فرويد

3

د. مراد وهبة

هو مؤسس التحليل النفسي. وُلِدَ في السادس من شهر مايو من عام 1856 في مدينة فرايبورج، وهي مدينة صغيرة في إحدى المقاطعات النمساوية، والتحق بكلية الطب في فيينا في عام 1873، ونال شهادة الدكتوراه في الطب في عام 1881، أي أنه قضى ثماني سنوات ينتقل بين مختلف أقسام الكلية باحثاً عما يرضي ميوله من ألوان الدراسة المختلفة. وقد وجد ضالته في معمل الفسيولوجيا، حيث واصل دراسته التجريبية من عام 1876 إلى 1882 مهتماً بشكل خاص بالجهاز العصبي وتطوره. وكان الجو العلمي السائد في أواخر القرن التاسع عشر مادي النزعة التي لا تسلِّم إلا بالتفسير الكمي. فموضوع العلم هو المادة الخاضعة للملاحظة الحسية والقياس الرياضي، أما طبيعة العقل فهي من اختصاص قوم يسمون أنفسهم بالفلاسفة الغارقين في التخيلات الزائفة والتفسيرات اللفظية الجوفاء. وإذا تناول العلم دراسة الظواهر التي يقال عنها إنها نفسية فإنه لا ينظر إليها إلا من حيث هي أثر من آثار الجهاز العصبي والأجهزة العضوية الأخرى. ففي رأي علماء هذا الجيل أن الدماغ يفرز الفكر كما يفرز الكبد السكر. وعلى ذلك، ترجع كل اضطرابات التفكير والسلوك وكل الأمراض النفسية والعقلية إلى اضطراب في الوظائف العضوية. وكانت الوراثة المرضية هي الحل اليسير لتفسير ما كان يعجز التشريح أو الفسيولوجيا عن تفسيره.

وقد نشأ فرويد في مثل هذا الجو واكتسب الاتجاه السائد في عصره. وعندما بدأ يباشر مهنته كطبيب للأمراض العصبية، كان سلاحه الوحيد العلاج بالتيار الكهربائي. ظل كذلك حتى صُدم بعقم هذا الضرب من العلاج حتى إنه صرح فيما بعد بأنه كان طبيبًا للأمراض العصبية، ولم يكن يفقه في الأمراض النفسية. غير أن اعتقاده في المنشأ الفسيولوجي للأمراض النفسية ظل راسخاً فيه طول حياته. فقد صرح في مطلع حياته العلمية بأن علة الأمراض النفسية كامنة في الأمور البيولوجية، وأن العلم سيصل في المستقبل إلى الكشف عن الوسائل الكيميائية للتحكم في عوامل الأمراض النفسية. ومرت السنوات جالبة معها الكشوفات المهمة في دراسة إفرازات الغدد الصماء. وقد أشار فرويد في محاضراته الجديدة في التحليل النفسي، والتي نُشرت في عام 1932، إلى الأمل في استخدام الهرمونات في تغيير العوامل الكمية للمرض، ولكنه أسرع وقرر أن هذا اليوم لم يأتِ بعد. ويعود ويكرر هذا القول في آخر كتاب له وعنوانه «ملخص التحليل النفسي»، والذي بدأ تأليفه في عام 1938، غير أن الموت لم يمهله فتركه ناقصاً.

في مثل هذا المناخ المشبع بالتحيز البيولوجى، شق فرويد طريقه للوصول إلى المرض النفسي. تُرى هل سيرتمي في أحضان الفلسفة، أم يوجه نظره نحو الواقع الحي الذي كان يستثير انتباهه في محادثاته مع بروير أو أثناء الدروس الإكلينيكية التي كان يتلقاها في عام 1885 في باريس مصغيًا إلى شاركو وهو يصف أعراض الهستيريا؟ الواقع أن فرويد لم يقرأ كثيراً من المؤلفات الفلسفية بل كان يعيش في حالة وصفها بعضهم بأنها حالة «همجية فلسفية». راح ينصت إلى الطبيعة ويتأمل فيما يقع تحت ملاحظته من حالات مرضية مختلفة، ووجد نفسه في آخر الأمر منساقًا رغم أنفه إلى أن يسكت تحيزه البيولوجي، وأن يقاوم ما أكسبه تدريبه في التشريح والتجارب الفسيولوجية من نزعة إلى التفسير المادي الكمي، وأن يسلِّم بنوعية الظاهرة النفسية كفرض علمي يؤكد أنها أصلح الفروض لفهم ظواهر المرض النفسي. وعندما عرض النتائج التي استمدها من ملاحظة الواقع لم يصطنع لنفسه لغة جديدة، بل استعمل المصطلحات الشائعة في علم النفس، متيقنًا أنه لا بد من تفسير الظواهر النفسية بواسطة مفاهيم وأساليب سيكولوجية محضة.

فلنستمع إليه وهو يتحدث إلى جمع من الأطباء في أثناء المحاضرات التي كان يلقيها في شتاء عام 1915 والمنشورة في كتابه «مدخل إلى التحليل النفسي». يريد التحليل النفسي أن يقدم للطب العقلي الأساس السيكولوجي الذي يعوزه. فهو يأمل الكشف عن المجال المشترك الذي يمكننا من أن نفهم صلة الاضطراب الجسمي بالاضطراب النفسي. وللوصول إلى هذا الهدف، يلزم التحليل النفسي أن ينحي كل فرض تشريحي أو كيميائي أو فسيولوجي، وألا يعمل إلا بالاعتماد على معانٍ سيكولوجية بحتة. وكان ذلك واضحًا في تحليله للأحلام عندما تساءل: لماذا كان المضمون الصريح تعبيرًا مجازيًا من المضمون الخفي؟ ولماذا لا تخرج محتويات المضمون المستتر سافرة؟ ولماذا تظهر المحتويات الكامنة على هيئة صور؟ وأخيرًا ما هي صلة المحتويات المستترة بالحلم؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، علينا أن نفهم طبيعة النشاط النفسي في الحلم. إذا كانت الحياة النفسية عند فرويد تخضع للعلاقات الديناميكية للثلاث قوى: الذات، الذات العليا، والهو، فإن هذا المثلث يسيطر على الحياة النفسية في الحلم.

وقد استطاع فرويد أن يكشف الغطاء عن الدور الذي تلعبه كل قوة في الحلم. لقد لاحظ فرويد أثناء تحليله للمرضى أن هناك علاقة وثيقة بين درجة غموض وعدم وضوح إدراك وعدم تذكر بعض أجزاء الحلم الذي يسرده المريض وبين صعوبة ممارسة التداعي الحر من جانبه، وأنه في اللحظة يتعثر المريض في هذه الصعوبة في تذكر أجزاء الحلم. وقد جعل هذا فرويد يستنتج أن المقاومة التي يجابهها المريض هي التي تؤدي إلى نسيان الحلم.

غير أن فرويد لم يفقد شيئًا من الصفات التي كانت تميزه كعالم في التشريح أو في فسيولوجية الجهاز العصبي. فقد ظل محتفظًا بروحه العلمية، روح الموضوعية والخضوع للواقع، روح النقد وعدم التسرع في الحكم وفي صياغة النظريات، روح الجلد والمثابرة خاصة روح التواضع. إن المسائل التي يثيرها فرويد في كتاباته العديدة ويعترف بجهله في حلها لا تقل عددًا عن المسائل التي يقرر فيها رأيه الإيجابي.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا