في عيد الميلاد …. سطور لجبران

14

الدكتور القس صفوت البياضي
الرئيس الشرفي للطائفة الإنجيلية

  أيام قليلة وتبدأ أنغام عيد الميلاد الذي يحتفل به العالم مع تعدد لغاته وانتماءاته، فالجميع يدركون أن مولد المسيح حقيقة وتعاليمه راسخة. فرغم تعدد الثقافات بل وتعدد العقائد والديانات إلا أن الجميع يتفقون على أن ميلاد المسيح حقيقة حدثت على أرض الكرة الأرضية ويتفقون كذلك على تعاليمه وسمو حياته. وهنا راودتني الرغبة في أن اتجه إلى ما كتبه الشاعر والكاتب جبران خليل جبران حول شخص وحياة السيد المسيح.

  يقول جبران: “اليوم وفي مثل هذا اليوم من كل سنة تستيقظ الإنسانية من رقادها العميق وتقف أمام أشباح الأجيال ناظرة بعيون مغلَّفة بالدموع نحو جبل الجلجثة لترى يسوع الناصري معلقًا علي خشبة الصليب، وعندما تغيب الشمس عن مآتي النهار تعود الإنسانية فتركع مصلية أمام الأصنام المنتصبة على قمة كل رابية وفي سفوح كل جبل.

  اليوم تقود الذكرى أرواح المسيحيين من جميع أقطار العالم إلى جوار أورشليم فيقفون هناك صفوفًا صفوفًا قارعين صدورهم محدقين في شبح مكلل بالأشواك باسط ذراعيه أمام اللانهاية ناظرًا من وراء حجاب الموت إلى أعماق الحياة. ولكن لا تُسدل ستائر الليل على مسارح هذا النهار حتى يعود المسيحيون فيضطجعوا جماعات جماعات في ظلال النسيان بين لحف الجهالة والخمول.

  وفي مثل هذا اليوم من كل سنة، يترك الفلاسفة كهوفهم المظلمة ويدع المفكرون صوامعهم الباردة ويمضي الشعراء من أوديتهم الخيالية ويقفون جميعهم على جبل عال صامتين متهيبين مصغين إلى صوت فتي يقول لقاتليه: “يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون”، ولكن لا تكتنف السكينة أصوات النور حتى يعود الفلاسفة والمفكرون والشعراء فيُكَفِّنوا أرواحهم بصفحات الكتب البالية.

  إن النساء المشغولات ببهجة الحياة المشغولات بالحلي والحلل يخرجن اليوم من منازلهن ليشاهدن المرأة الحزينة الواقفة أمام الصليب وقوف الشجرة اللينة أمام عواصف الشتاء ويقتربن منها ليسمعن أنينها العميق وهناتها الأليمة.

  أما الفتيان والصبايا الراكضون مع تيار الأيام إلى حيث لا يدرون فيقفون اليوم هنيهة ويلتفتون إلى الوراء ليروا الصبية المجدلية تغسل بدموعها قطرات الدماء عن قدمي رجل منتصب بين الأرض والسماء، ولكن عندما تمل عيونهم النظر إلى هذا المشهد يتحولون مسرعين ضاحكين.

وفي مثل هذا اليوم من كل سنة، تستيقظ الإنسانية بيقظة الربيع وتقف باكية لأوجاع الناصري ثم تطبق أجفانها وتنام نومًا عميقًا.

  أما الربيع فيظل مستيقظًا متبسمًا سائرًا حتى يصير صيفًا مذهَّب الملابس معطَّر الأذيال.

  الإنسانية امرأة ويلذ لها البكاء والنحيب على أبطال الأجيال، ولو كانت الإنسانية رجلًا لفرحت بمجدهم وعظمتهم.

  لكن الإنسانية طفلة تقف اليوم متأوهة بجانب الطائر الذبيح و تخشى الوقوف أمام العاصفة الهائلة التي تعصر بمسيرتها الأغصان البضة وتقصف الأغصان اليابسة وتجرف بعزمها الأقذار المنتنة.

  الإنسانية ترى المسيح مولودًا كالفقراء عائشًا كالمساكين مهانًا كالضعفاء مصلوبًا كالمجرمين فتبكيه وترثيه وتندبه وهذا كل ما تفعله لتكريمه.

  منذ تسعة عشر جيلًا والبشر يعبدون الضعف بشخص يسوع، ويسوع كان قويًا ولكنهم لا يفهمون معنى القوة الحقيقية.

  ما عاش المسيح مسكينًا خائفًا ولم يمت شاكيًا متوجسًا بل عاش ثائرًا وصُلب متمردًا ومات جبارًا.

  لم يكن المسيح طائرًا مكسور الجناحين بل كان عاصفة تكسر بهبوطها جميع الأجنحة المعوجة.

  لم يجئ المسيح من وراء الأفق الأزرق ليجعل الألم رمزًا للحياة بل جاء ليجعل الحياة رمزًا للحق والحرية.

  لم يخف من مضطهديه ولم يخش أعداءه ولم يتوجع أمام قاتليه بل كان حرًا على رؤوس الأشهاد جريئًا أمام الظلم والاستبداد، يرى البثور الكريهة فيبضعها ويسمع الشر متكلمًا فيخرسه ويلتقى الرياء فيصرعه.

  لم يهبط من دائرة النور الأعلى ليهدم المنازل ويبني من حجارتها الأديرة والصوامع ويستهوي الرجال الأشداء ليقودهم قسوسًا ورهبانًا، بل جاء ليبث في فضاء هذا العالم روحًا جديدة قوية تقوِّض قوائم العروش المرفوعة على الجماجم وتهدم القصور المتعالية فوق القبور وتسحق الأصنام المنصوبة على أجساد الضعفاء المساكين.

  لم يجئ المسيح ليعلِّم الناس بناء الكنائس الشاهقة والمعابد الضخمة في جوار الأكواخ الحقيرة والمنازل الباردة المظلمة، بل جاء ليجعل قلب الإنسان هيكلًا ونفسه مذبحًا وعقله كاهنًا.

  هذا ما صنعه يسوع الناصري وهذه هي المبادئ التي صُلب لأجلها مختارًا، ولو عَقِل البشر لوقفوا اليوم فرحين منشدين أهازيج الغلبة والانتصار.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا