فتنة السرد عند طه حسين

19

د. بليغ حمدي إسماعيل

تناولنا في العدد الماضي سيرة طه حسين.. مِن عزبة الكيلو إلى القاهرة المحروسة، مرورًا بالجامعة ومرحلة التنور الثقافي في حياة العميد، وصولًا إلى فرنسا.. والتميز والنبوغ، انتهاءً بوصوله إلى مصر الحبيبة.

تتناول السطور التالية عرضًا موجزًا لأبعاد وملامح الشهود والحضور الاجتماعي لفكر الدكتور طه حسين؛ في كتاباته الإبداعية القصصية تحديدًا روايته “دعاء الكروان”، والطرح الفكري المتمثل في كتاباته التنويرية ذات الصبغة التعليمية؛ كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” أنموذجًا، محاولة تفسير منتج طه حسين الاجتماعي واستقراء روافده ، وصولاً إلى تحديد أبرز الخصائص الاجتماعية التي طرحها طه حسين والتي سعى إلى تدشينها ومن ثم تمكينها في سياقات ثقافية مختلفة.

تكاد تكون مهمة القاص صعبة المنال والمراس نسبيًا في محاولته اقتناص لحظة إبداعية للسرد التاريخي، وهذه اللحظة تبدو استباقية لدى الموهوبين في القص والمتميزين في حرفة الحكي، وهذا الرهان الأدبي قلما تحقق لروائيين يمكن توصيفهم بالمنتمين لعوالهم الإبداعية، وهي موهبة تثقلها الصناعة بامتلاك أدوات وتقنيات السرد والحكي كما في حالة عميد الرواية العربية نجيب محفوظ الذي أمهر حق الإبهار في استلاب قارئه صوب نص مفعم بإحداثيات سردية تدور في أفلاك تاريخية لا سيما في عبث الأقدار وكفاح طيبة ورادوبيس وغيرها من الروايات التاريخية التي بدأ بها محفوظ مشروعه الروائي الطويل.

وإذا كان نقاد العصر الحديث منذ طروحات محمد مندور النقدية أشاروا إلى العلاقة التزامنية بين بدايات السرد الروائي لدى صناع التجربة القصصية العربية وبين النص الاجتماعي بوصف الأخير رافدًا خصبًا لا ينضب من الحكايات وأعاجيب الأخبار، فإن الذين التزموا بتوافر النص الاجتماعي لدى سردهم القصصي من أمثال طه حسين قليلون لا سيما إذا تحول سرد النص التاريخي الاجتماعي إلى حكاية تتفوق بإحداثياتها على حدث التاريخ نفسه. طه حسين حينما لجأ إلى حدث التاريخ فهو لا يعتمد على ذيوع الحكاية التاريخية بل يعمد جاهدًا إلى نقل القارئ إلى موقع النص الأصلي بل ويبدو هذا القارئ مشاركًا فاعلاً في تفاصيل مشهد الحكي.

ولطالما افتتح النقاد حديثهم عن الرواية بالسرد القصصي، واجتهدوا في رصد حالات السرد ومقاماته وأحواله التي تبدو أكاديمية نسبيًا وبعيدة عن رصد حالة الحدث الإبداعي أي الرواية ذاتها، إلا في حالة طه حسين فالسرد يرتبط به طوعًا بغير كراهة، وربما إذا طفق النقاد المتقدمون في تأصيل السرد كمزية أصيلة للرواية بأنه أي السرد يعني التتابع والانتظام مما يوحي للقارئ العادي غير المتخصص بأن الرواية عمل رتيب يصف الواقع دونما أي تجديد أو إثراء له بالتأويل والتوصيف، لكن سردية جمال طه حسين متغايرة فهي لا تعني أو تهتم بتتابع نص الحدث في صورته التاريخية أو حتى تتابع الأحداث بتقاليدها النقدية المستدامة، بل يلجأ دومًا إلى تقنيات استثنائية يمكن توصيفها بكلمة واحدة وهي التجلي. وفي حالة التجلي التي أعتقد أن طه حسين كان يقصدها وهو يخط رواياته وتحديدًا أديب والمعذبون في الأرض ودعاء الكروان يضطر طه حسين وهو مقتنع أن ينقل قارءه صوب مشاعره السردية، بمعنى أنه نجح بامتياز وكفاءة في انتزاع الانفعال من القارئ، وهي نتيجة قلما تتحق لدى روائيين، ويمكن رصد تلك الحالة أيضًا في رواية (أصابع لوليتا) للروائي الجزائري واسيني الأعرج، ومجمل أعمال الروائي عبد الرحمن منيف.

وإذا كان السرد في عمومه النقدي يعمد إلى تكريس تقنية إجراء الحوار الداخلي (المونولوج) فإن دعاء الكروان الحالة الأولى الساحرة لطه حسين نجحت في إجراء حوار من نوع خاص وفريد في ذهن القارئ لإحداث شراكة مستدامة بين النص والحدث الاجتماعي والقارئ، والسردية الجديدة التي بدت نفسية وفقًا لتاريخ إصدار الرواية اقتضت إلى الوصول بنتيجة واحدة وهي كلما اقتنع القارئ بأنه شريك أصيل في الحدث اكتفى الروائي بأنه امتلك بالفعل بوصلة الحدث القصصي بل وعدم فكاك القارئ من الشَرَك (بفتح الشين والراء) السردي .

وإذا ما فكرنا في تناول المشروع السردي عند طه حسين والذي تمثل في رواياته شديدة الاجتماعية، فإن السرد عنده لا يهتم بالحكي المباشر بقصد ما يعني بسبر أغوار اليقين، وطه حسين وهو يحاول الوصول إلى إنجاز هذه المهمة يبدو أكثر وعيًا بتجارب من سبقه من المبدعين العرب، لكن تظل مشكلته السردية وإن حق التوصيف عبقريته السردية هي أنه خارج السرب في تغريده على مستويات التقنية السردية بلغة الغائب الذي يتطلب حضورًا دافقًا بذهن القارئ، والأدوات والتكنيكات الروائية المتمايزة واستحضار صور تاريخية، ولا شك أن استحضار التاريخ بأحداثه صنع حالة من الدهشة الدائمة للاكتشاف داخل النص، ولعل إيجاز حدث تاريخي في صورة سردية إبداعية يخلق إيقاع إزاء الحدث الذي يبدو قلقًا ومرتعدًا مما يحفز القارئ في انفعاله صوب النص من ناحية، ويعزز التكوين السردي غير المشابه من ناحية أخرى.

مقامات طه حسين.. من السرد إلى الوعي المعلوماتي:

ليس مشكلة في أن تستحيل كاتبًا، فالمفردات والألفاظ مطروحة على قارعة طريق اللغة، لكن الأصعب أن تكون ذاك الكاتب القارئ، وهذا الدور المزدوج يجعل الكاتب كرهًا ملتزمًا أمام قارئيه في أن يقدم لهم قدرًا معرفيًا ومعلوماتيًا مهمًا يشارف اكتمال ثقافة الآخر الذي يجد ملاذه المعرفي عند كاتبه، هذا الدور قام طه حسين عبر مشروعه القصصي الطويل، ومن خلال نثرياته المدهشة، وكبار الكتاب والشعراء من أمثال توفيق الحكيم ويوسف إدريس وأدونيس ويوسف الخال ومحمد الماغوط مرورًا بالاستثنائي محمود درويش وواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي وغيرهم كانوا يمررون قدرًا معرفيًا مذهلاً عبر سياقاتهم النصية الإبداعية أو السردية مستهدفين خلق حالة من الوعي المعلوماتي لدى القارئ الذي اختلف دوره عن السابق بعد أن استحال شريكًا فاعلاً في النص غير هذه الشراكة الباهتة التي أشار إليها (رولان بارت) بإعلان موت المؤلف.

فالمؤلف لم يعد ميتًا كما استحال عبر استدامة هيمنة الكاتب على قارئه، ولم يعد إلى أدراجه القديمة منعزلاً عن نصه؛ بل هو الصوت الآخر الذي يدفع القارئ إلى البحث عن مزيد من التفاصيل واقتناص الإحداثيات السردية بمعاونة الكاتب نفسه.

وطه حسين الغارق في تفاصيل الوطن وتراثه الأصيل استطاع أن يوفر هذا الوعي المعلوماتي لدى قارئه الأمر الذي يدفعنا بأن نجعله في زمرة الكتاب الحجاجيين اًي الذين يمتازون بإقامة الحُجة عن طريق تدعيم الطرح الفكري بطروحات فكرية وفلسفية ذات شراكة متماثلة بعض الشيء. يبدو هذا الطرح المعلوماتي في تفاصيل المشهد السردي للكتاب والذي نجح الشعر بقوالبه أن يفرض سطوته وقوته القمعية في إحداث التأويل والإمتاع ومن قبلهما الدهشة لدى القارئ من خلال الصورة والتصوير الفني لأحداث تبدو سياسية محضة، وفيها يدعم طه حسين طرحه الفكري بأفكار ومساجلات فكرية تؤدلج الدور السياسي للمثقف وأنه ليس بالقطعية تنظيريًا أو مكتفيًا بالمتابعة بدون المشاركة في صنع القرار السياسي، وأنه بمثابة أيقونة شرعية للحراك المجتمعي.

ومن البدهي لقاص استثنائي ماتع كطه حسين أن ينقل لنا عبر صورة السردية النثرية ملامح ثقافية شتى لعصور بائدة زمنيًا باقية بتفاصيلها المكانية، حينما يريد المزج بين حدث معاصر له والحالة الوجداني لجيل سابق لم يعاصره، الأمر الذي نجده على الشاطئ الآخر يبدو مغايرًا لسمات الكاتب التي تبدو شاعرية حينما يقرر تناول بعض القضايا السياسية الأكثر رواجًا في عصره، مثل هذه الإشارات هي بالطبع خير دليل على استنارة الكاتب حينما يعرض قضيته باحثًا عن أدلة شافية وكافية لتبرير عرضه السردي وتدعيم أفكاره المطروحة. والمستقرئ لهذا الطرح يجد ثمة مشاكلة وتماثل بين وقائع الحياة السياسية والاجتماعية وبين الأحداث والمشاهد الزمنية المصاحبة لوقت كتابة الرواية.

دعاء الكروان.. مساحات من الحجاج السردي:

حينما صدر كتاب  جوع الواقع موت الرواية.. نوع أدبي يحتضر) للناقد ديفيد شيلدس اصطدم الروائيون ولهجوا في الدفاع عن طرحهم السردي طارحين فكرة المؤلف وزعمه بأن قوة الواقع وتفوقه على الرواية هي التي قضت على وجودها كجنس أدبي استطاع أن ينتزع من الشعر أيقونة ديوان العرب، وسواء اتفقنا مع أفكار ديفيد شيلدس أم اختلفنا جذريًا فإن الرواية المعاصرة والراهنة هي بشك في مرحلة معاناة حقيقية يمكن توصيفها في ملامح محددة، منها حالة الغياب بين النص والقارئ والتي مفادها لغة النص ذاتها، لذلك فإن رواية “دعاء الكروان” رغم قدم تاريخ نشرها إلا أنها تعد بمثابة حافز إيجابي يدفع القارئ العربي لتجديد علاقته بفن الرواية، لاسيما وأنه -القارئ- يجد وطنه حاضرًا بقوة في سياقات الرواية، ويلحظ فتنة المدينة التي لطالما هرب من سطوتها بنفس القدر الذي يدفعه إلى النزوح النهائي إليها.

وأهم من ذلك كله فإن الطرح النصي الذي قدمه لنا طه حسين في روايته “دعاء الكروان” هو طرح العلاقة بين الوطن والمواطن، تلك العلاقة التي تحتاج إلى تحليل نفسي صوب الحاكم والوطن وقضايا المجتمع المعيشية وبعض القضايا المجتمعية كتريبة السكان وانتماءاتهم الأيديولوجية والزواج والارتقاء العلمي وغير ذلك من الطروحات الاجتماعية التي تربط المواطن بوطنه ومجتمعه، لذلك فإن القارئ لا حرج عليه في كونه مستلبًا صوب الرواية وأحداثها وبطلها الذي لا تستطيع أن تتعاطف معه، في الوقت الذي تجد نفسك فيه أكثر المدافعين عن سيرته ومسيرته.

إنها دهشة السارد طه حسين، وهو المسئول الأول والأخير عن تقديم الكلام عن شخوصه لا سيما شخصية بطلة الرواية، ودهشة طه حسين ليست في سرد التفاصيل وعرض إحداثيات حوارية تقضي على ملل الوصف والتوصيف، بل من حضور القارئ الذي يوهمه طه حسين بواقعية النص المسرد من خلال مشاهد وملامح كالإيفادات والإشارات الرمزية ووصف الإطار العام للمشهد، وحضور السارد نفسه الذي يجعل القارئ يفتش أكثر عن ما يشبع شغفه بتوصيف البطل.

طه حسين يؤسس بداياته السردية:

في رواية “دعاء الكروان” سعى طه حسين أن يقدم لنا حكاية رجل تضطر طوعًا من مقدمات سردية شارحة أشبه باللمحة الدالة السريعة للتعاطف مع الحكاية، وهو يقدم لنا تمهيدًا ببيئة الحكي وشخوصه، هذا التقديم أشبه بلحظة الوسن التي تحدد العتبة الفارقة بين الحالة النوم الكامل وبين حالة اليقظة غير المستقرة، هذه اللحظة نجح طه حسين في خلقها لدى القارئ حتى يتمكن من عرض مشاهده المتتابعة لسيرة مدينة.

لكن طه حسين يؤسس لسرد مختلف إذ تراه أشبه بالمسرحيين وهم يدشنون أسسًا لفنهم، فهو كذلك في رواية دعاء الكروان، يعتلي مسرحًا سرديًا يقص التاريخ الشخصي لشخصيات اجتماعية بعدسات غير متمايزة رغم أنه لا يدخل في قالب المسرح وكنهه، فهو لم يتبع القوالب الفنية الجاهزة لكتابة الرواية بل عمد منذ البداية إلى تأريخ السرد والحكي بصورة مغايرة لما اتفق عليه في خمسينات وستينات القرن الماضي حينما ازدهرت الرواية واستحالت إلى أفلام سينمائية ذات شهرة. فبرغم كون الرواية حدثًا اجتماعيًا محضًا يحكي سيرة امرأة وعصرها إلا أن طه حسين لم يكترث بتصعيد الحدث الاجتماعي إلى سدة الاهتمام القرائي مثلما اهتم باستقطاب الدهشة والمتابعة لدى القارئ في تعرف مزيد من الحكايا المرتبطة بالشخوص أكثر مما ترتبط بالأحداث المجتمعية الروائية.

فأنت تطالع شخوصًا كثيرة مختلفة المهن والطبائع والأمكنة والثقافات، وفي كل شخصية أنت مضطر تمامًا إلى نسيان الحدث التاريخي المسطور في كتب التاريخ لاكتشاف ملامح أكثر دهشة عن طبائع هذه الشخوص، فتجد نفسك مهمومًا بتتبع تفاصيل شخصيات شتى، وفي كل هذه الشخصيات لم يقع طه حسين في فخ التنافر والتفكك البنائي للحدث الرئيس بل استطاع أن يقبض بإحكام على متابعة القارئ للحدث.

لحظَة القبض على دعاء الكروان:

كنت أتوقع -وغيري كثير- منذ الإطلالة الأولى لعنوان رواية دعاء الكروان أن طه حسين يريد أن ينقل إلينا صورة مركزية لشخصية محورية تدور الرواية حولها، لكنه بحق نجح في الهروب من الشراك المحوري لينقل لنا صورة مركزية على الشاطئ الآخر للسرد، مركزية المدينة وصراعها التاريخي مع ثقافة القرية وصورتها الذهنية. هذه المركزية نقطة السر التي حولت النص التتابعي إلى خطاب إبداعي، والتعبير عن أحاسيس المجتمعات المدنية غير المستقرة نفسيًا والتي قررت ان تختار الحرية غير المنضبطة كرهان واحد أخير. ولربما حينما استطاع طه حسين أن يلم تاريخيًا بحقيقة شخصياته الروائية، أمكنه أن يخفي الوجه الإنساني لبطل العمل بصوته ووجوده الفعلي داخل النص من أجل أن يجعل القارئ يمارس دورًا قرائيًا إبداعيًا هو التوصيف الجسدي والنفسي والذهني الجديد لشخصية البطل. وأعتقد أن طه حسين منذ خطه لسطور روايته “دعاء الكروان” وضع رهانات جديدة للسرد الروائي وهي حضور القارئ بقوة رغم انفصاله زمنيًا عن حدث الحكي.

وحينما أمكن لطه حسين القبض بإحكام على الشخصية المركزية في رواية دعاء الكروان وقام بتشريح الشخصية نفسيًا واجتماعيًا في سياقات الرواية استطاع أن يفضح آليات المجتمع وقام بنقد المجتمعات المدنية في زمن كتابة الرواية في ضوء تقنيات وإحداثيات تاريخية لم تنفصل زمنيًا عن واقع مشهود. إن دعاء الكروان إحساس عميق بالتاريخ الذي يلقي بظلاله على واقع معاصر مر، وإذا كان هناك ما يعرف عند أهل الاختصاص من اللغويين بالمشترك اللفظي، فإن طه حسين ابتكر ظاهرة المشترك السردي وهو الإحساس العميق لدى القارئ صوب الحدث. وحينما أحكم طه حسين قبضته على شخوص دعاء الكروان حدد بوضوح سردي دور شخصية البطل في رصد تحولات المدينة، وصياغة رؤية المدينة المستقبلية، ووظيفة المجتمع.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا