تدور القصة في مدينة شوشن عاصمة بلاد فارس في عهد الملك “أحشويروش” المعروف باسم زركسيس الأول الذي حكم 127 مملكة.
(شبنة هو ابن عم الطفلة التي ماتت أمها أثناء ولادتها وسبقها أباها، اتفق شبنة مع عمته رفقة أن تسمى الطفلة اليتيمة هداسا… كانت العمة “رفقة” هي الأم الروحية لكل أبناء عشيرتهم.. أضاع “أبيحائل” والد الطفله، قبل مماته ثروته مع تجار غرباء ولم يحتمل الخيانة فمرض..
وبسبب علاقة شبنة (مردخاي) بهذه الطفلة الصغيرة التي غزت محبتها قلبه، أعاد اكتشاف نفسه. فقد وجد أنه ما زال قادرًا على العطاء والحب والاهتمام.. واختبر مشاعر من نوع جديد أضفت الحيوية والانتعاش على حياته. (يمكنك قراءة الحلقات السابقة على موقع الجريدة ..
أبي أنت
كانت هناك طرقات سريعة متتالية على باب البيت تدل على عجلة صاحبها.. تحرك “مردخاي” مسرعًا ليفتح الباب .. فوجد أمامه رجلًا أربعينيًا وامراة ثلاثينية تدل طريقة لبسهما على أنهما من شعبه.
تساءل الرجل ملهوفًا:
– سيدي.. أريد أن ألتقي السيد “مردخاي”. هل أنت سيدي “مردخاي”؟
– نعم.. هو أنا.
قال الرجل بلهفة وسرعة: أنا صادوق بن جيرا من عائلة شفطيا.. أبي كان يشتري من والدك ما تأتي به السفن.. وعائلتي كانت ضمن قادة العائدين من السبي لبلادنا (الكتاب المقدس: سفر عزرا 2: 4). وهذه يروشا زوجتي، هل تتذكرني؟
رفع “مردخاي” عينيه إلى فوق ليفكر.. فقد كان أباه يتعامل مع عدد لا بأس به.. لم يستطع أن يتذكر فقال لهما:
– تفضلا إلى الداخل أولاً واخبراني ماذا تريدان.
دخلا وقد أمسك كل منهما على التوالي “المزوزا” الموضوعة على الباب مقبلين الوصايا المكتوبة..
جلس “مردخاي” مقابلهما..
نظرًا لمهارته في الكتابة والترجمة لعدة لغات كان يشغل مكانة مهمة في القصر ولذا أتيا إليه..
بادرت “يروشا” بصوت متحشرج:
– سيدي، أرجوك.. اختفى ابني “يؤاخ” منذ أمس.
– لقد بحثنا عنه في كل مكان، وآخر مره شوهد عند نهر أولاي.
ثم انفجرت الأم باكية وقالت بصوت أسيف:
– ابني ضاع.. ولا نعرف ماذا نفعل. أرجوك. أنت تشغل منصبًا كبيرًا في القصر الملكي.. أرجوك ساعدنا..
فتح “مردخاي” فمه ليتكلم ولكن “صادوق” قاطعه:
– سيدي، اذهب معي لرئيس الشرط.. أرجوك أنا لا أمتلك المال الكافي فأنا أعمل خزافًا في أطراف المدينة لذا لا أسكن هنا بينكم.. سأبيع نفسي عبدًا لو اضطررتُ. سأدفع أي شيء مقابل استرداد ابني.. أرجوك لا تتخلَ عني.
تنهد “مردخاي” بعمق وقال:
– لا نستطيع أن نذهب الآن لرئيس الشرط.. الموضوع معقد، وليس من السهل الدخول له، ولن نجده هناك الآن.. امنحني أكبر قدر من التفاصيل عن الولد وغدًا بينما أنا في القصر سأحاول التصرف.
– لا، لا يا سيدي، أرجوك.. لا نريد أن ننتظر للغد.
– ولكن أين عساه يكون؟ نحن إمبراطورية عصرية تحرم العبودية. ألعل أحدى السفن أخذته عبدًا لتسافر به بعيدًا؟
– بصدق أقول لكما.. لا يوجد ما يمكن فعله الآن سوى البحث عنه.
ظل والدا الطفل يترجيانه.. فيما سرح “مردخاي” بتفكيره. كيف يمكن أن يكون حاله لو فقد أميرته الصغيرة “هداسا”؟
قال “صادوق” راجيًا:
– لا بد أن يكون هناك حل.. لا أعرف أحدًا سواك في القصر.. أرجوك
وبالجهد أقنع “مردخاي” الوالدين بالهدوء ليعرف المزيد من المعلومات عن الطفل.. وتساءل قائلًا:
– أين شوهد آخر مرة بالضبط؟
– شوهد بجانب نهر أولاي أي في منتصف المدينة، ناحية المدينة السفلى.
– وكم عمر الطفل؟ وكيف يبدو؟
– يبلغ من العمر خمس سنوات.
ابتلع “مردخاي” ريقه وقد بدأ يتوتر.. فعمره يقترب من عمر “هداسا”..
– وهو جميل الطلعة.. أبيض اللون ذو شعر وعينان سوداوان.. تميزه شامة كبيرة سوداء اللون أعلى حاجبه الأيسر.
– نعم، وكان يرتدي جلبابًا لونه أزرق جميل استبدله والده من أحد التجار بأوانٍ خزفية.
عرف “مردخاي” منهما وصفًا دقيقًا للولد ووعدهما باسم يهوه أنه سيساعدهما بمجرد دخوله باب القصر صباح اليوم التالي..
*********
استيقظ “مردخاي” مبكرًا.. وأدى صلواته وتناول إفطاره على عجل، وقبل أن يخرج من باب المنزل طبع قبله على جبين أميرته الصغيرة.. لم يشأ أن يوقظها فقد كان يعرف جيدًا أن العمة “رفقة” ستفعل بمجرد وصولها بعد خروجه.
توجه نحو القصر ودخل ساحة الكتبة مكان عمله، وكان أول شيء فعله هو التوجه نحو كرسي رئيسه “إنليل”، كبير الكتبة، وأشار له أنه يريده في أمر مهم.
حكى “مردخاي” القصة لـ “إنليل” وسأله عن رأيه.. فرك “إنليل” لحيته الكثة وقال:
– ليس أمامهما حل سوى أن يرفعا دعواهما عند “کاخ دروازه کشورها”.
– بوابة أحشويروش؟ ولكن هذا يعني أن يذهبا لمدينة “برسيبوليس”. أخشي أن الوقت يمر، ولو أخذا المسلك القانوني فقد يتوه وسط كثير من القضايا … أريد منك أن تسأل لي في البلاط.
– “مردخاي”.. بالطبع سأفعل ولكن حمايةً لحقهما وإثباتًا لضياع الطفل عليهما أن يسجلا دعواهما في بوابة كل الأمم.
– وماذا ستفعل؟
– سأنتظر قدوم “أوروك” المسجِّل وأتحدث معه باسمك ليتحدث هو مع رئيس الشرط.
– ولكن أرجو أن يتم الأمر اليوم .. الوقت يداهمنا ونحن لا نعرف أي شيء عن الطفل.
– ولماذا لم يعينا مناديًا للبحث عنه؟
– فعلا كل ما تتخيل ولكن يبدو وكأنه اختفى.
دخل “أوروك” المسجِّل بوجه العابس، وكان يسير بخطوات ضيقة بسبب قصر قامته واكتظاظ جسمه.. وخلفه حامل الرقوق وأقراص الطين، فوقف الجميع تقديرًا واحترامًا له.. سار نحو كرسيه الفخم الموضوع مقابل الباب ثم جلس عليه.
باشر مع “إنليل” العمل المطلوب وما تم إنجازه وحدد ترتيب ما يوضع في سجل أخبار أيام الملك.. ثم قال له:
– لدينا وثيقة دبلوماسية مهمة نحتاج لكتابتها غدًا. لقد انتهيتُ من صياغتها وسأعرضها اليوم على الملك لآخذ الموافقة النهائية عليها.
– بكل اللغات، سيدي؟
– نعم، ولكن عليك تفادي الصياغة غير الدقيقة في الترجمة الآرامية بتعيين مترجم محترف، حتى لا يأخذ الأمر منك وقتًا في المراجعة والتعديل.
– نعم، سيدي.. أعتقد أنه يمكن إسناد هذا العمل لـ “مردخاي”.
– آه، “مردخاي”.. لقد أثنيت لي قبلًا على كتابته الدقيقة .. ولكنك قلت لي أنه يجيد الفارسية والعيلامية، وأظن الأكادية؟
– نعم سيدي.. ويجيد الآرامية أكثر.. اقترح أن يمسك “مردخاي” القلم الآرامي كله.. فهي اللغة الرسمية الآن والمراسلات الدبلوماسية أمر خطير، حتى نضمن دقة الكتابة، وفي كل الأحوال سأراجع بعد كتابته وأعطيك تقريرًا.
هز “أوروك” المسجِّل رأسه علامة الموافقة، واستعد للوقوف وهو يقول بحزم:
– إذن.. انتهينا من كل شيء.
– سأرافقك للخارج، سيدي.. هناك أمر أريد التحدث معك فيه..
– حسنا، هيا بنا..
وقف “أوروك” وهو يشير له بيده ويلملم عباءته الواسعة وبينما يتحرك متمايلاً بجسمه المكتظ.. وقال له:
– قل لي ماذا تريد بينما أنا في طريقي نحو قاعة التسجيل.
– سار “أوروك” المسجل وبجواره “إنليل” رئيس كتبة المملكة وخلفهما حامل الرقوق إلى أن خرجا من القاعة ..
– سيدي.. لدي مشكلة لا يوجد غيرك يستطيع التوسط لحلها.
– ماذا تريد، “إنليل”؟
– هناك صبي صغير قريب لـ “مردخاي” هذا اختفى ولا يعرف أهله عنه شيئًا.
– ولماذا تساعده؟ الأمر لا يخصك.
– نعم، سيدي، ولكنه مخلص للمملكة ولم أجد منه غير كل تعاون.. وهو مكدر.. فرأيتُ أن أقول لك.. فلا يوجد غيرك يستطيع أن يعرف ماذا حدث.. وقبل أي شيء نحن نتبعك ولا نريد أن نتحدث بشئوننا إلا من خلالك.
قال “أوروك” متفاخرًا:
– لا مشاعر في العمل “إنليل”.. ولكن لا بأس، لأنه لا يوجد غيري يستطيع أن يعرف ماذا حدث.
– حسنًا.. سأرافقك حتى مدخل القاعة لأعطيك تفاصيل الحادث وملامح الطفل.