هداسا في القصر: الحلقة الثانية والعشرون

1

د أماني ألبرت

(شبنة هو ابن عم الطفلة التي ماتت أمها أثناء ولادتها وسبقها أباها، وقد اتفق شبنة مع عمته رفقة أن تسمى الطفلة اليتيمة هداسا. كانت العمة “رفقة” هي الأم الروحية لكل أبناء عشيرتهم. أضاع “أبيحائل”، والد الطفلة، قبل مماته ثروته مع تجار غرباء ولم يحتمل الخيانة فمرض.

وبسبب علاقة شبنة (مردخاي) بهذه الطفلة الصغيرة التي غزت محبتها قلبه، أعاد اكتشاف نفسه. لقد وجد أنه لا زال قادرًا على العطاء والحب والاهتمام، واختبر مشاعر من نوع جديد أضفت الحيوية والانتعاش على حياته. تطورت العلاقة بين شبنة والطفلة الصغيرة وأصبح يخاف عليها من أي شيء. التحق مردخاي بالعمل في القصر الملكي. وذات يوم، أقام الملك حفلًا كبيرًا تسللت إليه هداسا سرًا، رأت أمور لم تتوقعها، عاد مردخاي من الاحتفال متوعكًا فما انقطع عن الذهاب إلى القصر وجرت أحداث كثيرة في القصر، فماذا حدث بعد عودته؟ (يمكنك قراءة الحلقات السابقة على موقع الجريدة.)

وفي شوشن القصر، سيطرت حالة من الحزن الشديد على حي “مردخاي”، إذ أتى جنود الملك أسرع مما هو متوقع… فقد كانت المعلومات التي لدى “مردخاي” هي أن الأمر سيتم بعد أسبوعين ولكنهم أتوا في موعد أبكر.

والأمر حدث في الصباح أثناء تواجده بالقصر… ومن خبرة الجنود في جمع العذارى من أرجاء المملكة عرفوا بسهولة المخابئ الموجودة في البيوت التي دخلوها… فأخذوهم قسرًا وعنوة.

وما بين صرخات العذارى ودموع الأهل… غطت الحيرة المشهد… كان صباحًا حزينًا… جلس فيه الجميع خارج منازلهم يبكون وينوحون ويضعون التراب على رؤوسهم ويطلبون معونة من إله السموات… كان من الممكن أن يرسلوا في طلب “مردخاي” لكنهم أرادوا أن يمنحوه ساعات قليلة قبل أن يبتدئ وجعه الذي لن ينتهي.

وبينما هو عائد هذا اليوم في موعده… شعر بوخزة عميقة في قلبه… ذكَّرته بألمه القديم أثناء التسمم حين كاد أن يفقد حياته… كما تذكر إحسان الله وإنقاذه له… وما أن دخل الحي حتى أدرك أن هناك شيئًا غير طبيعي… فالمكان لا يهدأ ويسوده هدوء حذر… لم يتوقف ليسأل أحد… ركض مسرعًا نحو البيت… فما يخشى حدوثه قد حدث!

وما أن وصل للساحة حتى وجد الكل في الخارج يبكي وينوح…فقد حلت الكارثة… بكى “مردخاي” بكاءً مرًا… وخلفه العمة “رفقة” بالكاد تقف عند مدخل البيت وقد كسرها الحزن.

قالت وهي تبكي بحرقة:

– أخذوا “هداسا” و”يديدة” وبقية البنات.

بكى “مردخاي” كما لم يبكِ من قبل… بكى كالأطفال… فخسارته هذه المرة لن تعوض والمشكلة أنه عاجز لا يستطيع فعل أي شيء… طمت التساؤلات فوق رأسه.

لماذا سمح الله بحدوث الأمر؟ هذه المرة لا يوجد منفذ… لم ينطق بكلمة بل ركب الفرس وركض مسرعًا هائمًا لا يعرف إلى أين يذهب وإلى مَنْ.

بعد ساعات طويلة توجّه “مردخاي” نحو بيت “إنليل” وقد أعياه البكاء… طرق الباب بشدة ففتح “إنليل” مسرعًا… أدخله وبعد أن فهم منه… قال له:

– “مردخاي”، هل جننت؟ ألم تكتب المرسوم بيدك “كل مَنْ يرفض أو يتستر أو يساعد على التستر يموت هو وبيته ويؤخذ بيته ضمن أملاك الملك”. أي تصرف محسوب عليك الآن… لا تفعل أي شيء مجنون… لن تفيدها وأنت ميت.

ظل “إنليل” يهدئ من روعه… كان “مردخاي” مقتنعًا تمامًا بكل كلمة قالها له… ولكن ألمه كان أكبر من أن يعبِّر عنه… ذكَّره “إنليل” بعباراته المشهورة… أن عجز الإنسان هو إعلان لقوة الله… ولكن دون جدوى.

لم يرد “إنليل” أن يتركه وهو في هذه الحالة… وحذّره من الذهاب بهذا الشكل إلى القصر… فالأمر يحتاج إعدادًا جيدًا، ولكن “مردخاي” ألحّ عليه لأنه يريد أن يرتاح… وخرج هائمًا على وجهه… كان الجو متربًا والظلام كثيفًا… القمر يلقي ضوءه على استحياء… ظل يركض بالفرس كثيرًا في الساحة الخارجية للمكان الذي كانت تتدرب فيه “هداسا” على ركوب فرسها الأبيض… ومن بكائه أصيبت رؤيته بتشويش… وقف وسط البقعة ونظر لأعلى وشق ثيابه وصرخ صرخة عظيمة ومرة:

– لماذا؟ لماذا يا رب؟ قل لي… لماذا سمحت أن يحدث هذا؟… لماذا؟ لماذا تأخذها مني بعد أن أعطيتها لي؟

ثم سقط على الأرض باكيًا وواضعًا التراب على رأسه.. وظل لساعات إلى أن لاحت بوادر النور… قام متهالكًا وجعل وجهته نحو المنزل ليغير ملابسه ويذهب القصر… وسار وهو يصارع موجات حزنه العميق.

*********

من جهته، كان الملك يصارع هزيمته… وجن جنونه من جنوده… كيف لا يقدر هذا العدد على هزيمة الإسبرطيين؟

وقف القائد “ماردونيس” قائلًا:

– مولاي… لقد استخدموا نفس التكنيك في المرتين. أداروا ظهورهم لنا وما أن بادرنا بالهجوم حتى انقلبوا علينا. وأكره أن أقولها؛ لقد قتلوا عدد كبير منا.

– حسنًا… استدع “هيدارنس” ستنزل قوات المشاة الثقيلة “الخالدون” (هي مجموعة من نخبة الجنود… مدربة تدريبًا جيدًا، أنشأها كورش العظيم يتراوح عددهم 10000 محارب. أي شخص جريح أو مريض فيهم كان يتم استبداله فورًا. كانوا يمسكون دروعًا من الخوص ورماحًا قصيرة وسيوفًا كبيرة، كما استخدموا القوس والسهم في قتالهم، وكانوا يرتدون الدروع الواقية. توضحهم النقوش بملابس مزينة وأقراط ذهبية ومجوهرات، ورؤوس رماحهم كانت من الذهب تمييزًا لهم عن الجنود العاديين من الفضة.)

ظلت الحرب دائرة ولكن حتى هؤلاء هزموا أيضًا… وبينما الملك جالسًا للتشاور مع رؤسائه سمعوا صوت أجش خارج الخيمة يقول:

– مولاي… مولاي … أريد أن ألتقي الملك.

– ما هذه الجلبة؟ مَنْ هذا؟ وماذا يريد؟

دخل حارس الخيمة الملكية قائلًا:

– هو أحد جنود المشاة المرتزقة… لديه أمر يريد أن يخبر به مولاي… يقول إنه سيغير من وضعنا في الحرب ويرفض الحديث لغيرك.

سمح له الملك بالدخول… صوته الأجش لم يتناسب مع شكله، فهو ضئيل الحجم على أن يكون جندي.

لم ينتظره الملك ليلتقط أنفاسه، وبادر بالقول:

– ماذا لديك؟

– مولاي، هناك طريقة للانتصار على الإسبرطيين.

رد الملك باستهانة:

– وهل أنت وحدك الذي تعرفها؟ ما هي؟ تكلم.

رفع أحد الحراس سلاحه استعدادًا لأمر الملك بالبطش به… ولكن الملك أشار له بيده… فأنزل سلاحه.

– هل ستكافئني مولاي؟

– نعم… لو كنت صادقًا.

– سأعطيك الحل للانتصار… لا أريد أموالًا… أريد شيء آخر مع الأموال.

– إن انتصرنا.. أي شيء أعطيه لك.

– أريد أن أكون ضمن كبار المجلس العسكري أو ضمن أحد مستشاريك… أريد أن أكون قريبًا منك.

– حسنًا… سنرى… تحدث… فقد بدأت أفقد صبري.

– أعرف طريقًا سريًا نستطيع منه الوصول لليونانيين ومهاجمتهم من الجانبين… يمكننا الالتفاف حول الجبل لنخنقهم وسطنا.

رد أحد قواد الجيش باستفهام وتشكك:

– كيف تعرف هذا الطريق… ماذا لو…؟

قاطعه الملك الذي كان يائسًا من الانتصار عليهم:

– هذا ليس مهمًا الآن. اذهب بعد مغيب الشمس وأرِ القادة الطريق.

– مولاي… هل ستنفذ وعدك لي؟

– في حال انتصارنا… البسوا… ما اسمك؟

– “هامان” مولاي… اسمي “هامان”.

– حسنا لو ثبت صحة كلامك وانتصرنا يلبس “هامان” ثياب القادة ويكون أحد مستشاريّ ويكافأ بالأموال من الدرجة الأولى.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا