ظلمة الفناء وبزوغ الضياء

3

أشرف ونيس

تناغم الصراع مع الأفكار حين تبرأ البدن من الشعور من كل ما طرأ عليه بكل ما يحتويه الخارج! كان الوقت يدنو من بداية حدوده، وكان الليل يستشعر دفئه بين فكي صقيعه حيث الشتاء بكل ثقله على النفس والجسد معًا!!!

كانت جزيئات الهواء تتسارع في سباق حيث الرياح بكل عنفوانها وجبروتها وقت أن هبت بغير رؤية المقابل لها؛ فقد فرت المادة آبية الكل إلا مواجهة عتو تلك الرياح الغاشمة؛ وهكذا كانت هزيمتها قابعة بهروبها كما كان هروبها خانعًا لضعف هزيمتها النكراء!!!

ألف ذلك الشخص لطمة أمواجه التي اعتاد عليها منذ أن تكشفت عيناه على مسرح وجوده. فلقد ترنحت قدماه ذهابًا وإيابًا، وهي التي لم تلبث أن تشخص إلى الأمام حتى تتسارع قدمًا في إيابها ثم ذهابها! كان طيلة طريقه محتضنًا لظلمته، بل إن ظلمة ليله الداكن هي ما لفت أحابيلها حوله عندما شملته واكتنفته وأدركته إدراكًا! حدق إلى الأمام، وكانت عيناه قد كلَّت من النظر صوب سبيله، ووسط قطرات المطر المضطجعة بين جنبات جليدها المُحكَم فإذ به وقد أخذته حميته ليقاتل عدوه بل عدو الإنسانية الأكبر: الخوف! فلا بد له من الوصول إلى حيث يبغي ويريد، ولا بد له أن يضع حدًا لعدم انفراجة روحه التي لطالما خشيت المواجهة مما قد قُدِر لها، وما قد مر على ذاكرتها بكل صوره، وما لم يُلق بأنظاره بعد إلى أرضنا وزماننا بل مازال بأحضان اللا وجود مأخوذًا في سُباتٍ عميق….، بذلك اجتر على ما كان يختلج بفؤاده، وبذات الكلمات قد تلعثم بها لسانه!!!

تثبتت قدماه وشدت من أزرها كثيرًا، انتصبت قامته وصار أفقه لا أسفله هو مرمى البصر بل الشغل الشاغل له، شعر بشيء من برد ليله وأحس بقطرات المطر تتصبب على جبهته، فلقد عاد إليه إحساسه – أي وجوده – بعد أن كان في كنف العدم شاردًا تائهًا ضائعًا، تأفف من حلوكة ليله وباتت العتمة لا تُسدي له أي من حوائجه في الاختباء التواري، إذ إنها أضحت لطمات موجعة موجهة إلى القلب قبل العين، والنفس قبل البصر، والروح قبل البصيرة! فلقد تحركت جوانحه نحو نهاره وأمسى كيانه لا يأبه بالظلام ولا يعتد به، وهكذا أبدل قمره المظلم بشمس السماء، كما نجوم ليله الدامس بضوء النهار المشرق اللامع الوضَّاح!

فما أكثر ما خنع لقدره، خاشعًا لقراراته، مختبئًا من صفعاته التي هزته وزلزلته ورنحته أشد ترنح، لكنه انتفض تمردًا شاقًا بذلك له عصا الطاعة، وفي عنفوان رضوخه لحريته التي أطلت بوجهها المنير بين حنايا ضلوعه؛ فإذ به يصدح بصوته ليخترق طبقات الكون في فراغها الشاسع، حتى زعزع بذلك مقلقلًا عتبات الوجود في رصانتها. فانحنى له الخوف، وانبطح أمامه القلق مستلقيًا على وجهه، كما التزمت خفقات قلبه الهدوء بعد أن تسارعت في سباق مع أنفاسه وجريان دمه الذي باتت شرايينه أخاديد له! فلقد خمد الكل واستكان! وبينما بقيت ذراعاه ممدودتين وممتدتين إلى السماء في عليائها، إذ بالشمس تبتسم له بزوغًا من بين حُجبها، والرياح بكل عصفها تسكن في هدوء عظيم، كما أن زخات المطر قد اعتراها التجمد مطمئنة بذلك بين ثنايا سحائبها! نعم! إنه وجوده المفقود وذاته التي كم كانت منتثرة متشظية مبعثرة!

وها هي فطنته التي تزحزحت من قوقعة ذاتها وسبحت في خضم بحر لامع من المعرفة والإدراك: أن خشية المجهول لا تُجدي نفعًا بل إنها سقوط وانهيار وتقويض، فقيْد النفس هو الهدم، وأسر الروح هو الموت ذاته، فما أصعب الحياة المكبلة بالخوف، وما أتعس الموت الحي المتمدد بكهف الحياة المائتة التي ترزح تحت ثقل الذعر والتوجس والارتياع. فلا حياة دون حرية ولا وجود بلا قدرة على التفوه بـ «لا» في وجه كل ما يجعل منا هيئة دون ذات وأشخاص بلا وجود لها!!!

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا