العدد 89 الصادر في فبراير 2013 في عيد ميلادها الثاني:الطفلة “ثورة”المعوقة
لست أدري لماذا تذكرت في ذكرى ميلاد الانفلات الشعبي الذي جرى في مصر في يناير 2011، والذي أسماه البعض ثورة، تذكرت برنامج الإعلامي الأمريكي جيري سبرنجر، وفكرة هذا البرنامج الجنسي المقزز، والمثير، تدور حول إيجاد مشكلة ما واستضافة أطراف المشكلة، والبحث معهم في حل لها، وعادة ما تكون المشكلة تبحث في خيانة زوجية أو علاقات عاطفية جنسية خارج نطاق الزواج، نتج عنها ميلاد مولود، ولنفترض إنها طفلة جميلة، لكن الأم لا تعرف بالضبط من هو أبوها، حيث إنها مارست الجنس مع عدد من الرجال في خلال أسابيع قليلة، ومنهم بالطبع زوجها الشرعي، فنتج عن ذلك حملها وولادتها لهذه الطفلة، والأم تريد أن تعرف من هو أبو طفلتها، حتى تدعو باسمه على طفلتها، فتعرف هويتها عندما تكبر، وحتى تعرف من هو المسئول الأول عن رعايتها والاهتمام بها، فكل الرجال الذين زنت معهم يدعون أن الطفلة طفلتهم، وهم أحق بها وبتربيتها والاعتناء بها، وخاصة إذا كانت الأم غنية وجميلة وواعدة، وكثيرًا ما أحضر الإعلامي “جيري سبرنجر” هؤلاء الرجال معًا في مواجهة مع المرأة، ومع بعضهم البعض، فنشب العراك بينهم بدءًا باستخدام الألفاظ النابية، وانتهاءً بالاشتباك بالأيدي والأرجل والأحذية وغيرها، وكثيرًا ما تمزقت ملابس الأم وظهر منها ما لا بد أن لا يظهر إلا في غرف النوم، فيثير هذا المشاهدون فتلتهب أيديهم من التصفيق لرؤية كل ما هو قبيح من أجساد العرايا والعاهرات، والكل يدعي أنه أبو الطفلة الجميلة والأحق بها، ويؤكد ذلك بأنه الوحيد الذي كان يدلل أمها في كل أحوالها، ويدافع عنها ويسهر على راحتها ويعتني بأولادها، حتى وهي متزوجة ببعلها المخلوع من حياتها، وهو الوحيد الذي تحمل حتى السجن لأجلها، والمتواجد الدائم في الأحداث الأليمة التي مرت بها مع زوجها، الذي أساء معاملتها، وتفنن هو وبطانته في إيذائها، ونهب خيراتها وثرواتها، وضرب وعذب أولادها، وأهانهم وأجبر الكثير منهم على ترك منازلهم وقراهم وأقرانهم، واللجوء إلى أماكن أخرى غير بيوتهم التي ولدوا وتربوا فيها، وكأنه لا علاقة لهم بها وبه، فاضطرت المرأة إلى خيانته وذهبت واضطجعت مع العديد من الرجال المتربصين بها والحالمين بحكمها والمغرمين بالتهام خيراتها، واضطرت أن تثور ضده، وفي وجهه، وتجبره على التخلي عن مكانه كرب للأسرة، فخلعته من حياتها فسلم قيادتها والاعتناء بها لعدة رجال لا خبرة لهم في إدارة شئون الأسرة والبلاد والعباد، ولا يعرفون سوى العنف والأمر والنهي، ليرعوها ويدبروا شئونها، عسكر وما أدراك ما العسكر، وكانت تظن المسكينة أن مشاكلها قاربت على الانتهاء، لكنها اكتشفت أنها تركت حكم وكبرياء وغطرسة زوج واحد لتجد نفسها في أذرع عشرات من الرجال، كل يدعي أنه أحق بها، وأنه الوحيد الذي كان يخاف عليها ويحلم بإسعادها ورفاهيتها وخيرها، لكنه لم يتمكن من تحقيق هذا كله لها بسبب شر زوجها، لست أدري لماذا تذكرت هذا البرنامج المثير “لجيري اسبرنجر” وأنا أفكر في الطفلة “ثورة” في عيد ميلادها الثاني، وأمها مصر، من كانت يوماً أجمل نساء العالمين قبل أن يشوه منظرها المغيبون الفاسدون المتملقون المتخلفون ويطلبون منها أن تختفي وراء حجاب من التدين والعنف والإرهاب والرجعية، والكل يعاهدها أن يرعاها ويصونها ويربي أولادها في شرع الله ومناهيه وأوامره، والكل يعتقدون أنهم منقذوها من زناها وضلالها وفسادها. والكل يتصارع على إيواء الطفلة والاعتناء بها، ولم ينتبه أحد أن هذا المولود الجميل، الطفلة “ثورة” ذات السنتين مولودة معوقة، لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم ولا تمشي، لا تعرف من هو أبوها وسط المدعين بأبوتهم لها، ولا مَنْ مِن عشاق أمها يحبها هي لوجه الله تعالى دون أغراض أو أسباب، ومن هو الذي سيصونها من الذلل والضرر وإيذاء الآخرين، فالكل يبدو متديناً، لا غرض له إلا إرضاء وجه ربك ذو الجلال والإكرام، والكل يبدو من أولياء الله الصالحين من طالت ذقونهم، وتغطت رؤوسهم واسودت جبهاتهم من كثرة سجودهم آناء الليل وأطراف النهار، ولقد مر عامان على مولدها، ولم ينتبه من حولها أنها معوقة، ومن اكتشفوا إعاقتها وطالبوا بعلاجها نعتهم العامة بالخائنين العلمانيين المتشائمين، الكاذبين، المغرضين إخوان الشياطين، والأغلبية الساحقة لم تلتفت لإعاقتها، فالمهم أنها، أي “الثورة” قد ولدت وليس من المهم كيف ولدت، ومن هو أبوها، وما هي الاستعدادات التي أخذت لكي ما تنمو نموًا طبيعياً مفيدًا لأسرتها ولأمها وعائلتها المصرية، المهم أنها ولدت والسلام، فهذا ما كان يحلم به الكثيرون، على اختلاف أنواعهم، لمدة طويلة وقد حبلت مصر العاقر وأنجبت الثورة وهذا يكفي. ها نحن نحتفل هذا الشهر بعيد ميلادها الثاني.
ومن المصيبة أن المحيطين بالطفلة “ثورة” غير متفقين على أي شئ يخص أمرها في شئ، فكما قلت إن كل فصيل من المحيطين بها يراها بعيون مختلفة عن عيون الآخرين، فالإخوان المسلمون يرون أن الثورة طفلتهم التي طالما انتظروا مولدها بفارغ الصبر، وأن الجماعة هي أبوها وليس آخر، ومن حق الوالد أن ينشئ ابنته كما يشاء دون تدخل من بقية الأهل والأصدقاء، فهم يشكرون على تهنئتهم للأب ومساعدتهم له حتى ولدت “الثورة” لكن في النهاية فهو الأب الذي تحمل الاضطهاد والعذاب والقهر، والسجن حتى اللحظة الأخيرة، وإلى أن يقضي ربك أمرًا كان مقضياً بميلاد طفلته الجميلة، وفي ليلة وضحاها أصبح السجين هو الوالد المناضل حامي حماها والمدافع عنها والمهتم بشئونها، ولا يهم في سبيل تحقيق مآربه أن يخاتل ويخادع ويكذب ويراوغ ويهدد ويتوعد وما إلى آخر القائمة السوداء من أمور يقشعر لها الأبدان، المهم أن يعلن سيطرته على الطفلة وكأنها ابنته وهو أبوها وزوج أمها وحامي حمى ديارها، ولا مانع أن يحكم معه لفيف من أصحابه ومرشديه وأتباعه ومتملقيه، مادام سيحكم قبضته على مقاليد الأمور، وسيعترف الكل، إن طوعاً واختيارًا، أو قصرًا وإجبارًا، أنه الأب الشرعي لهذه الطفلة المسكينة “ثورة”.
والسلفيون يرون أنهم أبو الطفلة “ثورة”، فهم الذين استخدموا السلاح في حراسة أمها وهددوا وقتلوا، وعلى استعداد حتى الآن أن يهلكوا كل من يقف في طريق ادعائهم بأنهم أبو “الثورة” والممثل الشرعي لها، والمِحْرِم الموكل من الله على تنشأتها في مرضاته سبحانه وتعالى وطاعته. والليبراليون يرون أنهم أحق الناس ببنتهم “الثورة” والمطالبون بحمايتها ورعايتها والإشراف على شئونها، وتركها تستمتع بحياتها بعد المصيبة العائلية التي ألمت بها، وكانت سببًا في زنى أمها مع كل عشاقها. وهكذا جاء عيد ميلادها الثاني وهي لا تعرف، لا هي ولا أمها، من هو أبوها الشرعي الحقيقي. والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، أن المسيحيين المصريين ليسوا جزءًا في هذا الصراع لتحديد من هو الأب الحقيقي للثورة المصرية، مع أنهم هم الملاك الحقيقيون لها، وأجداد الأم مصر يوم كانت عذراء عفيفة مخطوبة لرجل واحد، والذي أنجب منها المسيحيين سكانها الأصليين، وظلت معروفة الهوية حتى طغى عليها فرسان بمركبات وحمير وسيوف فاستسلم أهلها للغزاة الفاتحين، وضاعت هوية أمهم، ولم تعد بكرًا، بل تناوب على اغتصابها أمم وممالك وخلفاء وأمراء وحكام فحول كانوا يدخلون عليها وعلى عشرات النساء في الليلة الواحدة، لا يعرفون عن حضارتها شئ سوى نهب غنائمها والتسلي بنسائها واستعبادها وسرقة كل ما هو نفيس في أرضها.
ولرب قائل ما أهمية أن تعرف الثورة من هو أبوها، أفليس من الكافي أن يعلن كل من هؤلاء أنهم آباء لها، أليس هذا من صالحها، فالكل يهتم بها ويظن أنه أبوها؟ وللإجابة على هذا السؤال أقول لا، فمع احتياج الثورة لعشرات الأقارب والعشاق والمريدين والمخلصين، لكن لن يهتم بها أحد مثل أبوها، فالثورة المصرية مريضة تحتضر وتحتاج لمن يداويها ويسهر عليها ويقوتها ويربيها حتى تكبر وتأتي بثمر ويدوم ثمرها. فليس كل من يحيط بالثورة يعرف حتى أنها مريضة ومعوقة، فالمغرضون وغير الفاهمين مصرين على أن الثورة في حالة نمو طبيعي عادي، وأنها لا بد أن تعبر هذا الوقت وهذه الأزمة بسلام ما داموا هم المسئولون عنها وعن قوتها وتربيتها ونموها، أما إذا اقترب آخر إلى المشهد فيتهمونه بأنه سيكون السبب في إيقاف نموها وإصابتها بكل أنواع أمراضها. والبعض يعرف أن الثورة مريضة، ويمكن أن تفارق الحياة في أية لحظة، لكنهم ينكرون مرضها حتى لا يطمع العامة فيها، وحتى يمكنهم أن يجرفوا أموالها وخيراتها، وعند وصولهم إلى مبتغاهم وتطلعاتهم سيتركونها حطاماً، وسيلومون غيرهم على كل مشاكلها وخساراتها.
وآخرون يعرفون أن هذه الطفلة الجميلة “ثورة” مريضة لكنهم يرون أنه من مصلحتهم أن تظل مريضة ومعوقة إلى الأبد لا تسمع، لا ترى، لا تتكلم ولا تمشي، فلو كبرت هذه الثورة لأصبحت سبب انهيار ملكوتهم وتهديدًا لمصالحهم وأمنهم، فهم يعرضون ملايينهم على أهلها لمساعدتهم في شفائها بشرط أن يمنحونهم أن يتحكموا في شريان دمائهم الرئيسي المعروف بقناة السويس لمدة 99 سنة.
لكن أغرب وأعجب المدعين بأبوة الثورة هم الذين يرون أن علاجها، لن يتم إلا بالوصفات البلدية، بالسحر والجان والشعوذة، ولبس الحجاب والشريعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبول البعير ولبن الحمير، أو على الجانب الآخر العلاج بالصلاة والصوم والتمنيات والغيبيات والشعارات واللقاءات والمؤتمرات. وإلى كل هؤلاء أقول، الطفلة ثورة معوقة، فهي لا تمشي ولا تتقدم للأمام، فكل ما هو حادث اليوم في مصر يدل على الشلل الكامل الذي أصاب “ثورة منذ ميلادها”، وما ترونه من حركتها من مكان إلى مكان، إنما هو بواسطة بعض المغرضين الذين يحملونها إلى حيثما قصدوا وينقلونها من مكان لمكان بأيديهم وخططهم وأموال غيرهم ليوهموا العامة أن الطفلة ثورة طبيعية، تنمو بصورة صحية وهي تمشي الآن، وبإذن الله تعالى، ستصل إلى أهدافها عن قريب. وهؤلاء سيكونون أول من يلقون بها على قارعة الطريق ويهربون عند الانتفاضة الشعبية القادمة لا محالة، وإن طال الزمان وكره الحاكمون.
وأقول أيضاً إن الطفلة “ثورة” مصابة بتخلف عقلي شديد، فمع أنها جميلة، لكن عقلها ناقص التكوين، فهي تحلم فقط خارج نطاق الواقع، وتتمنى فقط ما لا يمكن أن يحدث، وهي لا تدري عن الخطط والمؤامرات التي تحاك ضدها وضد أهلها شئ، فهي تبتسم كالبلهاء ولا تدري أنه إن استمر الحال على ما هو عليه فستصاب بسكتة دماغية حادة، ستنسيها كل ما كان من أمرها وأمجادها، فما تصرفاتها الآن إلا دليل قاطع على ما أقول، وأن إيمان، ولو جزء من عقلها أن الحل هو في تطبيق شرع الله عليها، أو العودة بها إلى عصر الجلباب والحجاب والشبشب والقبقاب هو الدواء لشفائها، إنما لدليل على استفحال مرضها وانفصام شخصيتها، وتخلفها العقلي، بالرغم من صغر سنها، الأمر الذي يزيد من صعوبة شفائها، والدلائل أيضاً على إصابة الطفلة “ثورة” بالعمى هي أنها لا تلاحظ ولا ترى ما يحدث حولها، فسيطرة فصيل واحد على إدارة شئونها والتحدث باسمها والتصرف في أموالها، إنما يدل على تغييبها وتخلفها وعماها، الذي لا يصعب علاجه. هذا إلى جانب العديد من الأمراض التي لا مجال لذكرها في هذا المقال. وفي النهاية أقول إن لم تعرف الثورة من هو أبوها، من الذي يكرهها ومن الذي يحبها، من هو الذي يريد أن يأخذ بيدها ليقيمها على مستقرها ومن هو الذي يريد أن يهوي بها في ظلمات الغيب والجهل والعمى، لا يمكن أن تشفى من دائها.
الثورة تحتاج إلى أطباء متخصصين في جميع الأمراض، لهم من الخبرة والعلم والأمانة والضمير والحب لها ولأهلها ما يكفي لعلاجها وشفائها بإذن الله، تحتاج أن يتضافر الجميع مسيحيين ومسلمين، شيعة سنة وبهائيين وأقباط موحدين الهدف ومركزين في علاجها والسهر عليها لمداواتها، تحتاج إلى العلم والثقافة والدراسة والإيمان تلك العوامل الأساسية في نمو أية طفلة في عمرها وحجمها وأهميتها.
كنت أتمنى أن أقول للثورة كل سنة وأنتِ طيبة، لكني لا أريد أن أخدعها، فهي ليست طيبة، ولو استمرت على ما هي عليه لمدة عام آخر فلربما ، وأتمنى أن لا يحدث، مع أنه بات مؤكدًا، سأكتب بيدي في العام القادم، وفي ذكرى ميلادها، كلمات نعيها، ولا رادًا لقضاء الله، وإنا لله وإنا له لراجعون.