تتميز الحياة المسيحية بإقامة علاقة حميمة بين الله والإنسان، ولعل ما يؤكد على ذلك هو ما جاء في (يو1: 14) [عن التجسد الإلهي] “والكلمة صار جسدًا وحل بيننا، ورأينا مجده، مجدًا” وهذا يعني أن للإنسان قيمة كبرى عند الله، فلقد تنازل الله من علياء سمائه لكي يرفع من قيمة وشأن الإنسان.
يظن البعض أنه إذ قللنا من قيمة الإنسان فنحن نعظم الله، وكأن الله منافس للإنسان… بالطبع هذا التفكير ليس له أي سند أو دليل في كلمة الله، وإنما العكس هو الصحيح، فالله يريد الإنسان ناضجًا وناجحًا ومتكاملًا أمامه حتى يتمجد الله فيه، ولعل أقوى برهان على ذلك هو ما صورته عدسة الوحي المقدس للإنسان في مواقف وعلاقات متميزة مع الله عرضنا منها في العدد الماضي:
(1) صورة الإنسان مع الله ناقدًا
(2) صورة الإنسان مع الله مصارعًا
(3) صورة الإنسان مع الله رافضًا ومعاندًا
(4) صورة الإنسان مع الله متشككًا
نستكمل في هذا العدد باقي الصور
(5) صورة الإنسان مع الله محاورًا ومتسائلًا
كانت العذراء فتاة تقية تتميز بالحياة المقدسة، وتتمتع بالعلاقة الحميمة مع الله، ولهذا اختارها الله لكي يأتي من خلالها يسوع، وعندما ظهر الملاك جبرائيل ليخبرها بهذه الرسالة دخلت معه في حوار يحمل أسئلتها ومخاوفها (لو1: 34- 35): “فقالَتْ مَريَمُ للمَلاكِ: كيفَ يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا؟ فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يدعى ابن الله”.
لكن المهم أننا نرى في نهاية الحوار اقتناعها: “فقالت مريم: هوذا أنا أمة الرب. ليكن لي كقولك. فمضى من عندها الملاك” (لو1: 38).
إن الحقيقة هي أن الله يريد منا طاعة مستنيرة، لا ينظر للمناقشة معه على أنها خطية، لأن الله نفسه هو الذي ميز الإنسان بنعمة العقل، ومن أعمال العقل التساؤل، والنقد، والحوار، وتقليب وجهات النظر، والاستدلال والاستنباط، والتحليل، وغير ذلك من عمليات عقلية، ومن هنا تتجلي بوضوح كرامة الإنسان المستمدة من كرامة الله الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله. كيف لا؟! ألم يسطر النبي إشعياء نداء الرب لشعب في قوله: “هلم نتحاجج، يقول الرب. إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج. إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف” (إش1: 18).
ولعل هذا يذكرني بمعجزة إشباع الخمسة الآلاف حيث نرى الرب يسوع يدخل في حوار مع التلاميذ قبل صناعة المعجزة فيقول: “فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعًا كثيرًا مقبل إليه، فقال لفيلبس: من أين نبتاع
خبزًا لياكل هؤلاء؟” (يو6: 5).
فنرى فيلبس يقول: “لا يكفيهم خبز بمئتي دينار لياخذ كل واحد منهم شيئًا يسيرًا.'” (يو6: 7)
ونجد أندراوس أخو سمعان بطرس يقول: “هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان، ولكن ما هذا لمثل هؤلاء؟” (يو6: 9).
لكن في نهاية الحوار أطاعوا كلام يسوع وأخذ التلاميذ من السيد وقاموا بتوزيع الطعام على الحاضرين ثم مكتوب: “فلما شبعوا، قال لتلاميذه: اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء. فجمعوا وملاوا اثنتي عشرة قفة من الكسر، من خمسة أرغفة الشعير، التي فضلت عن الآكلين” (يو6: 12، 13).
(6) صورة الإنسان مع الله معاتبًا
نقرأ في معجزة إقامة لعازر من الموت بعد أن صار له أربعة أيام في القبر أن لعازر كان مريضًا “فأرسلت الأختان إليه قائلتين: يا سيد، هوذا الذي تحبه مريض… فلما سمع أنه مريض مكث حينئذ في الموضع الذي كان فيه يومين… قال هذا، وبعد ذلك قال لهم: لعازر حبيبنا قد نام. لكني أذهب لأوقظه… فلما أتى يسوع وجد أنه قد صار له أربعة أيام في القبر… فلما سمعت مرثا أن يسوع آت لاقته، وأما مريم فاستمرت جالسة في البيت” (يو 11: 3، 6، 11، 17، 20). هذه الآيات ترسم لنا صورة مريم ومرثا في عتاب مع الرب يسوع في قول مرثا: أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة، في اليوم الأخير، ومريم “فمريم لما أتت إلى حيث كان يسوع ورأته، خرت عند رجليه قائلة له: يا سيد، لو كنت ههنا لم يمت أخي!” (يو11: 24، 32).
وقد رد الرب يسوع على كلام مرثا بأروع ما قاله عن القيامة والحياة إذا قال لها: أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حيًا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد. أتؤمنين بهذا؟ قالت له: نعم يا سيد. أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله، الآتي إلى العالم” (يو11: 25-27).
ورد على دموع مريم بنفس الشيء واللغة إذ مكتوب: “بكى يسوع” (يو11: 35).
نعم! لقد كانت دموع يسوع أبلغ وأقوى تأثيرًا من أية لغة، حيث جسدت هذه الدموع فكرة قرب المسيح لنا وملامسته لآلامنا وأحزاننا. لقد شارك مريم ومرثا مشاعرهما وآلامهما.
لم يتضايق يسوع من عتابهما، لأنه شعر أن عتاب الأحباب هو البرهان على صدق المحبة وروعة الإيمان وقدرة السيد على إقامة لعازر.
(7) صورة الإنسان مع الله عاملًا ومشاركًا
من أروع الصور التي تبرهن بقوة على أن الله يعطي قيمة للإنسان ولدوره أننا نرى في كل عمل إلهي دورًا بشريًا، فنرى مثلًا في الوحي المقدس الدور الإلهي يبدو في [إرشاد الروح القدس] والدور البشري [الكاتب]: الشاعر كتب شعرًا، والأديب أدبًا، والمؤرخ تاريخًا، إلى غير ذلك. دور [الروح القدس] هو تقديم الحق والفكر الإلهي، ودور [الإنسان] هو تقديم الفكر الإلهي في اللغة والأسلوب. ويحدثنا الرسول بولس أن الرأي البشري يشترك مع الله عندما يقول: “رأَى الروح القدس ونحن” (أع15: 28). فالمشيئة مشتركة، وصناعة الفكر والقول والعمل مشتركة، والمسئولية مقتسمة.
هذا ونرى على صفحات الوحي المقدس صورًا كثيرة لمعجزات عديدة يدعو الله فيها الإنسان ليشترك معه في صناعتها، على سبيل المثال عندما كان في عرس قانا الجليل وقام بتحويل الماء إلى خمر نسمعه يقول: “املأُوا الأجرانَ ماءً. فملأوها إلى فوق” (يو2: 7).
كان يمكنه أن يصنع الخمر دون ما حاجة إلى أي شيء وهو الإله الحكيم لا يلجأ إلى قوة خارقة إلا بعد انتهاء كل الإمكانات المتاحة لدينا.
وهل ننسى معجزة إشباع الخمسة آلاف بخمسة أرغفة وسمكتين كانوا مع غلام. ويأتي السؤال: لماذا أخذهم الرب يسوع منه وصنع بهم المعجزة؟ أما كان يمكن أن يصنع المعجزة بدون الاستعانة بهم؟ في تقديري وتفسيري أن يسوع فعل هذا ليعطي قيمة لدورنا ورسالتنا (يو 6).
كيف لا؟! ألم يحدث هذا في معجزة إقامة لعازر؟ فعند القبر قال يسوع: “ارفعوا الحجر!” (يو11: 39). “ثم صرخ بصوتٍ عظيمٍ: لعازر، هلم خارجًا! فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطةٍ، ووجهه ملفوف بمِنديلٍ. فقال لهم يسوع: حلوه ودعوه يذهب.” (يو11: 43، 44).
ولعل البعض يتساءل: لماذا طلب الرب يسوع من الجموع أن يرفعوا الحجر من على القبر؟ ولماذا طلب أن يقوموا بحل الأربطة؟ لماذا لم يصنع المعجزة بأكملها ويريحهم؟!
نعم! إن الله يريد أن يشرفنا بالعمل معه في صناعة المعجزة. وأي شرف أعظم من أن نقول: “نَحنُ عامِلانِ مع اللهِ” (1كو3: 9).
عبرة فى عبارة
– أذكى الناس من يقول للشر: (لا) قبل أن يقول من الشر: (آه).