رائحة الحياة: الحلقة الخامسة

17

د. أماني ألبرت

تدور القصة في مدينة شوشن عاصمة بلاد فارس في عهد الملك “أحشويروش” المعروف باسم زركسيس الأول الذي حكم 127 مملكة.

 (شبنة هو ابن عم الطفلة التي ماتت أمها أثناء ولادتها وسبقها أباها، اتفق شبنة مع عمته رفقة أن تسمى الطفلة اليتيمة هداسا… كانت العمة “رفقة” هي الأم الروحية لكل أبناء عشيرتهم.. أضاع “أبيحائل” والد الطفله، قبل مماته ثروته مع تجار غرباء ولم يحتمل الخيانة فمرض..

في الحلقة الأخيرة ظهر على مسرح الأحداث “أليعازار” وهو رجل أربعيني ذو رأس صغير وشعره خفيف من الأمام، لديه لحية كثة تغطي وجهه المستدير، وعيناه سوداوان ومتوسط القامة، وقوي البنية.. دار حوار بينه وبين “شبنة” ابن عم الطفلة وأبدى رغبته في أخذ الطفلة، لكن شبنة رفض رفضًا باتًا، وعاد “أليعازار” إلى بيته.. (يمكنك قراءة الحلقات السابقة على موقع الجريدة ..

استغل “شبنة” فترة الحداد ليجلس مع نفسه.. يناجي يهوه ويصلي ويفكر.. وقد ساهم بكاء الصغيرة بالغرفة المجاورة في إبقائه متيقظًا لفترة طويلة.

كان من وقت لآخر يطرق باب الغرفة ليلاً طرقات صغيرة ليسأل العمة “رفقة” عما إذا ما احتاجت لشيء.. ومَنْ يمكن أن يفعل مثلها؟ لقد تركت بيتها وقررت أن ترعى المولودة وتباشر المرضعة حتى يجدوا حلاً.. فقد أكدت له أن أولادها لم يعودوا في احتياج ماسٍ لها وأنه يمكنهم الاعتماد على أنفسهم.

مر نهار اليوم الثالث من حداد “شبنة” ثقيلاً ..وقبل أن تختفي آخر خيوط النور تأكد من أن الشموع مضاءة في غرفة والدة الطفلة الراحلة.. هكذا جرت العادة أن تظل الغرفة مضاءة بشموع التذكار.

ثم ذهب “شبنة” إلى غرفته ولف نفسه بردائه استعدادًا للنوم. غلب النعاس جفنيه.. مرت برهة لا يعرف مقدارها ثم استيقظ على طرقات خفيفة على باب البيت.. لم يكن نوم “شبنة” خفيفًا أبدًا فقد كان ينام ملء جفنيه ولكن تغيُّر الظروف والمسئولية الملقاة على عاتقه أصاب أعماقه بانزعاج.. قام مسرعًا ووقف خلف الباب..

مَنْ بالباب؟ مَنْ الطارق؟

“إنليل”.. أنا “إنليل”. افتح يا “مردخاي”. (جرت العادة أن يغيروا أسماء الأشخاص من الشعوب المختلفة إلى أسماء فارسية، و”مردخاي” هو اسم “شبنة” في العمل.)

فتح “شبنة” أو “مردخاي” لصديقه الذي تحدث إليه بالفارسية.

يبدو أني أتيتُ متأخرًا .. ولكني أخذتُ وقتًا طويلاً جدًا حتى وصلتُ إليك. هذه أول مرة آتي هنا.

مرحبًا صديقي العزيز.. تفضل.

رغم أن “إنليل” كان رئيس “مردخاي” في عمله بالقصر إلا أنه كان أيضًا صديقه ومؤتمن أسراره، فقد وجد “مردخاي” نعمة في عينيه..

و”إنليل” هذا متوسط الطول، ذو وجه مستطيل وأنف مدبب وشعر ناعم أسود وتميزه لحيته الكثة الممزوجة بالشعر الأبيض والأسود، وهو سهل المراس ومتعاون..

كان قد أتى منذ زمان من كورة بعيدة مع آبائه وأجداده.. ونال مكانة رفيعة بسبب خدمات أسرته الجليلة لبيت الملك والتي كان أهمها ما قام به جده وأبوه من سن القوانين التي تنظم المملكة الناشئة المتسعة. وبسبب خدمات جده للقصر، تم تعيين حفيده “إنليل”، وهو كاتب متعلم يجيد لغات مختلفة، في القصر ثم تدرَّج ليصبح رئيس كتبة القصر.. ورغم اختلاف ثقافتيهما وجنسيتيهما وديانتيهما كانت هناك علاقة وثيقة بينهما.. فقد وثق “إنليل” في “مردخاي” بسبب أمانته في مواقف عدة وجعله مساعده الأول.

أردتُ أن آتي في وقت سابق ولكن لم أجد أن الفرصة مناسبة..

كلا، بالطبع تسعدني رؤيتك ولكن لم يكن هناك داع لتعبك وأن تأتي بنفسك..

لا تقل هذا.. العادات عندنا أن ينتهي الحداد باليوم الثالث، لهذا لم أرد أن آتي قبل هذا الوقت.. أردتُ ألا أقطع فترة حدادك.

أقدِّر هذا لك.. الحداد في عاداتنا يستمر سبعة أيام.

ولكن..

لا، لا تقلق.. لقد نويتُ أن آتي غدًا للعمل.. فقبل أي شيء أنا أتبع القوانين المدنية للمملكة، وأعرف أنه لم يكن عليّ التغيب كل هذه الأيام..

لا بأس.. لم يكن هناك شيئًا مهمًا..

حاول “مردخاي” أن يستضيفه داخل البيت ولكن الرجل أصر على عدم الدخول.. خاصةً أن الوقت لم يكن وقت زيارة..

كيف حالك؟ وماذا حدث؟

سأقص عليك كل شيء، ولكني أصر على أن تدخل وتأخذ واجب الضيافة، فهذه المرة الأولى التي تزورني فيها.

لا، لا داعي.. لا أريد أن أزعج مَنْ بالبيت.

كلا.. إنها عمتي والطفلة المولودة.

قال “إنليل” بنبرة حزينة..

وأمها هي التي…

صمت “مردخاي”.. وهز “إنليل” رأسه.

هل تعلم؟ لقد توقعتُ أن أمها ماتت.

نعم، ماتت زوجة عمي ’”أبيحائل”.

هل كنت ستتزوجها لتحيي اسم عمك؟ كم أنا آسف من أجلك..

قال له “مردخاي” بصوت متقطع:

شش شش اخفض صوتك.. لقد ماتت وهي تلد.. المهم كيف أحوالك وأحوال الديوان؟

قال “إنليل” هامسًا:

ينقصه وجودك.. اسمع. قابلني غدًا قبل موعد بدء العمل بوقت كافٍ لأطمئن منك على أحوالك.. سأرحل الآن.. أردتُ فقط الاطمئنان أنك بخير.. وأتمنى أن تلمس الآلهة قلبك وترفع الحزن الظاهر عليك.

كم أشكرك صديقي العزيز “إنليل”.

رحل “إنليل” بعد أن سار معه “مردخاي” خطوات للخارج وودع كل منهما الآخر، ثم رجع “مردخاي” ودخل البيت على أطراف أصابعه حتى لا يستيقظ أحد.

 *********

حاول “مردخاي” أن ينظم روتين حياته كما كان قدر المستطاع.. يستيقظ باكرًا يؤدي صلواته ويتناول فطوره ثم يذهب إلى عمله في القصر، وبعدها يرجع البيت ليأخذ مناوبة الصغيرة من “رؤومة” التي تذهب لبيتها بمجرد وصوله.

قدمت العمة “رفقة” الكثير والكثير من الوقت.. ففي الأيام الأولى كانت تبيت مع الطفلة لأن “مردخاي” رفض تمامًا أن تترك المولودة البيت.. ولما كان إصراره على المبيت بجانبها أمرًا غير مجدٍ خاصةً في الأيام الأولى ضحت العمة “رفقة”، فالطفلة تحتاج إلى أم أو سيدة خبيرة في التعامل مع الموقف الذي لم يكن “مردخاي” ليقدر على التعامل معه أبدًا.

في الأيام الأولى حينما كان يحمل الطفلة، كان يقتحمه مزيج من المشاعر: الحزن والبهجة.. وبمرور الوقت نمت ألفة بينهما.. فقد اطمأنت الطفلة وهي بين يديه بينما زاد هو ارتباطًا وتعلقًا بها.

ومعها كان ينسى كل شيء ويخرج من عباءة الكاتب الوقور، ليداعبها ويغني لها ويحكي لها قصص الآباء الأولين. وكثيرًا ما كانت العمة “رفقة” تدخل فجأة فيعتدل “مردخاي” منتصبًا في جلسته عائدًا إلى وقاره.

وساهم السرير الصغير المذهل الذي أرسله “أليعازار” في هدهدة الطفلة أثناء فترات بكائها، فقد كان يتحرك يمينًا ويسارًا بطريقة فنية رائعة.

مرت الأيام وهو يشاهد الطفلة، أو كما يلقبها “أميرتي الصغيرة”، تكبر أمام عينيه.. فرح بأولى خطواتها.. وتابع بقلق تلعثمها في نطق اسمه مرارًا وتكرارًا. كانت تذكِّره بأمها وأبيها؛ نفس حركات أبيها وردود أفعاله ونفس ملامح أمها.

مرت عليه أيام صعبة، اضطر أحيانًا ألا يذهب لعمله بسبب مرضها أو لأنه ظل ساهرًا طوال الليل بجانبها.. رغم أن هذا كان أمرًا مستحيلًا في السابق بالنسبة له إلا أنه لم يعد ينزعج إن أرقت نومه.

غيرت “هداسا” نمط حياة “شبنة” أو “مردخاي” وطريقة نظرته للأمور، ويبدو أنه تقبَّل هذا بحب.. فقد كان كل شيء يسير بنظام وروتين ووقت محدد لدى “مردخاي”، أما الآن فقد اعتمد نظام حياته على ما يحمله اليوم من مفاجآت الصغيرة.

ورغم اهتمامه بترتيب كل شيء خلال اليوم إلا أن هذا لم يمنع أميرته الصغيرة من أن تفاجئه بتصرفاتها التلقائية غير المتوقعة.

بمرور الوقت، أجابت الأسئلة الكثيرة التي دارت داخل “مردخاي” عن نفسها، مثل: كيف سأقوم برعايتها؟ كيف سأتفاهم معها؟ ماذا ستأكل؟ ماذا عن ملابسها؟ فقد أجابت الأحداث والأيام عن أسئلته، وكانت العمة “رفقة” خير داعم له.

وبسبب علاقته بهذه الطفلة الصغيرة التي غزت محبتها قلبه، أعاد “مردخاي” اكتشاف نفسه. فقد وجد أنه ما زال قادرًا على العطاء والحب والاهتمام.. واختبر مشاعر من نوع جديد أضفت الحيوية والانتعاش على حياته.

ربما لا يعرف ما يحمله الغد من مفاجآت – كعادة الحياة – ولكنه يعرف أنه، مثل شجرة الآس ذات الرائحة الجميلة، حملت الصغيرة لبيته وقلبه معنىً وطعمًا جديدًا.. وملأتهما دفئًا وحبًا نشرا رائحة الحياة حوله.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا