج على ما يحدث في أمر هاتين الجزيرتين مع أنني، والحق يقال، لست بمتحمس للدخول في هذا المعترك مع أن الأمر بالنسبة لي أبعد من كونهما جزيرتين متنازع على ملكيتهما، لكن ما أجبرني على الكتابة حول هذا الموضوع والسبب وراء موقفي منه هو :

    أ- إنني لم أسمع تصريحًا واحدًا لا من الكنيسة بصفتها الموجودة تاريخيًا قبل التقسيم التاريخي لهذه الأراضي وقبل وجود السعودية والإسلام والمسلمين، ولا من مسيحي واحد ناشط سياسيًا بصفته صاحب هذه الأرض وجزرها منذ عصر أجداده الفراعنة، فيما يتعلق بهذه القضية، فكل ما رأيناه وسمعنا عنه هو زيارة قام بها البابا تواضروس للقاء ملك السعودية كأول ملك يقوم بمقابلة لبابا للأقباط المصريين على مر العصور، وما من شك عندي أن هذه الزيارة التى هلل لها المسلمون المغرضون والمسيحيون المغيبون لهي زيارة استيراتيجية محسوبة الأبعاد والتوقيت والأهداف التى من أولها وأهمها هي أن تصور السعودية وملكها الجديد على أنهم دعاة سلام ومحبة وتسامح للمسيحيين وتؤكد على اهتمامهم كسعوديين بمد الجسور بينهم وبين الأقباط في مصر، ليست جسورًا حديدية حرفية ملموسة بين السعودية وأرضها ومصر وأقباطها مرورًا بسيناء فحسب، بل مد جسور المودة بين الأقباط والمسلمين، وما بين رأس الكنيسة الأرضي بطريرك الكرازة المرقسية وممثل الإسلام السعودي خادم الحرمين. أما ثاني أغراض هذا اللقاء بين البابا وملك السعودية، من وجهة نظري، هو ضمان عدم تدخل الأقباط المصريين، ككنيسة أو كشعب حتى بالتعليق بصفة رسمية أو غير رسمية حول أي من  الاتفاقيات والمعاهدات التى أبرمت بين السعودية ومصر، الأمر الذي ما كان من الممكن، وكان من المؤكد أنه لم ولن يحدث على الإطلاق، لا حول هذه القضية ولا حول غيرها من القضايا المصرية المصيرية، وفقًا لمراجعة الموقف القبطي المسيحي على مر العصور والأزمان واختلاف البابوات والحكومات والرؤساء، والعجيب أنه لم يلتفت أحد لخطورة هذه الزيارة بالذات وفي هذا التوقيت بالتحديد، والتهى المسيحيون المغيبون في صليب البطريرك الذي لم يكن يحمله في يده كعادته عند مقابلته مع ملك السعودية، وملأت صفحات الإنترنت عشرات التعليقات ضد أو مع البابا في تركه الصليب خارج اللقاء، وذهبت بعض هذه التعليقات على التأكيد على إصرار ملك السعودية على أن يترك البابا الصليب خارج قاعة الاجتماع إذا ما سمح له بمقابلته وبعضها رأى أن البابا حتى ولو ترك الصليب من يده، فثيابه مليئة بالصلبان، البعض رأى أن الملك هو الذي كان لا بد له من الذهاب إلى الكاتدرائية لمقابلة البابا وليس العكس، أسوة بما عمله مع شيخ الأزهر ورجاله، والبعض رأى أن زيارة ملك السعودية للكاتدرائية كانت ستتكلف الكثير من الجهد والاحتياطات الأمنية التى كفى البابا الحكومة المصرية شر إعدادها بذهابه إليه، البعض لعن الزمان الذي أجبر البابا ممثل المسيحيين المصريين الذين تعدادهم أكبر من تعداد المسلمين بالمملكة السعودية أن يذهب لمقابلة ملك السعودية حتى لو كانت الزيارة تبدو زيارة ودية، والبعض شكر المولى على أن ملك السعودية تذكر أن هناك مسيحيين في مصر وسمح لرأس كنيستهم بزيارته، فهذا تفضلاً منه وموقفًا يستوجب الشكر عليه، وغيرها وغيرها من الآراء والتشنجات والاتهامات والمداهنات حتى قامت الدنيا ولم تقعد، وكأن مسك الصليب من عدمه في تلك المقابلة هو بيت القصيد، وأهم ما فيها من أحداث، ولست بمتعجب من هذه الضجة، فهذا أمر طبيعي الحدوث مع الأقباط المصريين الذين كثيرًا ما يبلعون الجمل ويصفون عن البعوضة، ولست أستبعد على الإطلاق أن تكون المخابرات المصرية لمعرفتها بطبيعة الأقباط المصريين وردود أفعالهم واهتماماتهم الضحلة هى التى فجرت قضية صليب البابا حتى تبعد الأنظار عن ذهاب البابا إلى مقر إقامة ملك السعودية الأمر الذي قال فيه سابقه: “البابا يتزار ولا يزور؟!”.

    وحتى لا يستيقظ المغيبون المسيحيون ويدركون خطورة تطبيع العلاقات بين مصر والسعودية وانعكاسه عليهم وحتى لا يفكرون في أن كل ما أصابهم وكنائسهم ومحو تاريخهم ولغتهم وهويتهم إنما كان ولا يزال مستوردًا من آل سعود وبفعل السعوديين الذي دخلوا مصر ضد مشيئة الله آمنين، وحتى لا يفكرون في إن مصر هي أرضهم والجزر المتنازع عليها أو المباعة أو المهداة أو المردودة لأصحابها، كما تراها الفصائل المتنازعة هي جزرهم قبل أن تخلق السعودية من أصله في أوائل القرن التاسع عشر حتى لو لم توجد وثائق مصرية أو سعودية تؤكد هذه الحقيقة، فأين كانت السعودية يوم أن كان هناك فراعنة يطاردون شعب إسرائيل في أمر عبورهم البحر الأحمر، لمن كانت الأرض يومها، لمن كانت صحراء سيناء وهذه الممرات المائية يومها منذ القديم وحتى نزوح المسلمين والإسلام من مكة العربية السعودية إلى مصر وغيرها، ألا توجد لدى الأقباط في مراجعهم أو مخطوطاتهم أو كتبهم في الأديرة ما يشير إلى سيطرة مصر على كل هذه الأراضي أم أنها حرقت جميعها في حريق مكتبة الإسكندرية وألقيت في البحر المتوسط كما ألقيت آلاف المجلدات والمخطوطات والوثائق عند الاحتلال الإسلامي لمصر؟ ألا يوجد في التاريخ المصري أو السعودي مكاتبات ومراسلات وحجج ملكية وتقسيم وتبعية لهذه الجزر؟ هل كان تكليف السعودية للمصريين بالإشراف على هذه الجزر بطريقة شفوية وقبول مصر لهذا التكليف بطريقة شفهية أيضًا؟ هل كان عبد الناصر مفتريًا مخطئًا مدعيًا لملكية هذه الجزر عندما ألقى خطابه الشهير الذي قال فيه إن هذه الجزر مصرية؟ وهل رد عليه السعوديون بخطاب رسمى، كما تعمل الدول المعتدى على حقوقها، أم التزموا الصمت لسبب أو آخر؟ هل من سجل لمثل هذه القضايا يمكن الإطلاع عليه وتقرير الأمور حتى يستريح الجميع أم أن الأمر متروك للرؤساء والملوك لتحديده والمساومة عليه وفقًا للمصالح الدولية لكل دولة، واحتياجها للمليارات والمساعدات، واستعدادها وإصرارها للزود عن أرضها أو تقديم التنازلات؟؟

    الأمر الثاني الذي لا يجعلنى متحمسًا للدخول في أمر استحواذ السعودية على الجزيرتين هو أن هذا الأمر ليس أمرًا جديدًا حديثًا حتى يثيرني وييقظني من الغيبوبة الدماغية التي أصابتنا جميعًا في هذا الزمان الردئ الذي نعيش فيه، فلا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها،  بل هذا، بالنسبة لي، أمر قديم يرجع  حدوثه إلى أربعة عشر قرنًا مضت يوم وفد السعوديون من نفس الأرض والعشائر والقبائل إلى مصر ودخلوها بسلام الله آمنين واحتلوا أرضها، ليس أرض هاتين المدينتين فحسب، بل فتحوا واحتلوا واستوطنوا وحكموا كل مدن مصر وقراها وحدودها ومياهها وحقولها وتعدى الاحتلال حدود الأرض فاحتلوا عقول وإرادة وردود أفعال المصريين منذ زمن بعيد واستعبدوا أهلها وقطعوا ألسنة أولئك الذين كانوا يصرون على استخدام لغتهم القبطية أو أي لغة أخرى غير لغة العربية السعودية، وكذلك فتحوا الحدود بين مصر وسعوديتهم وآل سعوديتهم وسعودييهم الذين وجدوا في مصر كل ما يتمناه أهل الصحراء من بيوت وعمار بدل الخيام، ومياه نيل عذب بدل من مياه آبار مالحة لا تروي الشاربين منها، وخضار يملأ الحقول ويريح العيون بدل من رمال صفراء تتحرك كجبال وهضاب فتعمى العيون وتسد الآذان، ونساء بيض جميلات متعبدات بدل من نساء أسود وجههن من لفحات شمس محرقة وهن محاربات على الخيول والجمال، وما ملكت إيمانهم من سراري لا تملكن من أمرهن إلا الطاعة لأسيادهن، وباختصار أصبحت مصر مستعمرة سعودية لم ولن تتحرر حتى الآن، وتعدى الاستعمار السعودي استيطان أهلها بمصر، لكنه صدر لنا استعمارًا وهابيًا متطرفًا في القول والفعل واشتروا بأموالهم ليس فقط الأرض فحسب بل اشتروا القيادة والريادة والذمم والضمائر والتقدم واشتروا حتى معرفة المصريين وعلمهم بأموال بترولهم فلا تكاد تخلو مدرسة أو معهد أو جامعة من جهابزة المصريين الذين علموهم كيف يستعملون ويستمتعون بأساسيات الحياة وما دفع السعوديون في كل ذلك إلا ثمنًا بخسًا لا يتناسب أبدًا، مهما كان مقداره، مع ما أخذوه من المصريين على مر العصور والأزمان من ثقافة وعلم وآداب، ليس هذا فحسب بل استعمر السعوديون أدمغة المصريين وآمالهم وما تصبو إليه نفوسهم، فأصبح من يرضى عليه المولى-سبحانه وتعالى- هو الذي ترضى عليه العربية السعودية وتسمح له بزيارة الكعبة والطواف حولها، ومن كانت والدته راضية عنه داعية له هو من حصل على عقد عمل في العربية السعودية، كل ذلك الذي ذكرته سابقًا جمد وبلد مشاعري ومشاعر المسيحيين جميعًا، فلم يعد يفرق معنا إن أخذت السعودية تيران وصنافير أو حتى القاهرة والإسكندرية وأبو المطامير، ففي النهاية أرض مصر كلها وتاريخها وحضارتها ومكانتها ضاعت منا، نحن أصحابها، ولن تعود إلى الأبد وعلى المصريين السلام.

