كنيسة واحدة طول المدى…!!

2

بقلم الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر
نائب رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر

التقطت عدسة الوحي المقدس صورة بديعة الجمال للرب يسوع، جاثيًا في خشوع نفس، وذوب قلب، يرفع صلاته لأجل تلاميذه قائلًا: “احفظهم في اسمك الذين اعطيتني، ليكونوا واحدًا كما نحن” (يو17: 11). ثم تطلّع إلى مستقبل الكنيسة فرآها كارزة وشاهدة، عن فدائه العظيم، وخلاصه الثمين للعالم كله على مر الأجيال وعبر العصور. ورأى النفوس الكثيرة التي تختبر الحياة الجديدة، وتنضم إلى الكنيسة، وفي الوقت نفسه كان يرى التحديات والتهديدات الخارجية التي تقف بالمرصاد أمام الكنيسة، وضد الرسالة التي تؤديها، هذا بالإضافة إلى الانقسامات والخصومات التي تهدد الكيان من الداخل، لذلك نجده يختتم صلاته الشفاعية بطلبته قائلًا: “ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني.” (يو17: 21). فوحدة الكنيسة هي شوق قلب الله، وهي موضوع صلاة الكنيسة، وحلم حياتها، وشغلها الشاغل، ولكي تتحقق هذه الأمنية الغالية علينا أن ندرك الأمور الآتية:
أولًا: إيماننا هو السر في وحدتنا:
يضع الرسول بولس الوحدة التي تجمع الكنيسة في سباعية رائعة الجمال، فيسطر في الرسالة إلى أهل أفسس قائلًا: “مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام. جسد واحد، وروح واحد، كما دعيتم أيضًا في رجاء دعوتكم الواحد. رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة، إله وآب واحد للكل، الذي على الكل وبالكل وفي كلكم” (أف4: 4- 6).
هذا وعلى صفحات الوحي المقدس رسمت ريشة الرسول بولس صورة دقيقة ناطقة ومعبرة عن الكنيسة، إذ قام بتصويرها بأنها “جسد المسيح” وهي صورة توضح لنا أهمية وحيوية العلاقة التي تجمع بين المسيح والكنيسة من ناحية، وقوة ومتانة الرابطة التي تجمع أعضاء الجسد الواحد معًا من ناحية أخرى فمكتوب في (رو12: 4، 5) “فإنه كما في جسدٍ واحدٍ لنا أعضاء كثيرة… هكذا نحن الكثيرين: جسد واحد في المسيح، وأعضاء بعضًا لبعضٍ”. ومكتوب في (1كو12: 27) ” وأما أنتم فجسد المسيح، وأعضاؤه أفرادًا”.
إن إيماننا بأننا أعضاء في جسد واحد (المسيح) هو الذي يوحدنا.
ثانيًا: قوتنا في وحدتنا:
تفيض ينابيع القوة في حياتنا عندما نتحد… نتحد أولًا بالله، نعم! فمكتوب في (أع1: 8) “لكنكم ستنالون قوةً متى حل الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصَى الأرضِ”.
ننال قوة بلا حدود مع الله، وكما أن إلهنا غير محدود، هكذا تمتد خدمتنا بلا حدود، وتخترق كل السدود، وتحطم كل القيود ونضع أيادينا على كل ما تدوسه بطون أقدامنا، ويتحقق فينا ما قاله الرب يسوع لبطرس في (مت16: 18) “أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها”.
لقد فسر البعض هذه الآية كبرهان ودليل على حفظ وحماية الله للكنيسة، بالطبع هذا صحيح ولا شك في ذلك، ولكنه لا يعبر عن كل الحق الذي قصده الرب، فالبعض يصور الكنيسة في موقع الدفاع عن نفسها وهي خائفة وخانعة وقابعة في انتظار من يحميها ويدافع عنها، إنما الرب لم يقصد بكلماته هذه أن الكنيسة تأخذ موقف الدفاع، وإنما تأخذ دور المهاجم، فعلى الكنيسة أن تهاجم حصون الشر وتدمر قلاع الإثم، وتدك معاقل الخطية، ووعد الرب أن أبواب الجحيم لن تقف أمامها.
بمعنى أنه لا يمكن لأية أبواب أن تقف حاجزًا أو مانعًا في وجه الكنيسة، فنعمة الله قادرة أن تصل إلى أعتى الخطاة، فكلما كثرت الخطية ازدادت النعمة جدًا.
ثالثًا: تنوعنا لا يتنافى مع وحدتنا
يقول الرسول بولس في (1كو12: 20) “فالآن أعضاء كثيرة، ولكن جسد واحد”. من هنا ندرك أن وحدتنا لا تتنافى مع تنوعنا. فالكنيسة كجسد المسيح هي (جسد واحد) هذه هي (الوحدة)، ولكن الجسد الواحد أيضًا ليس عضوًا واحدًا بل أعضاء كثيرة هذا هو (التنوع)، والتنوع في الجسد هو سر الوجود، وعلامة الثراء، ولمسة الجمال، والدليل والبرهان على صحة الجسد هو أن كل الأعضاء تعمل معًا في تآزر وتناغم وتناسق وترابط وتعاون، فكل عضو يحتاج إلى الآخر ولا يستطيع أي عضو أن يستغنى عن الآخر، فيقول الرسول بولس: “لا تقدر العين أن تقول لليد:”لا حاجة لي إليك!”. أو الرأس أيضًا للرجلين: “لا حاجة لي إليكما!” (1كو12: 21).
هذا التنوع في وحدة الجسد أمر طبيعي فالحقيقة التي لا شك فيها أنه طالما كنا على قيد الحياة، ومادمنا نفكر فقد نتفق وقد نختلف، فالتنوع علامة صحة وليس دليل مرض، كما أن التنوع ثراء، فاللحن الواحد لا يصنع سيمفونية جميلة، واللون الواحد لا يرسم لوحة فنية بديعة الجمال، والوردة الواحدة لا تشكل بستانًا، فلقد أثبت التاريخ أن الحضارة الإنسانية ازدهرت بالتنوع والتعدد.
نعم! نحتاج أن نتعلم أن الاختلاف لا يصنع خلافًا ونزاعًا وانشقاقًا، وإنما الاختلاف بركة وثراء وجمال، المهم نعرف كيف نختلف ونأتلف، فالشخصية المتزنة المرنة الناضجة هي التي شعارها قاله أحد الحكماء “رأيي صواب، ولكنه يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب… نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر أحدنا الآخر فيما اختلفنا فيه.
والإنسان الناضج المحب يقبل الآخر كما هو، يتحاور معه، ويختلف معه بحب حقيقي واحترام متبادل، فيثري كل منهما الآخر بفكره وخبراته.
رابعًا: خدمتنا تنجح بوحدتنا
لست أدري هل كان بولس يذرف الدموع وهو يسطّر رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس ويعاتبهم ويناشدهم قائلًا: “ولكنني أطلب إليكم أيها الإخوة، باسمِ ربنا يسوع المسيح، أن تقولوا جميعكم قولًا واحدًا، ولا يكون بينَكم انشقاقات، بل كونوا كاملين في فكرٍ واحدٍ ورأي واحد، لأني أخبرت عنكم يا إخوتي… أن بينكم خصومات. فأنا أعني هذا: أن كل واحدٍ منكم يقول: “أنا لبولس”، و”أنا لأبلوس”، و”أنا لصفا”، و”أنا للمسيح”.
أعتقد هذا بلا أدني شك… فلا شيء يدمر الكنيسة أكثر من الخصام والانقسام، ولا يمكن أن تقوم الكنيسة بدورها ورسالتها إلا إذا كانت تتمتع بالمحبة والسلام.
هناك تقليد يهودي قديم عن الموقع الذي تم فيه بناء هيكل سليمان، بأنه المكان الذي التقى فيه أخوان، أحب كل منهما الآخر من كل قلبه. كان الأخ الأكبر متزوجًا ولديه العديد من الأبناء، أما الأصغر فلم يكن متزوجًا، وبعد حصاد القمح قال الأخ الكبير في نفسه “لقد حصدنا القمح وأخذت نصف المحصول، وأخي أخذ النصف الآخر، لكن أخي يستعد للزواج ويحتاج إلى الكثير من المال ليغطي نفقات زواجه… سوف أعطيه كيس قمح من نصيبي مساهمة مني في زواجه. في الوقت نفسه كان الأخ الأصغر يفكر في أخيه الأكبر واحتياجات أسرته الكبيرة، ففكر أن يضيف كيس قمح من نصيبه إلى نصيب أخيه، أرادا كلاهما أن يفعلا هذا الأمر في الخفاء وبالفعل قام كل واحد منهما بتنفيذ فكرته في الليل، ولما أشرق الصباح قام كل منهما بإحصاء أكياس القمح التي لديه فوجدها كما هي لم تنقص، ولم يعرف أي منهما السر وراء ذلك، فكررا ما فعلاه أكثر من مرة، أكثر من ليلة، وفي ليلة تقابل الأخوان معًا على الطريق وكل منهما يحمل كيس قمح ليعطيه لأخيه، وعندما اكتشفا الحقيقة للوقت احتضن أحدهما الآخر بعناق حميم، مفعم بالحب الصادق، ومبلل بالدموع الحلوة، ومكلل بالمشاعر الرقيقة، والعواطف الجياشة في ذلك المكان، مكان لقاء المحبة والوحدة يقول التقليد أن هيكل سليمان قد أُقيم.
نعم! عندما نحب نتحد، وعندما نتحد يمكننا أن نبني معًا في ملكوت الله، فالمحبة تبني وتعمر، أما الكراهية فتحطم وتدمر.
خامسًا: محبتنا هي الضمان لوحدتنا
كيف يمكن أن نتحد دون أن نمتلئ من محبة المسيح، ودون أن نحب بعضنا البعض، قال الرب يسوع في حديثه مع تلاميذه “وصيةً جديدةً أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضًا. كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي: إن كان لكم حب بعضًا لبعض”. (يوحنا13: 34، 35).
في يوم من الأيام قال الرب يسوع “الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون” (مت9: 37). واليوم هل يقول: الحصاد كثير والفعلة منقسمون ومتخاصمون، وهذا ليس بجديد، كيف لا؟! وقد سطّر الوحي المقدس بنغمة أسيفة وحزينة في (لو22: 24) “وكانت بينهم أيضًا مشاجرة من منهم يظن أنه يكون أكبر”.
وأسفاه فهل يمكن أن تحدث مشاجرة بين تلاميذ المسيح؟!
ياه! لقد كان الصراع بينهم على الزعامة والمكانة، ونسوا تعاليم سيدهم الذي قال: “فلا يكون هكذا فيكم. بل من أراد أن يصير فيكم عظيمًا، يكون لكم خادمًا، ومن أراد أن يصير فيكم أولًا، يكون للجميع عبدًا” (مر10: 43، 44). ولم يدركوا أن نفوذ الحب أعظم من حب النفوذ.
نعم! جميلة هي المحبة فهي الضمان لوحدتنا، لأن المحبة كما يكتب عنها الرسول بولس في نشيده الخالد في (1كو13: 4- 8) “المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تقبح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء. المحبة لا تسقط أبدًا”. لذلك اجعلوها شعاركم ورنموها نشيدكم، واملأوا منها حياتكم.
عبرة فى عبارة
الكنيسة هي جماعة منتقاة من العالم
وهي جماعة تعيش مختلفة عن العالم
وهي جماعة مُرسلة إلى العالم.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا