عندما دخلتُ يوم الثاني عشر من يونيو 2023 على صفحتي في الفيس بوك لأتصفحها، الأمر الذي نادرًا ما أقوم به إلا للضرورة القصوى وفي المناسبات الهامة فقط، هالني وأضحكني وأبكاني في نفس الوقت ما قرأته عن أن هناك يومًا عالميًا للفلافل، وإحقاقًا للحق أنني لم أنتبه ولم أكن أعلم قبل ذلك أن هناك يومًا عالميًا للفلافل. وبسرعة البرق، ظننتُ في البداية أنها دعابة من أحد مرتادي الفيس بوك أن يكتب أن هناك يومًا عالميًا للفلافل، لكن العنوان في حد ذاته جعلني أدخل على موقع جوجل لأعرف هل هناك فعلاً يومًا يُعرف بيوم الفلافل العالمي. وأدهشني ما رأيتُ من كمية المواقع التي كتبت عن يوم الفلافل العالمي، وما زاد من دهشتي وتعجبي بشأن هذا الأمر هو اكتشافي أن هناك ليس فقط احتفالاً بيوم الفلافل العالمي بل أن هناك صراعًا وعراكًا واتهامات بالسرقة حول أصل الفلافل، وصل إلى حد رفع بعض الدول قضايا دولية للاعتراف لها أنها أصل الفلافل.
وطبعًا لم تسلم الصهيونية والإمبريالية العالمية من اتهامها بمحاولة السرقة والسيطرة على مَنْ هو أصل الفلافل وكيف نشأت وانتشرت. وقد جاء بأحد مواقع الإنترنت “زعمت إسرائيل بأن الفلافل وجبة إسرائيلية ضمن محاولاتها سرقة التراث والثقافة العربية، وروَّجت لهذا الأمر في أوساط السياحة والفنادق والمؤتمرات الثقافية الدولية، ووصل بها الأمر إلى تقديمها في المحافل الدبلوماسية”، وكأن الفلافل أصبحت جزءًا من التراث والثقافة العربية، وإسرائيل الحرامية تحاول سرقتها منا كعرب، يا سبحان الله، فيا له من تراث قدمناه وثقافة عربية قدمناها للعالم أجمع بتقديم الطعمية أو الفلافل له والسماح لبقية العالم بأكلها وتسميتها الفلافل. أما عن العراك حول المكون الرئيسي للفلافل فيقولون إن الخلاف حول “ما إذا كانت الفلافل الأصيلة هي المعمولة من الحمص كما هو الحال في دول الشام ولبنان وغيرها أم أن أصلها كان مصنوعًا من الفول.” وتقول بعض المواقع على محرك البحث جوجل إنه في عام 2012 أنشأ الشريك المؤسس لـ Innovation Israel يوم الفلافل العالمي.
وبغض النظر عن مكان نشأة هذه الوجبة، فإن يوم الفلافل العالمي هو اليوم المثالي للاحتفال بها. وذكر موقع آخر عن الجدول الزمني ليوم الفلافل العالمي أن أول مرة سُجِّل فيه اسم الفلافل كان في عام 1941، وهو اسم يُستخدم في جميع أنحاء العالم وتم تسجيله لأول مرة باللغة الإنجليزية في ذلك العام. وقد طال الخلاف أيضًا معنى كلمة فلافل، فما معنى كلمة فلافل؟ الرواية الأولى تقول إن أصل الكلمة قبطي، وإنها تأتى من كلمة “فا لا فل”، أي كثير الفول، والرواية الثانية تقول إن الكلمة في الأصل “بلبال” باللغة الآرامية، و”بلبال” تعنى الشيء المستدير.
ويقول البعض إن الفلافل مصرية الأصل، وإن أول مَنْ أقبل عليها هم الفراعنة، بعد تناولهم للفول، فالصور الأولى للطعمية ظهرت على نقوش مقابر وادي الملوك وكذلك طريقة دش الفول وإضافة الخضروات له، وطريقة تحمير أقراص الفلافل، ومع الزمن تفنن المصريون في إعدادها فأضافوا لها البيض والطماطم والشطة.
حسم النزاع:
في القرون الأولى لدخول المسيحية مصر، استعاد الأقباط أقراص الفراعنة، نظرًا لأنها مليئة بالبروتين النباتي وبديل جيد عن اللحوم في أيام الصيام، وأطلقوا عليها اسم (فا-لا فل) وهي كلمة قبطية تعني “ذات الفول الكثير”، وهذا جزء من إثبات مصرية الطعمية، فأصل التسمية يقول إنها من الفول وليس الحمص أو غيره كما يصنعها الشوام.
وعندما أعلنت الأمم المتحدة في عام 2016 أنه عام للبقوليات، أقام الاتحاد الدولي للبقوليات مهرجانًا للفلافل في لندن حضره جمع من معدي الفلافل في العالم، فشهد المؤرخون الغذائيون أن الفلافل أصلها مصري، وأن المصريين هم “ملوكها”، وأثبتوا أن الأقباط استعادوا إرثهم الثقافي من الفراعنة وأكلوا الطعمية.
ولا عجب أنه في يومها العالمي تتصدر الطعمية محرك البحث”جوجل”، حيث حقق وسما اليوم العالمي للفلافل” و”فلافل” تفاعلًا وصل إلى أكثر من مليون. أما التعليقات على الوسمين فقد قاربت 270 ألف تعليق، بينما ناهزت المشاركات 817 ألف مشاركة. وكانت ذروة التفاعل مع الوسمين هي التي سُجِّلت من خلال مليون بين مشاركة وتعليق.
وأقول الصدق ولا أكذب إنني في البداية استتفهتُ نفسي ولُمتها على الاهتمام بأمر الفلافل والصراع حول أصلها، الأمر الذي أخذ مني ومن اهتمامي القليل من الوقت الذي كان يمكنني أن أصرفه في أمور أخرى أهم وأبقى من دراسة الصراع حول اليوم العالمي للفلافل، لكنني في النهاية وجدتني كما هي عادتي أتفكر في أمر الكنيسة في مصر وأتذكر مقالي “عيد الشكر في زمن التذمر والتنمر”، ذلك المقال الذي بدأته بخطاب مفتوح للرئيس السيسي طالبًا منه تحديد يوم مصري، وليس عالميًا، لعيد الشكر، والذي ذكرتُ فيه أهمية أن يقوم الرئيس السيسي بنفسه بالدعوة لهذا الأمر، وأن يتبنى هذا المشروع، وأوضحتُ فيه أيضًا أهمية عيد الشكر بالنسبة لنا نحن خلائقه وبالنسبة للمولى ذاته، تبارك اسمه، فهو سبحانه الذي طلب من البشر أن يقيموه، وأوصى به في كتبه المنزَّلة، كما أوصى الآخرون من الأنبياء والكُتَّاب في كتبهم غير المنزَّلة منه، تبارك اسمه، بوجوب الشكر له سبحانه. لكن كما توقعتُ وكتبتُ في مقالي السابق فلا أحد سيلتفت لهذا النداء أو الخطاب المفتوح، ربما لعدة أسباب أذكر منها ما تيسَّر وما يسمح به المقام، فعلى سبيل المثال لا الحصر:
1- قد يكون السبب وراء عدم الالتفات لهذه الدعوة بتخصيص يوم من أيام السنة ليكون يومًا دوليًا للشكر هو الاستهانة بالأمر لبساطته وسهولة تنفيذه أو لانشغال هؤلاء المسئولين بأشياء أكثر أهمية، حسب قناعاتهم، من أمر تشريع يوم ليكون عيدًا سنويًا لشكر المولى تبارك اسمه، الأمر الذي أرى أنا أهميته القصوى التي لا تقل، في رأيي الخاص، عن أهم أمر يشغل بال مصر والمصريين اليوم قيادةً وشعبًا، حيث إن عيد الشكر هذا قد يكون المفتاح لباب السماء الذي يشتم الله تبارك اسمه منه رائحة سرور منبعث لجلاله من مصر، فيعلّم ويرشد المسئولين عنها كيف يحلون مشاكلها الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تتفاقم يومًا بعد يوم والتي لا يظهر لها في الأفق القريب حل حتى الآن، وربما يعلمِّ ويرشد سبحانه المصريين كيف يتواضعون ويرجعون عن طرقهم الردية ويصلون ويطلبون وجهه لكي يسمع من السماء ويغفر خطيتهم ويبرئ أرضهم. وربما كان الاتفاق على يوم دولي أو عالمي أو مصري فقط لجعله عيدًا للشكر سيجعل كل منا، مسيحيين ومسيحيين أو مسيحيين ومسلمين أو مسلمين ومسلمين، يفكر كل في الآخر، ويدرب كل منا نفسه على قبول الآخر والعيش معه في سلام، وقد يصل الأمر إلى أن يشكره كل منا، سبحانه، لأجل الآخرين أيضًا حتى الذين يخالفوننا في العقيدة والدين والقناعات والمذاهب. وفي هذه الحالة، ستقل حدة التوتر الموجود بيننا وبين غيرنا وحتى بيننا وبين أنفسنا وجيراننا وغيرهم.
2- وقد تكون عدم استجابة السلطات بتحديد عيد مصري للشكر بسبب أن الدعوة جاءت من المسيحيين، وليس من المسيحيين فحسب بل من شخص واحد منهم. وعليه، وحيث إن هذه الدعوة جاءت من شخص أو أشخاص ولم تأت من الرئاسة نفسها، أو من كيان ديني كالأزهر أو مجلس الكنائس الموحد أو حتى من رؤساء الطوائف أو المذاهب، فمن الطبيعي جدًا كما نعلم جميعًا، وكما كتبتُ أنا في نفس مقالي السابق، أنني لا أتوقع أن يلتفت أحد من المسئولين، سواء الحكوميين أو حتى الكنسيين، لمثل هذه الدعوة التي أعدك عزيزي القارئ أنني لن أهدأ إلا بعد أن يجعلها القادر على كل شيء حقيقة ممارسة مفعلة، ليس لأجل شخص أو كيان أرضي بل لأجل تمجيد اسمه والاعتراف له سبحانه بالشكر والجميل والعرفان.
3- وقد يكون عدم التنفيذ للفكرة من ناحية المسئولين عن الكنيسة بسبب مشغوليتهم بقضاياهم الشخصية، سواء قضايا كنسية أو قضايا محاكم أرضية أو اهتمامات أخرى حتى لو كانت هذه الاهتمامات سليمة لا غبار عليها.
4- وربما يكون عدم الاهتمام بدعوة تحديد يوم مصري للشكر، حتى من قِبل قادة الكنيسة، ناتجًا عن أن المنادي بها كثيرًا ما أشار وكتب وأثبت بالأدلة القاطعة فساد بعد قادتها ورجالها وطالبهم بالتوبة والرجوع عن أعمالهم الشريرة وبأن يرعوا رعية الله التي أقامهم عليها نظارًا أو أساقفة، أو يمكن أن يكون هناك من الأسباب الكثير الذي لا أعرفه أنا والذي أرحب جدًا بمعرفته إذا كان هناك مَنْ يريد أن يشاركه معي ومع جريدة “الطريق والحق”، وللجميع الشكر العميق على تعاونهم في هذا الأمر.
لكن بغض النظر عن الأسباب التي تمنع قادة الحكومة أو قادة الكنيسة أو قادة المجامع والمذاهب الإنجيلية من تنفيذ هذا المطلب الذي أثق أنه مطلب إلهي في المقام الأول، ومهما تكن تلك الأسباب، فإنني أثق أنه يومًا ما سيتحقق وستحصد الأرض كلها عامةً، ومصر خاصةً، نتائجه الروحية.
وفي النهاية، أقول إنه عند المقارنة بين أن يهتم العالم كله بعمل عيد عالمي للفلافل ويهمل عن عمد أن يكون هناك عيد عالمي أو حتى مصري فقط للشكر فإن هذا إن دل ذلك على شيء إنما يدل على تفاهة بني آدم، وأتجاسر وأقول غباءه، لأنه ينتبه للفلافل الأكلة الشعبية الرخيصة نسبيًا والمنتشرة في كل العالم تقريبًا، والتي قد يحبها البعض أو لا يحبونها، ومهما كانت فائدتها فأكلها في حد ذاته ليس ضروريًا أو حتى هامًا لجسم الإنسان، وفي نفس الوقت يغفل الإنسان المصري عن أن الشكر وجبة إلهية ليست رخيصة بأي شكل من الأشكال، فما أعطاه الله لشعبه من بركات وإحسانات لغالي الثمن جدًا بحيث لا يمكن لبشر ما أن يعوضه سبحانه عما دفعه وعمله لكي يحصل الإنسان على علاقة روحية أبوية معه. ولا ينتبه الإنسان إلى أن وجبة الفلافل هذه، بالرغم من أهميتها لدرجة أن يحدد لها العالم عيدًا عالميًا للفلافل فإنها ليست منتشرة في كل العالم، ولا يحبها أو يفضلها الغالبية العظمى من البشر، ولا يرون مدى أهميتها، في حد ذاتها، ليس لجسد الإنسان فحسب بل لنفسه ولروحه أيضًا، لكنهم في نفس الوقت يغفلون عن أهم ما يعطيه لنا المولى الذي يجعل من حقه علينا سبحانه أن نشكره كل حين وفي كل وقت وعلى كل شيء. فإلى كل قادة الكنائس في مصر، دعونا نقوم بتحديد يوم الخميس الرابع من شهر نوفمبر من كل عام لنحتفل به جميعًا كمسيحيين بالشكر لله الذي يستحق منا كل الشكر والتعظيم والسجود، وإلى اللقاء في احتفال عام في القاهرة في ذلك التاريخ.