كانت الغاية المنشودة من عقد المؤتمر الفلسفي الدولي بجامعة عين شمس عن وحدة المعرفة في عام 1980، هي تطوير مناهج ومقررات التعليم الجامعي، ولكن ليس بإدخال تعديلات جزئية إنما باستحداث تغييرات جذرية استنادًا إلى وحدة المعرفة كمدخل لإعادة تأسيس الجامعة في سياق تحقيق التكامل بين المجالات المعرفية المتباينة من أجل مجاوزة التخصص الدقيق الذي تتسم به الجامعة التقليدية. إلا أن هذه المجاوزة لا تعني إقصاء التخصص الدقيق إنما تعني وضعه في سياق وحدة المعرفة. ومن هنا ارتأيتُ أنه من اللازم تقديم هذا الذي ارتأيته إلى وحدة تنسيق العلاقات الخارجية بأمانة المجلس الأعلى للجامعات.
وقد جاء تقرير هذه الوحدة إيجابيًا وداعمًا لوحدة المعرفة استنادًا إلى ثلاثة مبررات: المبرر الأول، أن الثورة العلمية والتكنولوجية التي نشأت في النصف الثاني من القرن العشرين أضعفت الفاصل الزمني بين اكتشاف نظرية علمية وبين تطبيقها في مجالات الحياة. وفي سياق هذه الثورة، تأسس علم السيبرنطيقا الذي يؤلف بين العلوم الرياضية والطبيعية والعلوم الإنسانية. وتمهيدًا لهذه التوليفة، نشأ علم الأخلاق التكنولوجي الذي يؤلف على غير المألوف بين البيولوجي والأخلاق.
والمبرر الثاني، أن التنمية لم تعد محكومة بالاقتصاد وحده، إنما أصبحت تعني التنمية الشاملة بما تنطوي عليه من سمات اقتصادية واجتماعية وثقافية، وبالتالي فإن التنمية على هذا النحو ليس في الإمكان المشاركة في إنجازها في سياق التخصص الدقيق. والمبرر الثالث أن الاتجاه العالمي يدعو إلى الاقتراب من وحدة البشر من أجل القضاء على الصراعات بين المجتمعات لتحقيق السلام العالمي.
وقد جاءت الموافقة على مشروع وحدة المعرفة لتطوير الجامعات في 13/7/ 1988. ومع ذلك لم يتم التنفيذ، لكن جامعة تورنتو بعد أن اطّلعت على أعمال مؤتمر وحدة المعرفة بعد نشرها في كتاب في عام 1983، تحمست لتبني المشروع، وذلك في رسالة من رئيس الجامعة في فبراير 1988. وقد أشير إلى هذا المشروع في المؤتمر الذي عقده الاتحاد الفيدرالي للعلوم الاجتماعية في أونتاريو بكندا في أكتوبر من عام 1988. وقبل ذلك بعام، نشرت مجلة جامعة تورنتو في عددها الصادر في 23 فبراير مقالاً عنوانه: “وحدة المعرفة: هل هي حلم ممكن التحقيق؟”، جاء فيه أن رئيس الجمعية الأمريكية للتعليم العالي رسل إدجرتون قال في مواجهة مائة من كبار رجال الأعمال وأساتذة الجامعات إنه أصبح من اللازم تحويل التعليم الحر إلى تعليم محرَر. وكان يقصد به التعليم الذي يتجاهل المعرفة المتخصصة في علم معين من أجل التحكم فيه وفي المقابل يركز على خلق طالب تكون لديه مهارات التحليل والتركيب مع الإبداع، كما يتجاهل القول بأن مهمة التعليم تكون مقصورة على نقل الثقافة. إلا أن نقطة الضعف في كلمة إدجرتون أنه لم يتحدث عن كيفية تطبيق ما يقترحه. وقد قام بهذه المهمة أساتذة جامعة تورنتو عندما شكَّل رئيس الجامعة لجنة من نفر من أساتذة الجامعة لوضع برنامج تحت مسمى “وحدة المعرفة”. هذا مع ملاحظة أن هذه اللجنة كانت قد شُكِّلت قبل كلمة إدجرتون، وكانت الفكرة المحورية تدور حول التعبير الإنساني عن الأفكار باللغة باعتبار أن الدقة في تناول الألفاظ اللغوية من شأنها أن تفضي إلى تقوية فهمنا لهذه الحياة الدنيا. وثمة علوم مساعدة في هذا المجال وهي على النحو الآتي: البيولوجي الجزيئية لكي نفهم ميكانيزم الحياة، وميكانيكا الكوانتم لكي نفهم ظاهرة النتوء المصاحبة للديناميكا الحرارية، ونظرية النسبية الخاصة لتدريب الطلاب على الدقة في التفكير، ونظرية التطور لكي يفهموا كيفية تطور المعرفة بوجه عام. وعليهم بعد ذلك اختيار موضوع للبحث والتعامل معه كفريق ثم يقدمون في نهاية المطاف تقريرًا عما أنجزوه.
ويلزم التنويه بأن أساس وحدة المعرفة مردود إلى نظرية المجال الموحَد لقوى الطبيعة الأربع التي بدأ في تأسيسها أينشتين وهي على النحو الآتي: الجاذبية التي تشد الأجسام نحو الأرض، والمغناطيسية الكهربائية التي تشع الضوء، والقوة الضعيفة التي تسبب النشاط الإشعاعي، والقوة القوية التي تجعل مكونات الذرة متماسكة.
وفي يونيو من عام 1992، انعقد مؤتمر عن وحدة المعرفة في كابري بايطاليا. وقد جاء في ورقة العمل الآتي: في كل يوم، يتم نشر 14000 بحث علمي. فإذا قرأت يوميًا كل بحث في ثانية واحدة ولمدة ثماني ساعات فأنت تكون في هذه الحالة متابعًا لكل ما يُنشر. ومن هنا يمكن القول إن وحدة المعرفة ليس في الإمكان إنجازها. ومع ذلك فالإنجاز مطلوب ولو كان جزئيًا. وسبب عدم الإمكان مردود إلى ظاهرة تقسيم العمل أفقيًا ورأسيًا في سياق الهرم الاجتماعي. والتحدي هنا يكمن في التوفيق بين ما هو منفصل وما هو متصل. إلا أن ثمة صعوبات تقف أمام انجاز ذلك التوفيق. خذ مثلاً العلاقة بين الاقتصاد وعلم النفس، فالخبراء في علم النفس يقولون إن الأساس السيكولوجي للاقتصاد هزيل للغاية، فهل إعادة النظر في هذه المسألة كفيلة بإزالة ذلك العائق؟ وخذ مثلاً آخر: إن ثمة أبحاث عديدة تقرر أن السلوك الاجتماعي متأثر بما تكون عليه بيولوجيا أجسامنا. ومع ذلك فإن علماء الاجتماع نادرًا ما يتساءلون عن معنى ذلك فيما يخص مجال أبحاثهم. ومن هنا يلزم الإقرار بأن تجزئة المعرفة هي الوضع القائم في المجال الأكاديمي وهو ما يقف عائقًا أمام وحدة المعرفة. فهل نحن في حاجة إلى إبداع لاستدعاء وضع قادم يكون بديلاً عن الوضع القائم؟