رغم أنني وغيري من المولعين بكل من الاستثنائي الفلسطيني محمود درويش، والليلكي الدمشقي نزار قباني في مشروعهما الشعري المتميز حقًا، إلا أن لحيظات الرفض لكليهما يمكن اقتناصها من بعض السطور الشعرية التي تفضح رؤيتهما المتوحدة للمرأة العربية، وإن كانت المرأة في نص كليهما الشعري هي الأرض والقضية والحرية والثورة الإنسانية إلا أن امرأة محمود درويش هي امرأة الحب البعيدة والمستعصية وصعبة المراس، بينما امرأة نزار قباني هي امرأة الفتنة والخريطة، لذلك يبدو الاعتراض على ذهنية الرجل العربي صوب المرأة التي لا يمكن اختزال وجودها في مشهدين؛ الحب والجنس.
ولعل هذه الصورة الذهنية لم يفرضها الدين بفقهه ورجاله وتصاعد المد الديني القادم من أوساط غير إسلامية، بل إن ذهنية النسوية ارتبطت بسيكولوجيا الاستعمار وخصوصًا أن النسوية على حد توصيف توفيق شابو، حركة سياسية ظهرت في الغرب للمطالبة بحقوق المرأة، وهذه الحركة رغم خصوصيتها إلا أنها اعتمدت على فلسفة تجاه الرؤية الذكورية التي شكلت وجودها القيمي، لدرجة أنه وسط هذا الاهتمام الأيديولوجي بحركات المرأة التحررية وجدنا موجات من التقاطع وسياسات فرض الهوية الذكورية، وصولًا إلى مشاهد القطعية الكاملة ثم التمييز المرتبط بالعنف والقهر.
وبعيدًا عن إرهاق العقل العربي من إحداثيات تجديد الخطاب الديني الذي بات لدى الكثيرين عقدة مزمنة بالوعي الجمعي، ورغم أن فكرة تجديد الخطاب الديني جاءت متزامنة مع حركة التنوير التي أيقن مفكرو القرن العشرين أن التنوير لم يأت بثماره حتى لحظتنا الراهنة، ومخطئ من يجتر حديثه عن تحرير المرأة وحريتها في ظل تيارات دينية راديكالية تتسم بالقمعية والوحشية إزاء ممارستها مع المرأة العربية.
ولنا أن نستقرئ الرائعة العربية نظيرة زين الدين التي تحدثت عن وقائع المرأة العربية في عشرينيات القرن الماضي حينما صرخت بكل قوة قائلة: “كفى الشرق جموده، وموت روح الحرية والاستقلال فيه، وكفى الشرقيين حرمانهم حرية التفكير التي هي أساس كل نهضة، بل كفاهم أنهم يمشون على منهاج آبائهم لا يتطورون ولا يتجددون، ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء، إنهم هم الخاسرون”.
هكذا اختزلت نظيرة زين الدين عشرات السنوات في ثمة سطور أوجزت بها ما تدعيه الشعوب العربية من تنوير وتحرر وثورة في إعمال العقل، لكن الحقيقة لم تزل المرأة العربية جسدًا لا أكثر، وهذه مأساة أمة تتفاخر بأنها تدشن احتفاليات احتفاء بالأنثى.
ومخطئ من يزعم أن الخطاب التحرري المجتمعي قد نجح وفلح بامتياز، فمعظم ثورات الربيع العربي التي كانت وفقًا لهوس المفكرين السياسيين إحدى أنماط نواتج هذا الفكر التنويري كلها جاءت خرابًا ودمارًا سياسيًا واقتصاديًا على شعوبها المترهلة باستثناء مصر التي استطاعت أن تستفيق سريعًا لخيبات انتفاضة الخامس والعشرين من يناير التي مرت من هنا ليس أكثر.
وقضية الحرية للمرأة أشبه بمسألة الموت لدى الفلاسفة، فكلتا القضيتين تقفان على حافة هاوية المشايخ لاسيما رجال الدين المنتمين لتيارات وطوائف تبدو متطرفة، وإذا أردت أن تفطن إلى تصدع أي مجتمع عربي عليك فقط أن تتناول وضع المرأة ومكانتها في مظان أقطاب هذه التيارات المتعصبة لتدرك على الفور أن ما يقصدونه بالتنوير وحرية المرأة في تلك المجتمعات هو تحديث وتثوير مضاد عكسي.
وبات من العجيب أن تحتفي مجتمعاتنا العربية الموغلة في حديث التنوير بالمرأة الشاعرة، والمرأة الطبيبة، والمرأة الأكاديمية صاحبة العلم والمعرفة، وأن تتطاير رقصًا وطربًا بامرأة رياضية، وكأن هذا المخلوق من دوره فقط أن يظل حبيسًا خلف جدار، وأن يقبع في سجنه النفسي والمجتمعي وليس من حقه الإنساني أن يكون بحق إنسانًا.
ورغم مساحات الاهتمام الأشبه بالديكور بالمرأة العربية من خلال مؤتمرات تبدو وهمية تناقش قضاياها الاجتماعية، أو حوارات إعلامية تتناول وضع المرأة العربية في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، إلا أن الاهتمام الوهمي والكاذب هو خير دليل على حالة التناقض الثقافي التي تعاني منه مجتمعاتنا العربية، وأن فكرة التضامن مع المرأة هو أشبه بالتضامن مع شعوب مجهولة تسكن غابة منسية دون الوصول إليها والتعرف على حقيقتها.
لذلك فإن فكرة الحداثة أو زمنيتها المتداولة في كتب المفكرين والمنظرين الاجتماعيين عادة لا تخرج عن فلك الذات كوجود فاعل للمرأة العربية، وحينما يتم تناول فكرة الذات الأنثوية في الكتابة الروائية أو حتى الشعرية فأنت أمام خيار واحد لا غير؛ الذات القابعة في حجرها تنتظر فرصة للسفور والخروج للشارع إما منقادة لسلطوية الرجل أو مناهضة له غير مكترثة لقواعد المجتمع وهذه مهزلة أدبية يقترفها الروائيون العرب وهم يزعمون أنهم يسايرون نهضة التنوير التي بزغت في بدايات القرن التاسع عشر.
والكارثة أن الانتهاكات التي تمارس ضد المرأة ليست جسدية فهذا مشهد يرتبط أساسًا بالأمراض العصبية التي يعاني منها أحاب هذه الممارسات والانتهاكات، لن الكارثة الحقيقية هي الانتهاكات النفسية التي تميل عادة إلى الاستبعاد المجتمعي أو الاستقطاب إلى حد التملك والسيادة المطلقة، وهذا السجال الفلسفي بين الاستبعاد والاستقطاب نتيجة حتمية لراهنية العلاقة بين سلطة الولع الديني غير المتفقه، وبين العقلانية المتطرفة في أبشع صورها نحو الإقصاء والتهميش بل والتمييز على أساس الجنس أيضًا.
وإذا كان المفكر العربي نبيل دبابيش في مقالته “متى يبدأ التنوير؟” ظل يفتش عن إجابة لهذا السؤال العصبي مستعرضًا ملامح تاريخية للتنوير ووصولًا إلى أن قلق السؤال أفجع من السؤال نفسه، فإن الإجابة اليقينية تكمن في أنه متى أدرك الرجل إنسانية المرأة الكاملة فمن هنا يبدأ التنوير حقًا. لأننا نهرول سريعًا نحو كافة مصطلحات ومفردات التنوير والنهضة والتحرر العقلي وعندما نتناول المرأة من زواياها المجتمعية ومشاركاتها الإنسانية فإننا نسقط بصورة أسرع ولربما هذا السقوط يعتبر علامة من خصوصيات الثقافة العربية التاريخية الرافضة أصلًا للتجديد، بل للإنسانية نفسها.