مصر المتأرجحة بين الدولة الدينية والدولة المدنية

0

نشأت أبو الخير

 في الآونة الأخيرة، جرت مياه كثيرة في النهر وطفت أحداث جمة على السطح، فقد طُرحت أطروحات ومقترحات في الفترة الأخيرة أثارت انقسامات في المجتمع المصري بين مؤيد ومعارض، حيث شهدت ردة في النظام التعليمي والدولة المدنية التي ننشدها. وبما أن بلادنا تنفرد من بين دول العالم بأن لدينا اثنتان من عجائب الدنيا السبع “الأهرامات والفنار القديم”، فلماذا لا تتفتق قريحة بعض المسئولين بأطروحات عجيبة العجاب لننفرد بها أيضًا، فمن طرح فكرة إعادة نظام الكتاتيب من قِبل وزارة الأوقاف، إلى الدعوة لتعريب الطب من قِبل جامعة الأزهر، إلى مقترح وزارة التربية والتعليم بإضافة مادة الدين للمجموع وما تنطوي عليه من تديين التعليم.

* فقد فوجئنا بما تم طرحه بالمطالبة بإعادة نظام الكتاتيب من قِبل وزارة الأوقاف. والحقيقة اعترتني الدهشة والحيرة والقلق من فكرة المطالبة بعودة هذا النظام الذي عفا عليه الزمن وأصبح من بقايا العصور الوسطى، ففي الوقت الذي نحن فيه من القرن الـ 21 والذي يغزونا فيه يوميًا الذكاء الاصطناعي بابتكاراته غير المسبوقة وما نعيشه من عصر الفيمتو ثانية والرقميات، إذا بهذا المقترح العجيب يعود بنا إلى الوراء ألف سنة. والأدهى في الأمر أن نجد مَنْ ينبري للدفاع عن هذه الفكرة العبقرية، وحجتهم في ذلك  أنها أفرزت مشاهير العالم مثل طه حسين. وردًا على هؤلاء نقول: ألم يكن طه حسين هو نفسه متمردًا على الكتاتيب وناقدًا لأساليبها وطرقها الجامدة؟ ألم يكن لدى هؤلاء العباقرة الاستعداد والموهبة الفطرية من الأصل التي تحدت كل الظروف والمعوقات وانطلقت بهم إلى آفاق العلم الحديث والتقدم حتى وصلوا إلى العالمية، وليست الكتاتيب هي التي أوصلتهم للعالمية؟ فنظام التعليم بالكتاتيب أسلوب علينا تجنبه بما ينطوي على التحفيظ والتلقين وليس إعمال العقل والمنطق، كما أن الكتاتيب لم تكن إلا السبيل الوحيد المتاح آنذاك في قراهم لتعلُّم القراءة والكتابة وحفظ القرآن، ثم بدأنا في مرحلة لاحقة فيما بعد في الخمسينيات تطبيق نظام نشر التعليم على أوسع نطاق. وقد كانت لهذا القرار وجاهته في بلد كانت تتفشى فيه الأمية ثم انخفض مستوى التعليم بالقرارات العشوائية والمتضاربة، حيث انحصرت محاولات وزارات التعليم المتعاقبة في زيادة بعض المواد أو إلغائها، وزيادة سنوات الدراسة أو تقليلها. آن الأوان لكي نتحرر من نظام الحفظ والتلقين لننطلق إلى آفاق التقدم المطلوبة بصياغة أسلوب جديد يعتمد على تنمية المهارات الإبداعية والتفكير النقدي للحاق بنظم التعليم الحديث في الدول المتقدمة، وأمامنا نماذج ناجحة في فنلندا واليابان وغيرهما.

* ولم نستفيق من صدمة الكتاتيب حتى وقعت على رؤؤسنا صاعقة أخرى ممثلة في مقترح آخر قادم إلينا من وزارة التربية والتعليم بمقترح أنها تريد إضافة مادة الدين إلى المجموع بل وأيضًا رفع الدرجة إلى 100 درجة من المجموع الكلى الذي قوامه 700 درجة، وحجتهم في ذلك ترسيخ القيم الدينية والأخلاقية. وأيضًا أثار هذا المقترح جدلًا واسعًا في الأوساط التعليمية والاجتماعية، وبالتالي جاءت ردود الفعل متباينة بين التأييد والاعتراض، ما بين شبهة تديين التعليم والاقتراب خطوة من الدولة الدينية والتقهقر خطوات بالابتعاد عن الدولة المدنية. والأدهى من ذلك أن الوزير كشف عن اعتزامه تعديل القانون حتى يتسنى له تنفيذ قراره العبقري، حيث طرح ذلك في مؤتمر صحفي عقد لمناقشة مقترح نظام البكالوريا الذي يحل بدورة محل الثانوية العامة. وبمناسبة اقتراح نظام البكالوريا، فإن هذا الأمر الذي يهم مئات الآلاف من الطلاب وأسرهم يتطلب التأني بالفحص والتمحيص ويحتاج قدرًا كبيرًا من الدراسة والبحث من قِبل الخبراء، إلى جانب حوار وطني وحوار مجتمعي.

نعود لمادة الدين. يا معالي الوزير، هل تعلم أن الطلاب المسيحيين في المدارس ليس لهم فصل أو مكان ثابت لتلقي دروس الدين وأيضًا لا يوجد مدرسون متخصصون في مناهج الدين المسيحي بل تدريسه يُسند إلى مدرسي المواد المتخصصة إلى جانب موادهم الأصلية لمجرد أن هويتهم مسيحية رغم أنهم ليسوا مؤهلين لذلك. وعلى الجانب الآخر، بالنسبة لمدرسي الدين الإسلامي، مَنْ يدري بتوجهاتهم وأفكارهم وانتمائهم الأيدولوجية؟ وأيضًا اختلاف المحتوى في الورقة الامتحانية أو سهولة بعض الأسئلة مقارنةً بالبعض الآخر، سيؤدي إلى إهدار فرص بعض الطلاب لعدم تكافؤ الفرص لأنه كان يجب أن يكون محتوى الامتحان موحدًا تمامًا بين جميع الطلاب كما يحدث في باقي المواد الدراسية، بالإضافة إلى التفرقة بين الطلاب على أساس الهوية الدينية وفي ذلك مخالفة للدستور، فالمدرسة مكان للعلم وليست مكانًا للتنافس في مادة الدين. ما رأي سيادتكم لو طالبنا بإلغاء تدريس الدين في المدارس، فالدين مكانه في دور العبادة ومتروك للأسر بالمنازل، فلماذا لا نستبدله بوضع مادة مشتركة لجميع الطلاب وليكن مسماها “مادة الأخلاق والقيم الإنسانية المشتركة” كالمحبة والتسامح والسلام والتعايش المشترك. يا سادة الوزير، إن إلباس التعليم ثوب الدين لن يجعل الطلاب أكثر إيمانًا بل قد يجعلهم أكثر تطرفًا لأنكم قمتم بتديين التعليم للاقتراب من الدولة الدينية والابتعاد عن الدولة المدنية، فالقائمون على تدريس الدين في الفصول الدراسية هم مَنْ يمتلك الخطاب والتفسير لأن التعليم هو الأب الشرعي للخطاب الديني. لذا دعونا نرسلها صرخة مدوية: لا لإضافة مادة الدين للمجموع وجعلها من 100 درجة، لا لتديين التعليم، لا للتمييز الديني، لا لتدريس الدين في المدارس وليُستبدل بمادة للقيم المشتركة.

* ولم نستفيق من صاعقتي المطالبة بعودة الكتاتب وتديين التعليم حتى فوجئنا بصاعقة ثالثة هي مقترح آخر أو دعوة جديدة صادرة عن جامعة الأزهر تطالب بتعريب الطب، حين أعلن في 18 ديسمبر 2024 د. داود سلامة رئيس جامعة الأزهر بأن مجلس الجامعة اتخذ خطوة تاريخية بتشكيل لجنة لدراسة تعريب علوم الطب والصيدلة، ثم أصدر في 11 يناير 2025 قرارًا بتشكيل لجنة من الطب النفسي بطب الأزهر لتعريب الطب النفسي وفقًا لصحيفة “الأهرام”. ولا نعلم هل كان ذلك لجس نبض المجتمع أم ماذا يدور في الأذهان والأروقة. فمن حين لآخر، يظهر مثل هذا القرار من عباءة المحافظة على الهوية اللغوية ولترسيخ اللغة العربية. يا سادة، علوم الطب قد تمت ترجمتها إلى اللغة اللاتينية والتي أصبحت حتى الآن هي لغة الطب السائدة في كل العالم مع تعدد فروعه.

 كذلك فإن دراسة الطب لها خصوصية في طبيعتها لأنها تعتمد على التواصل المستمر مع كل مدارس الطب ومعاهد البحوث الطبية في العالم لتبادل الخبرات من خلال المؤتمرات الطبية والدوريات المنشورة والتعاون العلمي بين جامعات العالم والبعثات الطبية. فكليات الطب المصرية معتمدة في التصنيفات العالمية من أفضل الجامعات في العالم، كما أنه قد تم إدراج النظام التعليمي العالمي ضمن اتفاقية اليونسكو، فالتعريب قد يجعلنا خارج سياق الزمن لأن الطب لغة عالمية واللغة العالمية هي التي يتحدثها العلماء. إن خطورة الأمر يا سادة هي أن خطوة كهذه لو نُفذت في جامعة الأزهر فقد تتبعها سائر الجامعات المصرية وبالتالي ستخرج شهادة الطب الممنوحة من الجامعات المصرية من اعتماد الجامعات العالمية. هذا بالإضافة إلى صعوبة حضور المؤتمرات الطبية والعلمية والبحثية والدوريات المنشورة، وأيضًا لن يمكننا الحصول على الزمالة أو درجات الماجستير والدكتوراه.

** لا أعرف لمصلحة مَنْ ما يحدث، فكلما تقدمنا خطوة نحو الدولة المدنية المنشودة نجد مَنْ يريد أن يجذبنا للخلف خطوات للرجوع للدولة الدينية. وماذا بعد هذا التذبذب؟ وإلى أين المسير؟

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا