العلاقة مع الذات جسر لمحبة الآخرين

2

د. فيولا موريس

يسعى أغلب الناس إلى البحث عن إقامة علاقات مشبعة مع الآخرين، فالعلاقات ليست مصدر للشعور بالأمان والحب والقبول فقط، بل هي مصدر أيضًا لاكتشاف الذات. إنها بمثابة مرآة تعكس حقيقتنا والجوانب الخفية في شخصياتنا، والتي لم نكتشفها بعد، إذ إنه من الصعب أن ندرك ذواتنا أو نرى أنفسنا على حقيقتها إلا من خلال العلاقات مع الآخرين، فمثلًا الانجذاب العميق نحو بعض الأشخاص يكشف لنا عن مما نعانيه من نقص في جوانب شخصياتنا. فالبعض ينجذب إلى عفوية الآخرين، حيث إنه يعيش حياة روتينية ونمطية ومملة. كما نبحث عن أشخاص يشعرون بالأمان، لأن هناك جزء من نفسياتنا يبحث عن هذا الأمان، أو الإعجاب بحرية شخص، قد يكون لأننا نبحث عن الحرية في ذواتنا. كذلك فإن ردود أفعالنا تعكس ما نعانيه داخليًا. فمثلًا احتقارنا لضعف الآخرين قد يكون سببه أننا لا نريد مواجهة هشاشة أجزاء من أنفسنا، أو النفور من شخص ما قد يكون نتيجة الإحساس بأن هناك جزءًا من أنفسنا ننفر منه، أو قد يكون ابتعادنا عن الآخرين هو نوع من خوف الترك والهجر من الطرف الآخر، وهو شكل من أشكال آليات الدفاع التي نستخدمها لحماية ذواتنا من الشعور بالجرح، وهو ما يُعرف بالإسقاط.

نعرف من أصحاب المدرسة التحليلية أن نظرية التعلق تلعب دورًا هامًا في تحديد علاقاتنا بالآخرين، فمثلًا تعلق الطفل بالروابط الأولى يشكل أنماطًا متكررة في مرحلة البلوغ، وذلك مثل الطفل الذي تعلم الحب المشروط يبحث دون وعي عن نفس العلاقات في مراحل البلوغ.

ويستطرد (يونج) في القول بأن هناك أشخاصًا ينجذبون نحو آخرين يجعلونهم يشعرون بالمعاناة، وذلك لأن هناك جرحًا عاطفيًا لم يتم شفاؤه، أو ننجذب نحو أشخاص يخونوننا حيث نشعر في أعماقنا بأننا لا نستحق الولاء.

وهكذا نجد أن هناك بعض الأشخاص يقبلون أن يعيشوا في علاقات سامة، وإذا تخلص من علاقة ما سامة يجد نفسه يكرر نفس النمط مع علاقات أخرى سامة. وسبب ذلك في نظر (يونج) أن هذه العلاقات ليست علاقات نفسية فقط بل هي عصبية، فالعقل مبرمج للبحث عن الأنماط المعروفة حتى ولو مؤلمة لأن العقل تعود على مثل هذا النمط من العلاقات. فمن خلال التكرار، تحدث اتصالات عصبية قوية تجعل الشخص وكأنه غير قادر على كسر هذه الدوائر التي تعمل على توجيه حياته، فيظل دائمًا محاصرًا بالتكرار وكأنه نوعًا من الإدمان.

ولكن يقدم لنا (يونج) حلًا لهذه المشكلة، وذلك عن طريق وضع حدود تقاطع أنماط التخريب وخلق دوائر عصبية جديدة لإعادة برمجة العقل بطريقة صحيحة.

وهكذا يضع لنا نموذجًا للعلاقات الرومانسية التي يبحث فيها الأشخاص عن الحب في الآخرين وذلك عن طريق إيجاد أنماط جديدة تنشئ لنا حبًا راسخًا يكون مصدرًا لمحبة كل من حولنا وهو العلاقة مع الذات، حيث إن العلاقات الخارجية ليست مصادر للحب الحقيقي الثابت. فالحب الحقيقي غير مستمد من الخارج ولكنه ينبع من دواخلنا ومن علاقاتنا بذواتنا، فالحب يبدأ بقبول ذواتنا والتصالح معها والاعتراف بقيمتها الجوهرية بغض النظر عما يحدث في الخارج، وهو الطريق لاكتشاف أنفسنا. وهكذا فالحب ليس فرضية، ولكنه رحلة تتحدث فيها مع نفسك كما تتحدث مع صديق عزيز.

لا تبحث في الآخرين عما تفتقده في نفسك، بل ابحث عنه داخل نفسك. فمصادر الحب الخارجية تخلق نمط من النقص الدائم في كياننا، فهو حب مشروط ومؤقت.

وبهذا المعنى فإن الحب لا يصبح هدفًا في حد ذاته، ولكنه علاقة مع الذات، فهو حالة تنشأ حينما تتصالح مع نفسك كما سبق القول، كما أنه رحلة داخلية لفهم الذات. إنه ليس مشاعر بل حالة وجودية تنبع من الداخل وتنعكس على مَنْ حولك، وهكذا تتحول كل علاقة مع الآخرين إلى فرصة للنمو النفسي. على أن ندرك أن التصالح مع الذات يعني قبولك لكل جوانب شخصيتك بما تحمل من نقاط ضعف وقوة، وهكذا تحب نفسك متذكرًا قول السيد المسيح: “تحب قريبك كنفسك”. وهذا خلاف النرجسية أو الأنانية، فكلاهما يبحثان عن الأمان والحب المزيف الخارجي. وتيقن أن قيمتك الجوهرية مستمدة من مصدر الحب الحقيقي وهو الله الظاهر في الجسد، شخص الرب يسوع المسيح الذي قدم ذاته من أجلنا والذي أحبنا فضلًا دون استحقاق، فهو حب غير مشروط ودائم لا ينقص ولا يزيد، وهو الحب الذي يشفي الأعماق ويحررها من كل نقائص ويجعلنا نرى أنفسنا كاملين في المسيح. لذلك فالحب أعظم هدية تقدمها لنفسك لأنك أخذتها من يد الآب السماوي. ولكي تستمتع به، تواصل مع الخالق وتحدث إليه فقد وهبك هذه العطية مجانًا. وعندما تستمتع بهذا الحب الإلهي وتفيض به على الآخرين وترى نفسك وقد استرديت هويتك الأصلية وهي أنك على صورة الله، يمكنك أن تسترد الفردوس المفقود وتحيا قول السيد المسيح: “هوذا ملكوت السماوات داخلكم”.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا