العدد 156 الصادر في سبتمبر 2018 قصة قصيرة حديث مع الحمار المدهون
طالعتنا وسائل الإعلام والاتصال الإلكتروني، وخاصة الفيس بوك، والمجلات والمحطات التليفزيونية المحلية والعالمية بخبر مدهش ومثير، ذكرت فيه جميعها أن زائرًا للحديقة الدولية كتب يقول: “الحديقة الدولية داهنها حمار عادي بخطوط سودا عشان يبقى حمار وحشي والصبغة ساحت على وشه.. أنتوا مدركين وصلنا لفين؟!”.
وما أن وضع هذا الشخص البوست على الفيس بوك إلا وانتشر انتشار النار في الهشيم وقامت “اليوم السابع” بالتوجه الى المحافظة للوقوف على حقيقة الأمر، وتفاعل رجال المحافظة مع قصة الحمار المدهون، وأدلى كل بمعلوماته وتأكيداته وتكذيبه للخبر، واهتمامه واهتمام الهيئة المشرفة على حدائق الحيوان في مصر براحة وصحة وتغذية الحيوانات جميعًا بما فيها الحمار الوحشي المخطط، والغريب أن أغلب المنفعلين والمتحمسين والمتضامنين مع الحمار الوحشي والذين أدلوا بآرائهم وتعليقاتهم السريعة والقاطعة في قصة هذا الحمار وخاصة من رجال محافظة القاهرة لا يكترثون في معظم الأوقات لما يحدث مع البشر في مصر بصورة عامة، وخاصة مع المسيحيين منهم، ولا تسمع لهم صوت عند طلب المسيحيين موافقتهم بإقامة كنيسة أو اعتماد كنيسة قائمة منذ سنين أو التدخل بسبب هدم واجهة كنيسة في العمرانية أو الجيزة أو القاهرة، أو لمنع المصلين المسيحيين من الصلاة في أمكان اعتادوا الصلاة بها لمدة سنين، أو تلطيخ وجه شاب بالدماء الناتج عن ضربه لأنه أعلن صراحة عن حبه لفتاة مسلمة، أو أمًا عجوز يتم تعريتها في أحد شوارع الصعيد، أو سرقة أوراق طالبة متفوقه وحصولها على درجة صفر في امتحان الثانوية العامة، أو معركة تخضب يد الصغار ووجوههم بدمائهم البريئة بسبب تفجير المجرمين لكنيسة في القاهرة أو الجيزة وغيرها وغيرها الكثير. ليس ذلك فقط بل تدخلت محطات التليفزيون العالمية كمحطة “سي أن أن” ومحطة ال “ك ٥” الأمريكية لتنشر خبر “الحمار المصري المدهون” ساخرة من مصر ومن فيها.
وبينما كنت أسمع وأشاهد مندهشًا ومتأملاً لهذه المهزلة الحمورية الوحشية، طفى على ذهني سؤال جرئ، لماذا كل هذه الضجة الكبيرة وتضييع وقت الشخصيات العامة المسؤلة في المحافظة وحديقة الحيوان، والتى من المفترض أنها تصرف وقتها فيما يفيد حيواناتها، لماذا تضيع وقتها في مقابلات إعلامية مع رجال الصحافة والإعلام لتأكيد أن المذكور حمارًا وحشيًا وليس حمارًا مصريًا عاديًا خططه المسؤلون عن الحديقة حتى لأغراض نبيلة، وبالتالي لماذا أصرف أنا وقتى في كتابة مقال مطول عن حمار، بلديًا كان أم وحشيًا؟، ولماذا لا تختصر الصحافة الطريق وتوفر الجهد والمال والوقت وتذهب مباشرة إلى الحمار وتسأله عن نفسه أي حمار هو، لنقف على حقيقة الأمر، ولنفض الموضوع ويذهب كل إلى عمله وحال سبيله؟
عند وصولي في التفكير إلى هذه النقطة ابتسمت وقلت لنفسي، الإجابة هي لسببين، أولهما: لأننا تعودنا في الشرق الأوسط أن لا نسأل الشخص نفسه، إنسانًا كان أم حيوانًا، عن شخصيته وعلمه ومكانته وحياته، بل تعودنا أن لف وندور ونتلصص ونتحين الفرص لنختطف المعلومات التى نحتاجها من غير أصحابها، وتعودنا أننا نفتي في كل شئ، فعلى سبيل المثال لا الحصر، رجال الدين على اختلاف أديانهم يفتون في الطب والهندسة والعلوم والفنون وقيام الناس وقعودهم دون علم أو خبرة أو ثقافة تؤهل أكثرهم لذلك، والأطباء يفتون في تحويل فيرس سي إلى “صوابع كفتة” داخل الجسم، فيشفى الإنسان تمامًا على حد تشبيه أحد لواءاتنا الأطباء، ومن لا خبرة له يفتي في أن القرنية في العين ليست جزءًا من الجسم، وغيرها الكثير.
أما السبب الثاني الذي لا يسمح لنا أن نسأل صاحب هذه القضية مباشرة هو أن صاحب هذه القضية “حمار”، والحمير بلدية كانت أم وحشية لا يمكن إجراء حديث معها، أو سؤالها أي سؤال ويتوقع السائل منها إجابة شافية واضحة، والحمير لا يفهمون لغة البشر والبشر لا يفهمون لغتهم. راجعت نفسي وفكرت في اقتراحي، وقلت لها أعرف هذا جيدًا وهو صحيح في معظمه إلا أن ما يعرفه الحمير من لغة البشر لكافٍ لمعرفة حقيقة الحمار إن كان بلديًا أم وحشيًا، ألا يتكلم البشر إلى الحمير قائلين: “شي” فيمشون، أو “يس” فيقفون، ألا يرجع الحمار من الحقل وأرض أصحابه إلى بيتهم، وإلى مكان معلفه، بمفرده دون أن يقوده أحد؟ ألم يشهد كتاب الكتب، الكتاب المقدس، عن الحمار بالقول: “الثور يعرف قانيه والحمار (يعرف) معلف صاحبه. أما إسرائيل فلا يعرف. شعبي لا يفهم”؟ وبهذا قد وضع سبحانه الحمير فوق بعض البشر من شعبه المختار، في المعرفة والفهم وتقدير من يحسن إليهم ومن هو خالقهم.
قلت لنفسي ناجي، كل ما ذكرته سابقًا جيدًا وحقيقيًا، لكن كيف يستطيع حمار أن يدافع عن نفسه، أو يثبت هويته أو يكسب قضية في محكمة؟ أكدت لنفسي بالرغم من أن هذا صعب على الإنسان أن يفهمه أو يتخيله إلا أن هذا عين ما حدث فعليًا يومًا ما، تذكرت القصة الواقعية الحقيقة للحمار “سعيد” التى رواها لي أحد الزملاء القسوس، قال لي زميلي القسيس العزيز: “إن أحد أقربائه كان فلاحًا في إحدى القرى، وكان يملك حمارًا اسمه (سعيد)، كان كلما نادى صاحبنا على الحمار ليقف أو يمشي أو يأكل أو يمارس عملاً ما ينادي عليه باسم (سعيد)، تعود الحمار على سماع هذه الكلمة، كلمة (سعيد)، وعرف أن عليه أن يعمل شيئًا كلما سمع صاحبه يناديه بها، يومًا ما فقد صاحبنا الحمار، بحث عنه في كل مكان ولم يستطع أن يجده بأي شكل من الأشكال أو مكان من الأماكن، حتى فقد الأمل في استرداده والحصول عليه فأسلم أمره لله، وقرر أن يشتري حمارًا آخر حتى يحل محل (سعيد) في العمل، ذهب صاحبنا إلى سوق الحيوانات في قريته ليشتري حمارًا، عند دخوله إلى موضع بيع الحمير، لاحظ أن هناك حمارًا بين الحمير بدأ يزعق بصوته ويضرب في الأرض ويهز في ذيله تمامًا كما كان يفعل (سعيد) عند رؤيته، نظر صاحبنا إلى الحمار وقال في نفسه: هل يمكن أن يكون هذا حماري (سعيد)؟! أجاب: ممكن، لكن لون (سعيد) حماري كان رمادي، أما هذا الحمار فأسود اللون، قرر صاحبنا أن يجري اختبار مع الحمار ليعرف إن كان هو (سعيد) حماره أم لا؟، رجع عدة خطوات للخلف حتى غاب بعيدًا عن عيني الحمار، ثم نادي بصوت عال: “سعيد تعال” خرج الحمار الأسود مسرعًا من بين الحمير وجرى نحوه وأخذ يعمل نفس الحركات والأصوات التى تعود صاحبنا عليها من حماره، تأكد صاحبنا أنه (سعيد) حماره لا محالة، فدخل في معركة كلامية، ثم اشتباك بالأيدي مع بائع الحمار بعد أن اكتشف أن هذا هو حماره (سعيد) الرمادي وقد تمت سرقته ودهنه باللون الأسود لإخفاء معالمه وشخصيته، انتهى الأمر بين الرجلين المتصارعين على ملكية الحمار في قسم البوليس، وهناك أخذ الحمار إلى أسطبل الخيل في قسم البوليس، وأمام مأمور القسم وقف صاحبنا يقول: “هذا حماري وقد سرقه هذا الرجل اللص”، والسارق ينفي هذه التهمة عنه، ويسأل صاحبنا عن لون حماره هل كان أسود أم أبيض أم رماديًا ويؤكد أنه لم يسرق الحمار، بل هذا حماره هو، وصاحبنا يجيب بإصرار: “هذا حماري أنا، كان رمادي اللون وأنت لونته باللون الأسود”، فيحلف الرجل البائع، “تلاتة بالله العظيم، أن هذا حماري أنا، وهذا لون الحمار الطبيعي الأصلي، وأنا لم أغير لونه!”، احتار مأمور القسم في كيف يحل هذه المشكلة، كيف يثبت أن هذا لون الحمار الطبيعي ولم يلونه من ادعى أنه صاحبه.
قبل أن يستخدم سيادة المأمور مع الرجلين الطرق البوليسية المعروفة والشهيرة في إجبار الناس على الاعتراف سواء بالحقيقة أو بغيرها، قال صاحبنا للضابط: “سيادة المأمور، أنا سأحل لك المشكلة بطريقة سهلة بسيطة ومؤكدة، لقد تعودت أن أنادي على حماري هذا باسم (سعيد)، فاسمح لي يا سيادة المأمور أن أخرج خارج مكتبك وأنادي على الحمار بهذا الاسم، إن جاء إلينا إلى هنا يكون حماري وإن لم يأت فأعط الحمار لهذا الرجل”. تعجب المأمور من الأمر! فكيف يأتي الحمار عندما يسمع اسمه (سعيد)، لكنه سمح لصاحبنا أن ينادي على حماره، وقفوا جميعًا بعيدًا خارج الأسطبل ونادى صاحبنا بأعلى صوته قائلاً: “سعيد تعال” وإذ بالحمار يندفع مسرعًا إليهم، فرحًا منهقًا هازًا لذيله، وأنهى الحمار المشكلة وكسب صاحبه الحقيقي القضية ليس الحرامي الكذاب الغشاش من لونه وأراد إخفاء هويته وادعى أنه حمار
ضحكت بيني وبين نفسي وأنا أتذكر هذه الحادثة التى حدثت بالفعل!
وقلت لنفسي: هذا صحيح! يا ليتني كنت أفهم لغة الحمير حتى أذهب إلى الحمار المدهون وأعتذر له عن تداول أخباره على صفحات التواصل الاجتماعي دون علمه ودون أن نسأله أو نكترث بخصوصياته أو الحصول على موافقته قبل نشرها، ولأؤكد له أنني متعاطف معه تمامًا وأرفض رفضًا باتًا إهانته بأية طريقة من الطرق وأقدر حق التقدير مشاعره الجريحة للحديث عنه في كل مكان، وأؤكد له أن آيات كتابنا المقدس المنزلة من عند الله تعالى لا تتفق مع ما حدث له إطلاقًا، بل تراعي نفسية البهائم كما يهمها نفسية البشر والدليل على ذلك ما ورد في الآية الكريمة (أمثال١٢:١٠) “الصديق يراعي نفس بهيمته. أما مراحم الأشرار فقاسية”. وفي الوقت نفسه أسأله عن شخصه من هو، هل هو حمار بلدي أم وحشي؟ كما أسمته حديقة الحيوان في تأكيدها أنه حمار وحشي غير مدهون، وأسأله عن خبر دهنه المنتشر على وسائل الإعلام المحلية والعالمية، هل حقًا تم دهنه أم لا؟، وإن كانوا دهنوه فمن قام بهذه الجريمة الشنعاء، ليس في حق الحمير فحسب، بل في حق المصريين جميعًا، وكيف شعر وهو يؤخذ من حظيرته وحياته وبيته وبيئته وأمه وأبيه وإخوته الحمير العاديين لدهنه ومسخ شخصيته، وكيف أجبر على الصمت وإخفاء شخصيته وغيرها الكثير من الأسئلة المهمة التى لابد أن يجيب عليها بنفسه، حتى نقفل هذا الملف بعد الـ “حديث مع الحمار المدهون”.
تركت لنفسي العنان في التفكير في هذا اللقاء، فوجدتني أذهب إلى حديقة الحيوان وأقف بين الواقفين أمام الحمار المدهون، والمحبوس وراء القضبان في قفصه الحديدي لخطورته، عشرات الناس تقف أمامه موجهين الإصبع إليه، بلا شفقة أو تفكير، وكأنه متهم خطير في قضية غش وتزوير دولية كبرى لشخصيته وانتحال صفة الغير، ومتهم بكذبه وخداعه لزائري حديقة الحيوان ومحكوم بإدانته، وينتظر حكم تبرءته من تهمة تغيير هويته وقبول عملية دهان وتخطيط غير شرعي لنفسه ليتحول من حمار بلدي إلى حمار وحشي، وينتظر قاضيًا عادلاً يعرف طبيعته، قاض لا يتأثر بكلام الكبار أو الظروف المحيطة بقضيته أو حتى بتناول وسائل الإعلام القضية والفصل فيها قبل حكم القاضي، كما يحدث في الغالبية العظمى من القضايا على اختلافها، قاض يحكم بما أنزل الله في خلائقه من تبرئه البرئ واستذناب المذنب والحكم بعقابه، وينشر على الملأ قراره الأخير.
شاهدته وهو يتمشى ببطء في المكان الموضوع فيه، والذي يبدو بالنسبة له زنزانة يصبو إلى الفرار منها، الناس بعضهم يضحك وبعضهم يضرب الكف على كفه هو، أو على كف من بجانبه، وكعادتنا نحن المصريين في إطلاق النكات على أية حادثة، حتى لو كانت محزنة ومؤسفة كهذه الحادثة، كان بعضهم يطلق النكات على هذا الحمار، وبعضهم على الحمير جميعهم، وبعضهم يكني في نكاته على الحمير، عن شخصيات عامة وهامة معروفة لنا وللجميع في حديثه عن هذا الحمار دون النطق بأسمائها خوفًا من عقاب أصحابها. كانت ملامح وجهي حزينة غاضبة على ما وصل إليه الغالبية العظمى من شعبنا من تبلد بل وتحجر في المشاعر والعواطف، وتفاهة وضحالة في التفكير والاهتمامات، وفراغ نفسي وعقلي وزمني، حتى إن هذا الجمع الغفير جاء معظمه ليلقي نظرة على حمار، حتى لو كان وحشيًا أو بلديًا، لمجرد أنه أصبح مشهورًا ومعروفًا بعد أن تناقلت الميديا العالمية قصته.
عندما اقتربت منه حذرًا، فلم أكن أريد أن أزيد على ألمه ألمًا، رفع رأسه وبعيون دامعة نظر لي وكأنه يعاتبني ويستشهدني على ما وصل إليه بنو جنسي من البشر، لكنه من الجانب الآخر أبدى استعدادًا كبيرًا لإجراء حديثًا صحفي معي حتى قبل أن أطلب منه ذلك، قال لي: “أعلم أنك تهتم بمثل هذه القضايا ولك منظور مختلف لها عن الغالبية العظمى من البشر المجتمعين في هذا المكان والمتداولين لقصتي المحزنة، فقد سمعنا عنك نحن معشر الحيوان من عدة سنين عندما أجريت حديثًا مع خنزيرة حي الزبالين، يوم أن قتلت الحكومة المصرية كل خنازير المسيحيين بحجة منع انتشار إنفلونزا الخنازير، وبالأمارة كان عنوان حديثك الصحفي يومها هو “حديث مع خنزير هارب”، لذا فمن اللحظة الأولى التى رأيتك فيها بين الجموع، علمت لماذا أنت هنا وأريد أن أقول لك إنني أرغب في إجراء حديث معك لجريدتك “الطريق والحق”.
قلت: أشكرك سهلت على المهمة، فلهذا بعينه جئت اليوم لمقابلتك.
قلت في البداية أود أن أشكركم على خدماتكم أنتم معشر الحمير للجنس البشري، وعملكم الدائم في صمت، ومساعدتكم لنا وخاصة في طول أرض مصر وعرضها من أسوان إلى الإسكندرية، أجابني الحمار: “العفو، لا شكر على واجب وخصوصًا إننا كحيوانات خادمة لكم نعلم أن الغالبية العظمى منكم أنتم جنس البشر لا تشكرون أحدًا، حتى من البشر أمثالكم، إلا لمصلحتكم أو عند احتياجكم لشئ منه، أو إذا قدم لكم خدمة كبيرة. ابتسمت وقلت، هذا صحيح، للأسف في معظم الأحيان ومع الغالبية العظمى من البشر، لكن بالنسبة لي ليس لدي أي مصلحة معك، ولست بطالب شئ منك، ولن ينفعني في قليل أو كثير نشر حديثك في جريدتي، بل على العكس ربما سيكون هذا الحديث الصحفي سبب سخرية أعدائي مني واتهامي أنني أحدكم، وصدق أو لا تصدق، فأنا أعيش في بلاد يدرب فيها الآباء والأمهات، وبإصرار، أولادهم على أن يقولوا شكرًا لكل من يؤدي لهم خدمة كبيرة أو صغيرة، ومن هذا المنطلق فقد جئت لأشكرك أنت بالذات. ابتسم وقال: “أعلم هذا، ولكن لماذا أنا بالذات؟”، قلت لأسباب كثيرة، لأنك تقف هنا لساعات طويلة محتملاً غباوة الكثيرين، من شعبنا، الواضحة في نظراتهم الفضولية أو تعليقاتهم الغبية أو حتى إشاراتهم بأيديهم عليك، تقف لا لشئ إلا لكي يتفرج الناس عليك ويستمتعون برؤيتك.
قال: والحمد لله أنهم يظنون أنني حمار وحشي فيخافون ولا يحاولون الاقتراب مني أو ركوبي أو حتى لمسي كما يفعلون مع أخي المسكين الواضح أنه حمار بلدي، قلت عظيم، هل يعنى هذا أنك لست حمارًا بلديًا؟، أفأنت إذًا حمار وحشي؟. نظر إلي الحمار طويلاً وقال: “ليس هذا هو بيت القصيد أن أكون نوعًا خاصًا من الحمير، بلدي أو وحشي، أو حتى إنساني ففي النهاية يا صديقي كلنا حمير بشكل أو بآخر. أجبته لا، مع احترامي الكامل لك كحمار، إلا أنني أختلف معك في هذه الجزئية المهمة، فلقد خلقنا الله من نسل آدم وحواء لا من نسل زييبرا أو حصاوي، أجابني الحمار ضاحكًا وقال، كنت متأكدًا أنك ستقول لي هذه الحجة الواهية، فأنتم يا بني البشر من الأنانية بحيث أنكم تتصرفون وكأنكم الخلائق الوحيدة التى خلقها الله على هذه الأرض ولا تعيرون أية خلائق أخرى انتباه ولا ترون دورها في الحياة إلا من خلال نظارة احتياجكم لها، فإذا ما قضيتم منها أو معها حاجتكم تركتموها تعاني الوحدة والألم والعذاب، فتضربونها بالنار أو تقضون عليها، سألته: هل من دليل على ما تقول؟، فكم منا نحن البشر من أحبكم أيها الحيوانات ودفع في سبيل شرائكم المال الكثير إن كنتم كلابًا أو قططًا أو حميرًا أو عصافير، هل تعرف كم من المال يدفع صاحب ومربي الحيوان في أكله ونظافته وقص شعره؟، قال الحمار المدهون أعلم لكن هل يدفع الإنسان كل هذه الأموال رفقة بالحيوان وإكرامًا له ومحاولة لإسعاده أم يدفعها لرغبة في نفسه، وإرضاءً لأنانيته وإشباعًا لرغباته من تسلية وضحك وتضييع للوقت أو يدفع هذه الأموال لمرضه بحب الظهور أمام أصحابه وكأنه من أولاد الأكابر، لأنه يملك كلبًا يمشي به في الطريق العام وكأنه يدعو الناس جميعًا لإبداء إعجابهم به؟! والحمد لله، الذي لا يحمد على مكروه سواه، أننا معشر الحمير من ضخامة الجسم، وقبح الوجوه، وأنكر الأصوات على الأقل في عرفكم أنتم البشر، كما تصفوننا، بما يضمن لنا أن البشر لن يربطونا بحبل ليتباهوا بنا في الشوارع أمام الناس.
قلت: وبالرغم من كل ما قلته من تصرفات خاطئة من البشر نحوكم أنتم البهائم، إلا أن هذا لا ينفي أن الله سبحانه خلقنا كبشر وخلقكم كحمير، فنحن مختلفون تمامًا، ثم أكملت وقلت له، لامؤاخذة هناك فرق بين الحمار والإنسان، فالحمار حمار والإنسان إنسان، قال الحمار، هل تعلم ماذا يحدد من هو الحمار ومن هو الإنسان؟، بالطبع بمفهومكم أنتم البشر، سألته ماذا؟ قال أنتم تعتقدون أن الإنسان يرى ويفهم أشياء أو أشخاصًا لا يمكن للحمار استيعابها، قلت نعم هذا بالتأكيد، لم يعلق الحمار على إجابتي واستمر في الكلام، قال وتعتقدون أن الإنسان يمكن أن يتكلم بلغة يفهمها الإنسان مثله ولا يفهمها الحمار، أما الحمار فلغته في التعامل مع الإنسان تقتصر على قليل من الحركات وردود الأفعال، قلت اشرح لي، قال عندما تقول لحمار: “شي” أو “يس” فأنت تعرف أنه فهمك وأطاعك عندما يمشي أو يقف، قلت هذا صحيح، قال هل تعلم أنه في كتابكم المقدس أن من الحمير من رأوا ملائكة، وسمعوا كلمات بل ونطقوا بكلمات حكمة، بل بلغات البشر عندما تصرف البشر بغباء ولم يطيعوا أوامر المولى عز وجل، ليس ذلك فقط بل منعوا حماقة النبي كما جاء في القول الكتابي: “تركوا الطريق المستقيم، فضلوا، تابعين طريق بلعام بن بصور الذي أحب أجرة الإثم. ولكنه حصل على توبيخ تعديه، إذ منع حماقة النبي حمار أعجم ناطقًا بصوت إنسان”؟!. ضحكت وقلت، أنت تتكلم عن حمار بلعام العراف الذي كان يلقبه الناس ببلعام النبي، قال تمام هذا خير مثال على ما أريد شرحه لك، ثم سألني: هل يمكن أن تقل لي من كان الأحمق حسب الآية السابقة، الحمار الذي كان يركبه بلعام أم بلعام العراف نفسه؟، قلت الحقيقة الأحمق كان النبي وليس الحمار، قال إذًا الحماقة مرض عضال لا يفرق بين إنسان وحمار ، فقد يكون حمار حكيمًا ونبي أحمق أو العكس.
قلت، لكن مهما كان الأمر فلم يخلقنا الله حميرًا، بل خلقنا بشرًا مختلفين عنكم تمامًا.
قال الحمار: وما الفائدة أن خلقكم الله سبحانه مختلفين عنا إن كنا في النهاية، أنتم ونحن نتصرف نفس التصرفات، ونساق بنفس طريقة لا تناقش ولا تجادل، ونضرب بنفس الكيفية، ونجبر على تأدية ما لانريد عمله بنفس الكيفية، ويركب الأغنياء والأقوياء وأصحاب الوظائف والمقامات الخاصة البشر الغلابة كما يركبوننا نحن، ونربط ونطعم بنفس الكيفية حتى القول أنتم بني البشر تأكلون منه أكثر مما نأكل نحن، ويتفرج الناس على كلينا؟!، الفرق الوحيد في هذا الأمر بيننا أننا نقف قسرًا وإجبارًا للناس لتتفرج علينا، ولو كان الأمر متروكًا لنا لما وقفنا ولما تركناكم تتفرجون علينا، أما أنتم يا بني آدم وحواء فتطلبون من الناس أن تراكم وتتفرج عليكم في كل ما تعملون لإشباع غروركم ورغباتكم ونرجسيتكم، وهناك من أطلقتم عليهم اسم الحمير فعاملتوهم كما تعاملون الحمير الحقيقيين، وبالرغم إنه بإمكانكم أن تتمردوا على هذا الوضع وترفضوا أن يعاملكم أحد مهما كان مكانه أو مكانته كالحمير، إلا أن بعضكم كأمثالنا تقبلون به وبالرضوخ للكبار والمسؤلين سواء أكانوا سياسيين أم أمنيين أو دينيين وخلافه وتقولون اللهم لا اعتراض ما دام الكبار يريدونه حمارًا وحشيًا بدل من حمار وطني، إذًا فلا رادًا لقضاء الحكومة، ولابد أن يعيش حمارًا وحشيًا حتى لو كان حمارًا بلديًا طبيعيًا، ولابد أن يعرضوه على الناس ليتفرجوا عليه غصبًا عنه، ولابد أن يصمت ويمثل دور الحمار الوحشي. لكن اعلم أن الحمار سيظل حمارًا حتى لو دهنوه وخططوه بأكثر أنواع الدهان ثباتًا والحمار الوحشي سيظل حمارًا وحشيًا حتى لو أزالوا عنه خطوطه بنزع الأظافر وسلخ الجلد من اللحم. فالعبرة بما خلقنا الله عليه، لا بما يريده لنا البشر أن نكون.
أكمل الحمار، أليس مكتوبًا في كتابكم سؤال استنكاري يقول فيه الوحي “هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطه؟”. قلت هذا صحيح لكن تغيير الشكل واللون والصفات الخارجية قد تخدع البشر وتغير من تعاملهم ونظرتهم واحترامهم لمن تغير لونه أو هيئته. قال هذا أيضًا صحيح إلى حين، لكن لابد للحقائق أن تكتشف ويعود الكائن الحي إلى أصله إن كان دودة أم حمارًا أم إنسانًا، فكما يقول إنجيلكم أنتم البشر. استوقفته قبل أن يكمل كلامه وسألته، لقد استخدمت حتى الآن في إجاباتك آيات كثيرة من الإنجيل، فهل تعرف أنت ما هو مدون به؟ قال: بعضه الذي يخصنا نحن الحيوانات وخاصة الحمير، وللتأكيد فإن كلمة حمار وردت في كتابكم ٥٩ مرة منها واحدة جاءت “حمار وحشي”. سألته: وما دمت خبيرًا بآيات الله التى ذكرت كلمة حمار في الكتاب المقدس فلماذا ذكر الحمار الوحشي مرة واحدة، بينما الحمار البلدي ٥٨ مرة؟، أجابني لأن كتاب الله الذي بين أيديكم يجعل الإنسان هو محور خليقته سبحانه ولا تذكر أسماء الحيوانات فيه إلا بعلاقتها بالإنسان، وحيث أن علاقة الإنسان بالحمار الوحشي تكاد تكون منعدمة لأن الحمار الوحشي معتزل بنفسه بعيدًا عن الناس، فلذلك ذكرت عبارة الحمار الوحشي مرة واحدة في قوله تعالى: “لأنهم صعدوا إلى أشور مثل حمار وحشي معتزل بنفسه”. سألته: كيف تعرف كل هذه الآيات من الكتاب المقدس وأنت أيضًا لا تعرف القراءة ولا تمتلك إنجيلاً؟،أجابني، إن وصايا الله وأحكامه وقوانينه لا تحتاج لمعرفة القراءة أو الكتابة، فهي مطبوعة على قلوب وعقول وضمائر كل خلائقه، حتى لو كانت النملة التى لا وزن لها على الأرض، قلت في نفسي ربي سبحانك، فهذا الحمار يفطن ويفهم ويتكلم أفضل من بشر كثيرين، قال، أليس مكتوب في كتابكم: “فلا تخافوهم. لأن ليس مكتوم لن يستعلن ولا خفي لن يعرف”؟ قلت نعم، قال ولذا فلست بخائف أن يعتبرني المصريون حمارًا بلديًا أو وحشيًا، فهذا كما قلت لك ليس بيت القصيد.
ثم ضحك الحمار بصوت عال وقال لي: هل سمعت ما حاول أحد أصحابنا من الحمير عمله لكي يغير من طبيعته بتغيير اسمه ويجعل الناس والحيوانات في الغابة التى يعيش فيها تحترمه أكثر وتناديه باسمه الجديد وتعتبره بصفته الجديدة؟، قلت لا، قال كان لدينا صديق “حمار” في الحديقة، ذهب لمقابلة الأسد وقال له، أيها الأسد الغضنفر ملك الغابة سيد الحيوانات جميعها والفعال لما يريد، عندي لديك طلب شخصي. قال الأسد وما هو طلبك؟، قال أنت تعرف يا ملكي أن الناس جميعًا يسخرون من الحمير ويتهموننا بالجهل والغباء وضخامة الجسم ويعاملوننا أسوأ معاملة، لذا يا سيدي ملك الحيوانات أتوسل إليك أن تغير لي اسمي وتعطني اسمًا آخر غير حمار، فكر الأسد طويلاً ثم سأل الحمار ماذا تريد أن يكون اسمك الجديد من الآن فصاعدًا؟، هل تريد أن أطلق عليك اسم فيل؟، قال الحمار لا يا سيدي لأنه حيوان ضخم، أسود، كبير الآذان، طويل الزلومة، فأرجوك أن لا تطلق علي اسم فيل، قال الملك: إذن هل تريدني أن أسميك قردًا؟، رد الحمار لا يا ملكي الأسد، فالقرد حيوان كثير الحركة، أحمر الخلفية، يضحك الجميع عليه عندما يتحرك أو يلعب أمامهم، احتار الأسد في الاسم الذي يمكن أن يطلقه على الحمار، أخيرًا سأل الأسد الحمار، فما رأيك إذًا في اسم سمكة؟، نهق الحمار وهز ذيله وقال للأسد: نعم هذا الاسم جميل، فالسمكة تعوم وتمرح في الماء ولها ألوان كثيرة، فهذا الاسم عظيم بالنسبة لي، قال الأسد، اعتبر موضوعك مجاب، سأطلب من كل حيوانات الغابة من الآن فصاعدًا أن ينادوك باسم سمكة، شكر الحمار الأسد وخرج من لدنه فرحًا ومشى يتراقص ويتمايل ويهز في ذيله من الفرح وهو يسير في الغابة، رآه القرد من بعيد فاقترب منه وسأله، لماذا كل هذا الفرح والرقص والسعادة، أجاب الحمار الأسد أسماني سمكة، ومن هنا إلى ماشاء الله لابد لكل الحيوانات أن تناديني يا سمكة، ضحك القرد من قلبه وسأل الحمار: “أنت بتعرف تعوم؟” رد الحمار لا، قال القرد تبقى: “حمار”. كنت أضحك من قلبي بصوت عال بعد أن سمعت هذه القصة وكان الحمار صامتًا، ثم نظر لي وقال: ليس المهم شكلك أو اسمك أو فصيلتك المهم من أنت داخلك وما هي صورتك الحقيقية أمام نفسك وأمام الله الذي خلقك فسواك فعملك.
سألت الحمار وقلت: هل تعلم أنك أصبحت واحدًا من أشهر الحمير في العالم لأن الإذاعات والتليفزيونات العالمية تتكلم عنك وتحاول معرفة من الذي قام بدهان جسدك لتصبح على ما أنت عليه اليوم؟، أجابني نعم أعلم، قلت وما هو رد فعلك لذلك؟ قال ماذا ينفعني أن أكون حتى أشهر حمار في العالم وأنا محبوس وراء هذا السياج لا أستطيع الخروج من مكاني؟، فلو كانت شهرتي يمكن أن تأتي لي بفيزا لأمريكا ثم بالجرين كارد الأمريكي لكنت أحببت الشهرة وقدرتها حق قدرها، قلت للحمار المدهون، هل تلاحظ أنك إلى الآن لم تقل لي إن كنت حمارًا بلديًا مدهونًا لتمثل دور الحمار الوحشي أم أنك حقًا حمار وحشي؟، تنهد الحمار ثم قال إجابة هذا السؤال صعبة جدًا على إجابته، لأن الإجابة ستسبب كثيرًا من المشاكل لي وللمسؤلين الآن بعد التعليقات الكثيرة التى كتبت عنى في الفيس بوك وذكرت في وسائل الإعلام المحلية والعالمية والتصريحات التى أدلى بها المسؤلون عن حديقة الحيوان المصرية الدولية وتدخل المسؤلين ورجال الطب البيطري ومحافظة القاهرة والجيزة في حرج كبير.
أجبت الحمار، معك حق وأتفق تمامًا معك في هذا الأمر، لكن من حق المواطن المصري العادي وخاصة الذي دفع تذكرة دخول للحديقة ليراك، من حقه أن يعرف إن كنت مدهونًا أو غير مدهون، ضحك الحمار وقال: يا صديقي كلنا مدهونون في هذه الأرض. قلت كيف نكون كلنا مدهونين يا سيد حمار؟،
أجابني في تعجب وقال، كم من جبان خائف فيكم يا بني البشر دهن نفسه بصبغة الشجاع والقوي!، وكم من جاهل أحمق من بعض الحمير دهن نفسه بصبغة الحكيم!، كم من امرأة قبيحة الوجه ذات الثمانين ربيعًا دهنت نفسها بمساحيق وأطالت رموشها وأظافرها لتبدو جميلة الأربعين عام!، كم من رئيس لمصر خطط ونفذ للقضاء على المسيحيين، كما أعلن هو صراحة، في عشر سنين ودهن نفسه بالزبيبة والمسبحة والعباءة وأطلق على نفسه الرئيس المؤمن المسلم لدولة مسلمة وارتكب ما يعف الحمير الوحشية عن ارتكابه معكم يا مسيحي مصر!، كم من قسيس وكاهن دهن منظره الخارجي باللبس الأسود أو البالطو المزركش أو الياقة البيضاء ليظهر للناس الأب التقى الورع فتم فيه ما قاله المسيح تبارك اسمه لرجال الدين في القديم إنكم تشبهون القبور المبيضة (المدهونة) ومن الداخل مملوؤن عظام أموات وكل نجاسة! ألم يحذركم السيد المسيح له المجد من الذين يدهنون أنفسهم بثياب الحملان وهم في الحقيقة ذئاب خاطفة؟، ألا يوجد الكثيرون الذين يدهنون أنفسهم بصورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها؟.
لاحظ الحمار المدهون انفعالي مع ما يقول ومحاولتي إيقافه حتى لا يجرني في دينونة الآخرين، فقال لي، سأثبت لك نظريتي، ترى هل تعلم كم هي نسبة النساء التى لا يمكن أن تخرج الى الشارع دون أن تدهن وجهها وتضعن من الألوان والخطوط والأظافر والرموش ما قد يخفي معالمها بالكامل؟، قلت أتفق معك نسبة كبيرة منهن، قال، وبقية النساء يخرجن إما محجبات أو منقبات وهو أيضًا نوع من الدهان لإخفاء المعالم أو المفاتن وخلافه، قلت وأتفق معك في ذلك أيضًا، قال، ولا يقتصر الأمر على النساء فقط، بل عند الرجال أيضًا، فكم من رجل يدهن وجهه ببقعة سوداء تعلو جبهته أو يلبس رداء أولياء الله الصالحين أو يلبس نظارة سوداء ويدهن بها عينيه حتى لا تعرف شخصيته!، وحتى في الكنيسة، دعني أسألك: كم من المترددين على الكنائس يلبسون أقنعة دينية وطائفية خاصة ويظهرون من أقدس المؤمنين وأكثرهم تدينًا وإيمانًا وهم كما وصفهم السيد المسيح قبور مبيضة من الخارج؟!. قلت أعلم أن الغالبية العظمى من البشر مدهونون بطريقة أو أخرى ويظهرون عكس حقيقتهم وعكس ما يبطنون لكن ما علاقة كل هؤلاء بإجابة سؤالي الذي سألته لك، هل أنت مدهون أم لا؟، قال حتى لو كنت مدهونًا، فلماذا تركزون وتحفرون في قصة حمار مدهون كان أم لا وتصرون على نشر خبر دهانه وهو حمار واحد فقط والأغلبية العظمى منكم يا بني آدم وحواء مدهونون كما شرحت لك؟!
عند هذا الحد من الكلام لم أعرف كيف أجيب الحمار، فالاسترسال معه في الكلام سوف يؤدي إلى كشف الكثير من البشر المدهونين المتخفين وراء دهانهم والخافين لحقيقتهم التى قد تكون أكثر وحشية من الحمار الوحشي، كان من الواضح إصراره على عدم إجابتي على سؤالي الأهم في حديثي معه، والحقيقة أنه بدأ لي أنه أحكم من كثير من بني البشر الذين تناولوا قصته سواء داخل مصر أم خارجها، لذا حاولت أن أنهي حديثي معه بصورة إيجابية فسألته: في نهاية حديثي معك “أيها الحمار”، قاصدًا أن أكف عن مخاطبتي له بصفته “الحمار المدهون” فحتى بعد حديثي المطول معه لم أستطع أن أعرف بالضبط إن كان مدهونًا أم لا وإن كان بلديًا أم لا. سألته: عزيزي الحمار هل لديك كلمة حكمة تقولها لبني البشر قبل أن أتركك في رعاية الله؟، سألني وهل سيقبل الناس أن يسمعوا كلمة حكمة من حمار؟، قلت سيسمعون، لا لأنك أحكم منهم في خلقك ولا لأنك أنت حمار وقلتها، بل لأن نبي المولى أيوب قالها يومًا حكمة في كتابنا المقدس (أي١٢:٧): “فاسأل البهائم فتعلمك وطيور السماء فتخبرك”، ابتسم الحمار وقال، إن كان الأمر كذلك، فدعني أقول لبني البشر:
١- الحمار، وحشيًا كان أم بلديًا، هو خليقة الله مثلكم يا بني آدم وحواء وقد أوصى المولى عليه في كتابه الكريم، الكتاب المقدس، واهتم براحته كما ورد بالقول: “ستة أيام تعمل عملك. وأما اليوم السابع ففيه تستريح لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفس ابن أمتك والغريب”. (خر23: 12)، وأوصى سبحانه موسى كليمه في أية دعوة جناية من جهة حمار أن يسألوا الخالق نفسه سبحانه كما جاء في قوله: “في كل دعوى جناية من جهة ثور أو حمار أو شاة أو ثوب أو مفقود ما يقال إن هذا هو تقدم إلى الله دعواهما. فالذي يحكم الله بذنبه يعوض صاحبه باثنين”.
٢- هناك من البشر من شبههم كتابكم المقدس بالحمير كتشبيه إيجابي، فليس كل ما في الحمير مذموم، كما أنه ليس كل ما في بني آدم ممدوحًا، فلا تغضبوا من وصف أحدكم بالحمار كما في قوله تعالى: “يساكر (ابن يعقوب أبي الأسباط)، حمار جسيم رابض بين الحظائر”.
٣- لقد كرم السيد المسيح الحمار من دون الحيوانات، واختار الحمار الأتان والجحش ابن الأتان اللذين اعتلاهما في دخوله الانتصاري إلى أورشليم حسب قوله تعالى: “ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان”.
٤- هناك من الحمير من هم أشرف وأكثر بصيرة وحكمة من مدعي النبوة، بل وأكثر أخلاقًا وأدبًا من الكذاب العراف الملقب بالنبي بلعام ابن بعور حسب ما جاء بالنص الكتابي الكريم “قد تركوا الطريق المستقيم، فضلوا، تابعين طريق بلعام بن بصور الذي أحب أجرة الإثم ولكنه حصل على توبيخ تعديه. إذ منع حماقة النبي حمار أعجم ناطقًا بصوت إنسان”.
٥- أقول لبني البشر وخاصة المؤمنين منهم بالمسيح ربًا ومخلصًا وسيدًا على حياتهم اسمعوا نصيحة من حمار، لا تهتموا بما حدث ويحدث مع الحمير من كل الأجناس والأنواع والألوان كما اهتم شاول بن قيس ملك إسرائيل الأول، فأنتم ملوك وكهنة لله أبيكم. فشاول كان مشغولاً بأمر الحمير التى ضلت من أبيه، وأمضى وقته وجهده لثلاثة أيام في البحث والحديث عن الحمير، واضطرب لغيابهم، وبحث عن شخص نبي يسمع من الله فيخبره أين يمكن أن يجد الحمير، في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل ككل على شفا حفرة من النار، الشعب ثائر على القيادات الإدارية والدينية المتمثلة في نبي الله صموئيل وهم يطلبون منه أن يختار لهم ملكًا غير الله، يمشي أمامهم كسائر الشعوب، وصموئيل النبي والقائد كان يرى أن الشعب في أسوأ حالاته الروحية والزمنية التى يمكن أن يصل إليها برفضهم أن يملك عليهم الله غير المنظور بعيونهم المجردة سبحانه!، وطلبهم أن يملك عليهم إنسان منظور لهم بعيونهم المجردة، يرونه بعيونهم ويلمسونه بأيديهم ويتحدثون إليه فمًا لفم وهو يسير أمامهم، وفي بحثه عن الحمير التقى بصموئيل النبي، ومسحه صموئيل ملكًا على إسرائيل وهو مازال يبحث عن الحمير، و لا يعلم أن لله خطة مختلفة في حياته وعليه أن يترك الحمير ويهتم كملك بمصلحة شعب الله.
٦- اعلموا أن كتابكم العظيم يقول: “إنسان في كرامة ولا يفهم يشبه البهائم التي تباد”، ومن يعيش لنفسه ولا يكون غنيًا لله يعيش كالحيوان، فيبتل جسده من ندى الليل ويُطرد من بين الناس، مثلما عاش نبوخذنصر لسبع سنين من حياته وعند موته يتم فيه القول الكتابي: “يدفن دفن حمار مسحوبًا ومطروحًا بعيدًا عن أبواب أورشليم”!
٧- أخيرًا أنصح المصريين جميعًا وبالأخص شعب المسيح في مصر أن لا تسرعوا لتصديق القنوات التليفزيونية دون التحقق من صحة الحادثة، فكلها مغرضة مقودة وليس الحق فيها.
شكرت الحمار المدهون وقلت له سأتابع معك الحديث في لقاء آخر بإذن الله وعندما تخبرني إن كنت حمارًا وحشيًا حقيقيًا أو أنت الحمار المدهون.