– هل جُننت يا أيوب؟ هل فقدت عقلك! هل تريد أن تقف أمام الله في المحاكمة؟ كيف تجرؤ؟! هل تريد أن ترفع دعوى قضائية ضد الله؟!
هكذا سأل “أَليفاز التيماني” صديقه “أيوب”: “هل يدخل معك في محاكمة؟” فمن يجرؤ أن يحاكم الله!
كان رد “أيوب” مملوء باليأس، وكأنه يقول:
– ليس لدى بديل.. فقد أصابني الإحباط والفشل، الألم الموجود داخلي لا يمكن وصفه، أنا حزين ووحيد ومتوجع… لدرجة أني أبحث عن الموت ولا أجده، أناديه مرارًا وتكرارًا وهو صامت.
أشعر أني متروك للضيق ليفترسني من كل جهة، أصرخ بضيق نفسي: أين أنت يا الله؟ ولماذا تقف بعيدًا؟ هل تتفرج على ألمي؟ أم أنك أنت سبب ألمي؟ أليس ما أصابني كافيًا؟ ألا تكف عني؟
ألست أنت إله العدل؟ وأين هو العدل؟ ألا تنظر إلى ظلمي؟
لا أريد أن أسمع المزيد من الكلمات، يبدو أني اتقيتُ الله فأجابني بالألم!! أنا في حزن وخزي وكلي وجع… انطفأت حياتي وفقدتُ كل رجاء.
حاول “أليفاز التيماني” أن يقاطع أفكار أيوب وكلماته المسمومة وهكذا فعل بقية الأصدقاء لكن دون جدوى… فيبدو أن مأساته كانت أكبر من حكمة وفهم البشر، ومر الوقت ثقيلًا … بعد أن تبدل حاله من النقيض إلى النقيض… من صديق لله إلى خصم وعدو! وعلت أصوات المجادلات مع أصدقائه الذين حاولوا تبرئة صورة الله في عيني أيوب واتهامه هو بالذنب… ولكن دون جدوى أو مخرج أو حل.
تُرى، هل كانت أسئلة أيوب مشروعة؟ فهو لم يعد قادرًا على الاحتمال، خاصةً أنه انتظر تدخل الله الذي يبدو أنه غاب تمامًا عن حياته، فتحدث معه ولما لم يرد عليه فكَّر أن يحاكم الله!
في البداية أراد أن يعاتب الله (أي13: 3) واستخدم الفعل “يحاجَّه” (أي9: 3) في إشارة إلى أنه كان يفكر في رفع دعوى قضائية ضد الله، وتعني “لو أراد رجل أن يحاكم معه” أو “إذا أراد شخص ما أن يقاضي الله”
واستخدم السفر مصطلحات قانونية مثل: “أجادله وأبني دفاعًا يؤثر على الله؟” (9: 14)، “فمن سيقدم له مذكرة الاستدعاء؟” (ع 19) “أعرِض أمامه دعواي وأملأ فمي حججًا” (23: 3-4) “أحاججه بشأن قضيتي” (13: 3) “أطرح قضيتي” (13: 22).
“ترسل شهودًا جددًا عليَّ” (أيوب10: 17)، وهي استعارة قانونية قد تشير لتزايد مرض أيوب كما قد تشير إلى أصدقائه الذين اتهموه.
وخلال السفر اعتبر أيوب الله “خصمه” (أيوب31: 35) وطلب أن يكتب شكواه ليفهم ويرد عليها “ليت خصمي يقدم شكواه مكتوبة!” (أي31: 35).
كما أشار أصدقائه مستنكرين إلى “أن الله لا يعين ميعادًا يحاكم فيه الإنسان لدى قضائه، بل يسحق العظماء من غير بحث” (أي34: 23) أو لا يعين موعدًا “ليدعوه للمثول أمامه في محاكمةٍ”
وحتى حين أجاب الرب أيوب من العاصفة، استخدم المصطلح القانوني “إجابة”، ويعني الرد على اتهام في المحكمة، وخاصةً في ظل استجواب الشهود (38: 1-42: 6).
فهل هذا يعني أنه لم يكن لديه الإيمان الكافي في الله؟ أم أنه كان يحاول إيجاد الطريق؟ وهل وجده أم تركه الله تائهًا وسط ألمه؟
ظل أيوب يتحدث ويتحدث معربًا عن ألمه وضيقه من الله، ويتساءل: ما هي خطيتي؟ والله صامت وألم أيوب يزداد، فظل يتحدث إلى أن قال كل الكلام الممكن أن يُقال ثم سكت. وعلى غير توقعه، استُعلن له الله، متسائلًا: “هل ستجلبني أنا القدير إلى المحكمة وترفع دعوى قضائية؟” (أي40: 2)
ورد على اتهاماته وكلماته، فأدرك أيوب كم هو صغير جدًا أمام الله. والغريب أنه لم يجب على أسئلته بخصوص لماذا يحدث هذا معه رغم أنه اتقى الله، إلا أنه بسبب حضور الله حدث تغير عجيب داخل أيوب جعله يسلم ويتوب عما بدر منه!
إن قصة أيوب هي قصة البشرية كلها، هي نفس الصرخة المتكررة: لماذا يسمح الله بمعاناة الأبرياء؟ لماذا يزهو الأشرار؟ لماذا يسمح بالألم؟ لماذا ولماذا؟ وهو ما سنناقشه في سلسلة المقالات القادمة.