    أما دليلى على أنه قد أعطى من لا يملك لمن لا يستحق، فمن لا يملك إما أنه  كان من أجداده، من الأصل، وقبل وفود الإسلام والسعوديين، مصريًا مسيحيًا قبطيًا كالغالبية الساحقة من أبناء مصر، وإما أنه كان لا دينيًا، ولد في مصر هو وعشيرته وكان من سكانها الأصليين وقد اضطر أجداده، لسبب أو آخر، على الدخول في دين المستعمر المسلم والإيمان بعقيدته، وفي هذه الحالة يكون قد غير هويته وعقيدته وتنكر لأهله وأصله ومسيحيته، كما فعل الملايين غيره أو أنه أغوى أو آمن وقبل الدين الجديد وسار عكس التيار لغرض أو لآخر، وفي هذه الحالة تنطبق عليه الكلمات إنه من لا يملك التصرف فيما قد تنكر له ومن وافق إن طوعًا واختيارًا أم قصرًا وإجبارًا على التخلي عنه من أرضه لأصحاب الدين الجديد، وإما أنه من الأصل ليس مصريًا بل وافدًا سعوديًا وفد أجداده من السعودية مستعمرين لأرض مصر، فجاء كسليلهم وأصبح مصريًا مسلمًا بالميلاد، سعوديًا الأصل وفي هذه الحالة أيضًا لا يكون من أصحاب الأرض الأصليين وبالتالي، فالأرض ليست أرضه وهو لا يملك أن يهدي أو يعطى أو يتنازل لأي إنسان آخر سعوديًا كان أم غير سعودي عن قطعة أرض من مصر، لأنها ليست أرض آبائه، بل هي أرضي وأرض آبائي أنا كمسيحي قبطي مصرى منذ أن خلق الله مصر، ولست أعتقد أن هناك مصريًا مسيحيًا واحدًا يمكن أن يوافق على إعطاء حتى حفنة تراب واحدة من أرض مصر لا للسعوديين ولا حتى للمسيحيين من الفاتيكانيين ولا لغيرهم. فلو كانت هناك إمكانية لتخلي المسيحيين عن حفنة تراب من أرض مصر، لما روت دماء الأقباط أرضها قبل آلاف السنين في عصر الإمبراطورية الرومانية عندما كان نيرون وغيره من الأباطرة الطغاة يعلقونهم على أعمدة الشوارع ويحرقونهم أحياء ليضيئوا بهم الطرقات المظلمة، كما هو واضح في بقعة عمود السواري بالإسكندرية، ولما روت دماء الشرفاء، فقط، منهم أرض مصر في مقاومة الاحتلال الإسلامي ولما ظلوا على دينهم وإيمانهم وقبطيتهم وهكذا حتى يومنا الحالي.

    أما الحديث عن من لا يستحق، فسيطول شرحه وهو ليس في اهتماماتي وأولوياتي، فلن أخوض به. وكما ذكرت سابقًا ليس المقصود بمن لا يستحق هو ملك السعودية في شخصه بل كممثل وملك لدولة السعودية، فلا السعودية ولا غيرها من دول العالم منفردة أو مجتمعة تستحق أن تحصل على حفنة واحدة من تراب مصر الغالي على الإطلاق مهما كانت الظروف والأسباب.

    ولعل أهم ما في موضوع إعطاء السعودية تيران وصنافير والسماح لها ببناء الكوبري والاتفاق معهاعلى عدة اتفاقات ومعاهدات ومشاريع هو ما اسميته بالدلالات والتأثيرات الروحية للاتفاقات والمعاهدات الدولية والإنسانية. ولعل أعجب وأخطر ما في الصفقات التى أبرمها ملك السعودية مع مصر هو الاتفاق على بناء كوبري يربط المملكة السعودية بالجمهورية المصرية، وحيث إنني أؤمن بالدلالات والتأثيرات الروحية للعلاقات الإنسانية، فأنا أرى أن لبناء كوبري يربط المملكة بمصر دلالات وتأثيرات روحية خطيرة على مصر والمصريين، أما في أمر الدلالات والتأثيرات الروحية للعلاقات الإنسانية فهذه ليست نظرية من اختراعي أو مغالاتي في الأمر، لكنها حقيقة واقعة مدونة في كتاب الله الكتاب المقدس في أماكن عدة أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

    ١- المعاهدات والاتفاقات بين الشعوب قد تؤدي إلى فنائها وضعفها معًا، فلقد أوصى تعالى، وهو الفعال لما يريد، الحكيم العليم، شعبه في القديم أن لا يختلط بشعوب الأرض الآخرين قائلاً لهم: “متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها وطرد شعوبًا كثيرة من أمامك الحثيين والجرجاشيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين سبع شعوب أكثر وأعظم منك ودفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم، فإنك تحرمهم.لا تقطع لهم عهدًا ولا تشفق عليهم ولا تصاهرهم. بنتك لا تعط لابنه وبنته لا تاخذ لابنك.لأنه يرد ابنك من ورائي فيعبد آلهة أخرى، فيحمى غضب الرب عليكم ويهلككم سريعًا”. وقال أيضًا في كتابه الكريم: “… ولكن إذا رجعتم ولصقتم ببقية هؤلاء الشعوب أولئك الباقين معكم وصاهرتموهم ودخلتم إليهم وهم إليكم فاعلموا يقينًا أن الرب إلهكم لا يعود يطرد أولئك الشعوب من أمامكم فيكونوا لكم فخًا وشركًا وسوطًا على جوانبكم وشوكًا في أعينكم حتى تبيدوا عن تلك الأرض الصالحة التي أعطاكم إياها الرب إلهكم”.  أي إن ارتباط شعب الله بغيره من الشعوب له السبب الأساسي في عقابه تعالى لشعبه.

    ٢-  الاتفاقات بين الملوك والرؤساء تضع المتفقين في سلة واحدة، فكل ما يحدث في بلد أو دولة ينعكس بالضرورة على الأخرى، فما يعمله الرؤساء والملوك والشعوب في الواقع ليس سوى انعكاسات روحية تحدث في عالم الروح وتترجم فعليًا في عالم المادة الذي نراه بعيوننا بواسطة الرئيس أو الملك. وبالتالي فإن تأثير بلد على آخر ليس تأثيرًا ماديًا فحسب، بل تأثيرًا روحيًا أيضًا، فإذا بني جسر ليربط بين بلدين، بلد لا تؤمن بالحريات الفردية الشخصية وخاصة حق الفرد في اختيار دينه الذي اهتدى إليه وفي عبادة الإله الذي يختاره لنفسه وفي المكان وبالطريقة التى يختارها، ولا تؤمن بحق الأديان المختلفة في أن تمتلك أو حتى تقيم دور للعبادة كما يمتلك أتباع دينها في كل دول العالم بلا استثناء، وبالرغم من  أنها تؤمن وتصر على أن تمتلك كدولة دور لعبادة إلهها في كل البلدان والأقطار حتى التى لا تؤمن بدينها، فلا بد لهذه الإيمانات والقناعات بل قل الأرواح المضادة لعبادة المولى من السيطرة على كل دولة تتحد معها بشكل أو بآخر، والدولة التى لا تؤمن بحق النساء وحريتهن في قيادة سياراتهن، فهذا أمر موقوف على الرجال فقط، ولا يسمح لهن بالخروج إلى الشارع دون محرم أو دون أن تغطي المرأة كل ما يمكن أن يظهر منها، لا بد أن يؤثر ذلك على البلد الأخرى المتعاهدة معها، ألا يمتلئ شاطئ المنتزه والمعمورة في أجمل وأغلى مناطق الإسكندرية بالجالسات على الشواطئ وهن يغطين كل ما يمكن أن يظهر منهن حتى وجوههن وأكفاف أيديهن؟ فمن أين جاءت كل هذه التعاليم التى ترجمت إلى أفعال وأشكال في أرض الواقع؟ والحقيقة إنني لا أقرر هنا إن كانت التغطية هى الصواب من عدمه، فأصحاب كل دين هم المسؤلون أمام الله عما يعملونه ما داموا يعملونه بإخلاص مرضاة لوجه الله تعالى، لكن مقصدي هو التأكيد على حقيقة أن ما تؤمن به دولة ما وما تمارسه حتمًا سيؤثر روحيًا واجتماعيًا على الدولة الأخرى التى تتحد معها بشكل أو آخر .

    إن ربط المملكة السعودية التى لا تؤمن بما يسمى بحقوق الإنسان في أبسط معانية بمصر التى مازال بها بصيص بسيط من الأمل في إعطاء الإنسان المصرى، حتى ولو الحد الأدنى، من حقوقه المشرعة له من المولى سبحانه وتنازل إلينا سينهي على هذا الأمل البسيط.

    وماذا عن ارتباط الدولتين بمصير واحد في هذه المعاهدات والاتفاقات التى أعلن عن توقيعها بين البلدين والتى أظن أن الغالبية العظمى منها لن ترى التنفيذ على أرض الواقع إلا قليلاً؟ ففي رأيي إن الإعلان عن مثل هذه الاتفاقات ما هو إلا غطاء لقبول التنازل من المصريين عن الجزيرتين للسعودية وإن معظم هذه الاتفاقات والمعاهدات والوعود ستتبخر سريعًا بتمكين السعودية من الجزيرتين وستظهر الخلافات البينات الحادثات الآن والمتستر عليهم بقصد وخطة لحين استخدامهم في وقته من قبل السعودية. أليس هؤلاء هم أحفاد هاجر أمة سارة وإبراهيم في القديم؟ إن صح إدعاؤهم بأنهم أولاد إسماعيل، ألم تبرم هاجر اتفاقًا أو معاهدة؟ إن جاز التعبير، مع سارة سيدتها بأن يعبر عليها إبراهيم وكأنها كوبري أو جسر للحصول على ابن لسارة يولد على ركبتيها ويكون ملكًا لها، ألم تحتقر هاجر سيدتها سارة بمجرد الحصول على مشتهاها بأنها تحمل ابنًا لإبراهيم؟ ألم تصغر مولاتها في عينيها لأنها تمتلك ما لا تمتلكه سيدتها وهي تعلم أنها تحتاجه أشد ما يكون الاحتياج؟ مع أن لسيدتها كل الفضل في تعليمها وتثقيفها وإعدادها لتكون زوجة لأعظم رجال التاريخ! أليست هذه هي الروح التى عملت في هاجر وتعمل اليوم في أحفادها؟ ترى لو كانت مصر اليوم في موقف مالي مستقر ومزدهر، هل كانت المملكة السعودية ستطالب بهاتين الجزيرتين؟ وهل كانت الحكومة المصرية ستعترف بسيادة السعودية عليهما؟ أم أنها كانت ستواصل عنادها وكبرياءها ورفض إعادتهما لأصحابهما على فرض أن السعوديين هم أصحابهما؟

    ثم ماذا عن حقوقنا نحن كأقباط في مصر، عندما تطبع السعودية العلاقات بينها وبين مصر، وعندما تبنى الرابطة بين البلدين عبر الكوبرى المزمع إنشاؤه؟ فإن كنا ونحن متأثرون فقط بما يحدث وما يستورده المصريون من زوار السعودية ويجلبونه معهم من تطرف وكراهية للآخر وأفكار وهابية وسيطرة بأموالهم على ما يعرفون بعلماء الدين المصريين، فكم بالحري عندما يركب السعودي سيارته في صباح يومه وينام على سرير في المهندسين استأجره بماله، بما فيه ومن فيه، من سماسرة تعدت مهامهم تأجير الشقق المفروشة إلى فرش أسرتها بما يشتهيه السعودي من حور عين من لم يطمسهن رجل.

    ولتعلم الكنيسة العامة على اختلاف طوائفها أن ما يحدث اليوم في مصر ما هو إلا تطبيع وتمكين لروح ضد المسيح من أراضيها ورجالها ونسائها بما فيهم المسيحيون الذين، إنني على يقين أن جلهم لا ولن يفهم ما أكتب عنه اليوم.

    بقى سؤال أخير ألا وهو: لماذا تصر الحكومة على الزج بالبابا والكنيسة في كل ما يعترضها من مشاكل ومقاومة إن كانت في جلسة الإعلان عن خريطة الطريق أو النزول إلى الشارع في ٣٠ يونيو أو زيارة ملك السعودية لمصر وتوقيعه اتفاقيات استعادة الجزر؟ ألا يترك هذا انطباعًا لدى المصريين المسيحيين والمسلمين على موافقة الكنيسة على كل ما تعمله الحكومة المصرية، الأمر الذي فتح الباب للجماعات المتطرفة أن تحرق المزيد من الكنائس وتقتل المزيد من المسيحيين وغيرها من الأحداث المؤسفة؟ ثم إن كانت الكنيسة وقياداتها لها هذه الأهمية في مصر حتى تتواجد في كل الأحداث الكبيرة، فلماذا لا تستمع الحكومة إلى كلام البابا والأساقفة والنشطاء المسيحيين عندما يطلبون إليها أن تفرج عن أطفال مسيحيين وضعوا في السجن بدون وجه حق؟ أو إنصاف فتاة متفوقة حصلت على صفر في الثانوية العامة وإعادة ما ضاع من حقها وعمرها؟ أو الحكم بتمكين ناظرة مسيحية من إدارة مدرسة كان من المفروض أن تكون مديرة لها؟ أو إعادة أراضي سطى عليها المسلمون من الأوقاف القبطية المصرية…

    إنني أهيب بمجلس الكنائس الموحد أن يكون له رأي واضح وصريح ومفهوم ومعلن في كل القضايا المصرية وخاصة قضية سيطرة السعودية على صنافر وتيران وأن يقول لنا بوضوح إن كانت هذه المدن هى مدن سعودية أم قبطية مصرية، وأن تحسم الكنيسة القرار في كثير من المواقف المعلقة بينها وبين الدولة وأن تتحرك ضمن خطة للطريق القبطي المصرى، خطة مرسومة وواضحة للجميع مسيحيين ومسلمين شعب وحكومة وكنيسة ودول العالم الخارجي.

    إن لدى الشعب المسيحي القبطي أربعة ملايين مهاجر في بقاع الأرض كلها لا يعرفون الأسس والقواعد والخطط التى تتحرك بها كنيستهم في داخل مصر أو خارجها، هؤلاء هم قوة ديناميتية بانية ومعمرة كثيرة الفوائد للكنيسة ولوطننا العزيز مصر بمسيحييه ومسلميه إن التفت أحد إليهم ووجههم لما فيه خير بلادنا وأن لا نرسل إليهم رسائل محبطة مدمرة من وزيرة  للهجرة، لا تعرف كيف يفكر المسيحيون المغتربون عندما تخرج عليهم قائلة أنها أقنعت إحدى الفتيات المسيحيات الراهبات أن تخلع صليبها وتترك الدير وتعود إلى مصر لتبقى في حوزة جدها لأبيها المسلم برغم من أن والدتها مسيحية، وبغض النظر عن الدوافع المشبوهة لهذه الوزيرة من وراء حديثها عن هذه الفتاة إلا إنها أثارت سخط المهاجرين المسيحيين وأوسعت الفجوة بينهم وبين الوزيرة ووزارة هجرتها وحكومتها المصرية وزادت من سخط المهاجرين المسيحيين المغتربين على مصر ومن في مصر من الكبار والصغار.

    ترى ماذا لو كانت وزيرة الهجرة مسلمة، وكانت الصبية مسيحية تربت عند عائلة مسلمة أو ملجأ إسلامي؟ هل كانت الوزيرة المسلمة ستساعد البنت المسيحية لتعود لمسيحيتها، وعائلتها المسيحية؟ وماذا عن القاصرات المسيحيات المخطوفات في معظم مدن مصر وخاصة الصعيد، هل يمكن للسيدة الوزيرة المسيحية أن تعمل أي شئ لإعادتهن؟ وهل كانت ستساعدهن على خلع صورة الكرسى مثلاً من صدورهن والعودة لأهلهن المسيحيين؟ هل يمكن للست الوزيرة حتى فقط أن تكتب لزميلها السيد وزير الداخلية باسم عائلات البنات القبطيات المخطوفات أن يطلب من رجاله، لا أن يعيدهن إلى عائلاتهن؟ فهذا معروف أنه درب من دروب المستحيل، بل فقط يترفقون بأهل المخطوفة ويقبلون منهم في أقسام البوليس بلاغاتهم حتى لمجرد إقناعهم أن الشرطة في خدمة الشعب حتى المسيحي منهم أو من باب اعطائهم انطباع خادع مزيف أن

الشرطة في صفهم، وسيبحثون عن مخطوفاتهم ولا يجبرون الأب أو الأخ أو العم على التوقيع على أمر بعدم التعرض لبناتهم أو خاطفيهم في حالة معرفة مكان اختفائهن .

    اللهم احمنا من أنفسنا ومن جهلنا ببواطن الأمور، وقنا شر المخبأ لنا من المعلن والمستور، واكشف لنا عن ضعفنا، فنتواضع وننبذ الغرور، واحمِ لنا مصرنا من كل خائن مأجور وهبنا أن نحيا في محبة يا ربنا الرحيم الغفور.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا