العدد 85 الصادر في أكتوبر 2012 ضربني وبكى وسبقني واشتكى
بالرغم من كرهي الشديد للغالبية العظمى من الأمثال العربية المتداولة، حيث إنني أرى في حفظها، والاقتناع بها وتطبيقها أداة للتراجع والتخلف والقدرية، فمن قائل “اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش” فترضى بانتخاب اللي تعرفه حتى ولو كان أسوأ الخيارات، بدلا من الوقوف ضده ومحاسبته، وترفض انتخاب “اللي ما تعرفوش” حتى لو كان أحسن الخيارات بدلا من أن تقف بجانبه وتسانده، ومن قائل “العمل عبادة” فينغمس المرء في العمل ويهمل العبادة، و”اللي يعوزه البيت يحرم على الجامع”، فلا يعطي البيت ولا يعطي الجامع، وغيرها من الأمثال، إلا إني وجدت نفسي أردد المثل القائل “ضربني وبكى وسبقني واشتكى” عندما رأيت الضجة الفائقة التصور التي عملها المسلمون لظهور “فيلم براءة المسلمين”، الفيلم الذي أطلق عليه الجميع “الفيلم المسيئ” لرسول الإسلام. وتذكرت أيام الطفولة، فمن منا لم يضرب أخاه الصغير أو الكبير ويجري ليرتمي في أحضان والده أو والدته ويشتكي من أخيه ويتهمه أنه هو الذي ابتدأ بالعدوان والضرب، فتسرع الأم دون تروي وسؤال وفحص للحادثة برمتها، بمعاقبة المضروب على أنه الضارب، وتواسي الضارب وكأنه المضروب، وتستنكر وتشجب وتهدد بالعقاب الشديد إذا تكرر الأمر، وليس من يسمع للمضروب الحقيقي، وليس من يوبخ أو ينتهر الضارب الحقيقي. فصاحب السبق في الشكوى هو دائماً الأقوى في نظر الناس، وهو دائماً المجني عليه وليس الجاني، ولذا يقف المُسَاءُ إليه والمجني عليه ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، “ضربني وبكى وسبقني واشتكى”، هذا ما توارد لذهني عندما قامت القيامة ولم تقعد حتى الآن بسبب هذا الفيلم سئ السمعة، وبادئ ذي بدء أقرر بما لا يدعو مجالاً للشك، أو المجاملة للمسلمين وقادتهم، في إنني ضد هذا الفيلم وضد الإساءة بكل أنواعها وأشكالها وأسبابها، فمهما كان سبب الإساءة ففي النهاية هي إساءة، وليس من مبرر لها في عرف التعاليم المسيحية وما أوصانا به السيد المسيح تبارك اسمه، ولقد أصدرت بياناً بصفتي رئيس رابطة الكنائس والهيئات الإنجيلية العربية بأمريكا استنكرت فيه إصدار هذا الفيلم، وما شابهه، وكنت ومازلت عند موقفي من هذا الفيلم المسئ للمسيحيين الحقيقيين، وتعاليم دينهم ورسالة إلههم أكثر من إساءته للإسلام ونبيه، مع أهمية ذكر حقيقتين مختلف عليهما في معظم الأحيان. أما الأولى منهما فلكل حقه في التعبير عن رأيه في أي شئ أو شخص أو كتاب أو تعاليم أو دين أو رسول أو حتى الله نفسه سبحانه وعَلَى شأنه، فحق التعبير عن الرأي هو حق مقدس كحق الإنسان في الأكل والشرب والتنفس والحرية، فمن لا يعرف أن يستخدم حقه في التعبير عما بداخله فقد أصبح إنساناً ميتاً، حتى وهو على قيد الحياة. لكن حتى حق التعبير عن الرأي لا يعطي الحق لقائل الرأي في الإساءة للآخرين، فهناك فرق بين التعبير عن الرأي، بصورة محترمة موضوعية موثقة وإعطاء الفرصة للطرف الآخر أن يرد على الرأي بالرأي، وبين أن يستخدم أحدهم المنابر المختلفة لإهانة الآخرين دون إعطائهم فرصة بدورهم للتعبير عن آرائهم والرد عليه. أما الحقيقة الثانية فهي إننا عادة ما نستخدم تعاريف وألفاظ ومفردات وجمل ومعانٍ مختلفة للتعبير عن نفس الشئ الواحد أو الكلمة الواحدة، وكأننا نتحدث لغات مختلفة مع إننا نتكلم بنفس اللغة عن نفس الشئ الواحد، ومن الأمثلة المضحكة الموضحة لهذه الحقيقة، فبالرغم من أن المصريين والعراقيين يتكلمون لغة واحدة، وهي العربية إلا أنه في كثير من الأحيان تكون للكلمات معانٍ مختلفة تختلف باختلاف قائلها، فإن قلت لمصري “أنا هبسطك” سيفهم أنك ستجعله مبسوطاً أي سعيداً، أما إذا قلت لعراقي “أنا هبسطك” فهذا معناه أنك ستضربه، وما أبعد الفرق بين المعنيين، فأحدهما عكس الآخر تماماً، وكم من مشاكل تسبب فيها مثل هذا الاختلاف في المعنى للكلمة الواحده، فمع إصراري على رفض الإساءة بكل معانيها وأشكالها ومسبباتها كما ذكرت سابقاً، إلا أن سؤالاً ملحاً يظل يطرح نفسه ويحتاج إلى إجابة وتوضيح واتفاق حول تعريف كلمة الإساءة، فما هي الإساءة ومن هو المسئ، فما أراه أنا إساءة لي يراه غيري من صميم حريته للتعبير عن رأيه، وتعريفي أنا للإساءة قد يكون عكس تعريف الآخر تماما، بالرغم من اتفاق كل ذي عقل على بغضه الإساءة، ويبدو أن الإساءة لا تتوقف فقط على ما يقال بل على من هو القائل، وطريقة القول، والظروف والملابسات التي قيل فيها القول أيضاً، فالكتاب المقدس يقول في سفر الأمثال 27:14 “من يبارك قريبه بصوت عالٍ في الصباح باكراً يحسب له لعناً”. ومثال على ذلك إذا كنت أنا متزوجا من أربعة نساء في نفس الوقت، وشرعي وديني حلل لي هذا الفعل، فإن ذكر الآخر، الذي يؤمن أنه زوجة واحدة لرجل واحد، وما زاد على ذلك فهو من الشيطان، إنني متزوج بأربعة نساء فهذه ليست إساءة بل هذا وصف لحقيقة واقعة، لكن أن يصفني الآخر بأنني خنزير وشهواني وحيوان لأني متزوج بأربعة فهذه إساءة. أن لا يؤمن المسيحي بدين المسلم وكتابه، والمسلم بدين المسيحي وكتابه فهذه حرية الاعتقاد المكفولة بالقوانين الدولية المفعلة في البلاد المحترمة التي تعرف معنى الحرية الحقيقة، أما أن أحرق كتاب الآخر في مشهد سينمائي بغيض، ويهتف المحيطين بي مكبرين ومهللين، الله أكبر الله أكبر، وكأني أحرق كومة من القاذورات، وكأنهم تخلصوا من كل كتب الدين الآخر وانتصروا نصراً مبيناً على أتباعه، فهذه إساءة لأهل دين الكتاب المحروق، بغض النظر عن أي دين أو أي كتاب هو. وخاصة إن كان المؤمنون بهذا الكتاب يقدسونه فلا يمسه إلا المطهرون، ولا يصح أن تضعه على الأرض، أو أن تدخل به دورة المياه لتقرأه هناك، أما إذا كان المؤمنون بكتاب آخر يعرفون أن هذا الكتاب، وبالرغم من أن اسمه الكتاب المقدس، إلا أن قداسته ليست في أوراقه والحبر المستخدم في تسطير كلماته، إنما قداسته تكمن في أن ما كتب فيه إنما هو كلام الله الممحص والمنقى سبعة مرات، فحرق الحبر والورق لا يؤثر في ماهية الكتاب المقدس، ولا في كرامة كلماته، فكلام الكتاب قائم بذاته يعطي للحبر والورق أهميته، لكنه لا يتأثر بزوالهما، ويمكن للمنجسين، أن يلمسوه، فهو يطهر المنجسين، وهو لا يتنجس بهم، ففي هذه الحالة يكون سعي من حرق الكتاب المقدس ضاع هباء ولم يؤثر في مشاعر أصغر مسيحي في العالم، لأنه لم يحرق كلام الله، بل إنما حرق أوراقا وأحبارا ليس إلا، أما كلام الله فلا حارق له، وسيحكم المولى على كل من حرق الكتاب المقدس، الذي سطر فيه سبحانه كلامه، إن بالقول أو العمل بالذهاب والبقاء في جهنم أعدها تعالى للشيطان وأتباعه، إن لم يتب الحارق عن جهله وكبريائه ويقبل المسيح يسوع، تبارك اسمه، مخلصاً وحيداً له. فالقوانين التي تحكم تصرفات المسيحيين تختلف تماماً عن قوانين من مَثَّل دور البطل والعلامة الإسلامي، وقام بحرق الكتاب المقدس، لذا لم نر مسيحياً حقيقياً واحداً متظاهراً أو ممارساً لأعمال عنف في العالم كله بسبب حرق كتابهم المقدس، أو إصدار أفلام تسيئ للسيد المسيح، وما أكثرها، وهكذا أيضاً الحال في وصف كلمة إساءة، فإن وصف أحدهم الأقباط الذين هاجروا إلى خارج مصر بأقباط المهجر فهذا وصف لا ينبغي أن يثير أو يغضب أي منهم، لأنهم أولاً أقباط، ثانياً لأنهم في بلاد المهجر، فلا إساءة هنا، لكن أن يتطاول الواصف ويصفهم بما ليسوا هم عليه من صفات بأنهم كلاب وخنازير المهجر، فهذه إساءة، من القائل، ليس لهم فقط بل لخالقهم أيضاً فهم بشر، خليقته سبحانه، ولو شاء ربك لخلقهم كلاب وخنازير. وحتى لو كان القائل يجهل هذه الحقيقة فهذا لا يعفيه من تحمل تبعات إساءته، لكن أن يعرف القائل هذه الحقيقة ويقسم بالله أن هذه ليست إساءة بل هذا وصف لأقباط المهجر، فهذا يضاعف من مسئوليته وحسابه في الدنيا والآخرة يوم الدين، فالكثيرون يرون، حتى ولو لم يصرحوا بذلك بشفاههم بل حفظوا الأمر في قلوبهم، يرون أن ما تضمنه الفيلم ليس إلا وصفاً تصويرياً واقعياً وتجسيداً لكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، لذا فلم يروا فيه إساءة بل سرداً وممارسة لحرية التعبير عن الرأي. لذا فيبدو كما قلت إن مفهوم الإساءة أيضاً يتعلق بمن هو قائلها وظروف وطريقة قولها وليس فقط تعريفها، فما يقوله المسلم في نقد دينه يراه بقية المسلمين فقهاً أوتعليماً أومبادئ دينية يقرها الجميع ويفتخرون بها، لكن إذا صدر نفس التعليم أوالقول، حتى بنفس الألفاظ وبأفضل طريقة ممكنة، عن مسيحي اعتبرها المسلم إساءة له ولدينه، فإذا قال المسلم إن نبيه كان يطوف على زوجاته جميعهن، بغض النظر عن عددهن فهو مختلف عليه، في الليلة الواحدة، لافتخر بهذه الحقيقة نفس العالم الإسلامي، من وصف أقباط المهجر بالكلاب والخنازير، وقال طبعاً كان نبينا راجل وغايظكم، لكن إذا ذكر مسيحي هذه الحقيقة المدونة والموثقة في جميع الأحاديث الصحيحة، هاجت الدنيا عليه واتهم بالإساءة للدين وللنبي، لذا فمفهوم الإساءة واسع، لكن الإساءة نفسها غير مقبولة، كما قلت سابقاً، على كل الوجوه والمعاني والظروف والمناسبات، مادام المسئ والمساء إليه لديهم نفس التعريف والتحديد لمعنى الكلمة.
والحقيقة أن ما جعلني أستنكر إصدار هذا الفيلم، ليس لخوفي بسبب ردود أفعال المسلمين التي تعودنا عليها في الشرق الأوسط في كل المناسبات، فالمسيحيون الشرقيون يعرفون جيداً من هم المسلمين، وليس لديهم الإسلاموفوبيا التي يعاني منها العالم كله في هذه الأيام، فلقد تعايشنا معاً لأربعة عشر قرناً ففهمنا فيها بعضنا وردود أفعالنا، وما الذي يثير كل طرف وكيف نُقَبِّل بعضنا في برامج الإذاعة والتليفزيون وحول موائد الإفطار والزيارات الرسمية، وفي نفس الوقت يطعن كل منا الآخر في ظهره في الخفاء، وأهي أزمة وتعدي. ولم أستنكر إصدار الفيلم حفاظاً على مشاعر المسلمين، فهم لا يكترثون لمشاعر المسيحيين، ولقد أهان كل منا الآخر بما فيه الكفاية لتتبلد مشاعرنا تجاه بعضنا البعض، ولا يكترث أحدنا بالآخر اللهم إلا في حالات قليلة من مرض أو ميت أو مناسبة رسمية، وغالباً ما تكون مشاعر سطحية وقتية مشكوك في دوافعها. ولم أستنكر إصدار الفيلم كمن يلعب سياسة ويسير مع التيار، فهذه ليست طبيعتي ولا شخصيتى، ولو كنت أجيدها لكان لي الكثير من الأصحاب الذين تباعدوا عني، يلتفون حولي ممن قاومتهم مواجهة لأنهم كانوا ملومين، لكن هناك عدة أسباب جعلتني أقف مستنكراً لهذا الفيلم، أولها وأهمها على الإطلاق هو أن المسيح لم يعلمنا أن نسيئ، ليس فقط لشركائنا في الوطن والمصير الواحد، بل لأعدائنا ومبغضينا ومضطهدينا، وليس ذلك فقط بل أن نصلي لأجل الذين يسيئون إلينا ويضطهدوننا، ونغفر لهم إلى درجة أننا مطالبون بالإحسان إليهم ومباركتهم بدلا من الرد على لعناتهم بلعنات. فتعاليم المسيح لا تؤمن بأن الضرورات يبحن المحظورات، ولا تؤمن بأن الغاية تبرر الوسلية، ولا تؤمن بمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه، ولا تؤمن بهذه نقرة وهذه نقرة، ولا تؤمن بعين بعين وسن بسن والبادي أظلم. كل هذه المبادئ ليست من تعاليم السيد المسيح تبارك اسمه في شئ، وفي إيماني الشخصي أن كل ما ليس من تعاليم السيد المسيح، فلا يمكنني الإيمان به أو عمله أو تبريره أو المساومة عليه حتى تجاه من لم يؤمنوا بهذه التعاليم. فالقانون الإلهي الذهبي هو ما قاله السيد بفمه الطاهر تبارك اسمه في الإنجيل بحسب القديس لوقا 6:31
“وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضا بهم هكذا”. .
أما ثاني هذه الأسباب أن الفيلم لم يضف معلومة جديدة واحدة لما يعرفها المسلمون والمسيحيون، فلم يعد هناك أسرار تخفى لا في السياسة ولا المجتمع ولا الدين، ويكفي أن يشاهد الناس القنوات الدينية، مسيحية كانت أو إسلامية ليرى هذا الكم من المعلومات وعمليات الحفر والتنقيب كل في دين الآخر، ولم تعد هناك حاجة للحياء أو مراعاة شعور الآخرين فلقد وصلنا، في رأيي الشخصي، إلى نقطة اللا رجعة في هذه المعركة الحامية الوطيس، وأقصد بها معركة الأديان والنبش فيها وإخراج ما تيسر وما تعسر على الفهم، لهذا فلسنا بحاجة إلى إنتاج فيلم هابط في الظلام كهذا الفيلم ليكشف لنا أمور يتكلم فيها الجميع في وضح النهار. أما ثالث الأشياء فهو ضياع الهدف السامي وراء إنتاج مثل هذا الفيلم، فما الهدف من إنتاجه، هل لتعريف الأجانب، غير العرب، على ما بالإسلام من تعاليم من وجهة نظر المنتج، ومنذ متى أصبح الغرب يهتم بتعاليم الإسلام والمسلمين أو حتى المسيحيين العرب، ومهما كان من مساوئ في التعاليم الإسلامية، من وجهة نظر أصحاب الفيلم، فهل ما للغربيين من بيئة وعادات وتقاليد وحياة منحلة تدور حول الجنس والجريمة، كما يبدو هذا واضحاً من تصرفاتهم وأفلامهم، ما هو أفضل من الإسلام في شئ، أم أن المنتجون كانوا يخاطبون العرب للإغاظة والرد على إساءاتهم بفيلم كهذا، وهل صدور مثل هذا الفيلم سيقرب المسلمين من المسيحية والمسيح أم سيباعد بينهم وبينه أكثر وأكثر، وسيؤجج نار العداوة والشقاق والبغضة والعراك، أبعد الله عنا شرورها جميعها و..و..و.. الخ.
أما عن ردود أفعال المسلمين في مثل هذه المناسبات فمتباينة، فالحكومات عادةً ما تقف صامتة دون إصدار استنكار رسمي أو اتخاذ موقف واضح ضد هذه الإصدارت، فمن جانب فهي لا تريد أن تظهر أمام العالم بأنها تقيد حرية الرأي والتعبير وأنها مؤيدة للغوغائية في بلادها، وعلى الجانب الآخر لا تريد أن تغضب شعبها وتبدو وكأنها لا تكترث بالإساءة لرموز دينها، فيثور الناس على قادتهم وزعمائهم، ومن الدول كالسعودية من وضعت أحد قادتها الدينيين في المعتقل بسبب اشتراكه في مظاهرة ضد هذا الفيلم، أما الشعب الإسلامي فبعضه يخرج صارخاً مستنكراً مستاءً دون علم لأي شئ خرجوا وماذا يطلبون فهم لم يروا الفيلم، وما علموا شيئاً عنه وعن أحداثه وأهدافه ومنتجيه، هم خرجوا لأنه قد قيل لهم إن هناك فيلما مسيئا للرسول، وعليكم الخروج والاحتجاج، وهؤلاء معظمهم من غير المتعلمين من الشباب ومن هم في منتصف العمر. وهناك مجموعة أخرى قد جرحت مشاعرهم بحق، وهؤلاء هم الطيبون أصحاب الفضائل والمتمسكون حتى اليوم بالأصول القروية ويعرفون العيب، ومنهم المرضى بحب الظهور والزعامة وإبراز الذات وكأنه حامي حمى الدين، وهؤلاء يمثلون خطورة حقيقية على الإسلام والمسلمين، أما أسوأ أنواع المتظاهرين فهم المنتهزون للفرص والجاهزون والمخططون لمثل هذه الإضطرابات لتصفية حسابات قديمة مع حكوماتهم، وقوات أمن بلادهم، والانتقام من أمريكا وإسرائيل بسبب أو بدون سبب، فأمريكا وإسرائيل في عرفهم أصل لكل الشرور، ولا بد أن يتحملوا وزر أية حادثة سيئة تحدث في الشرق الأوسط، وخاصة مع المسلمين، هؤلاء المتربصون لا يهمهم سلامة وطن أو أهل أو أصحاب، المهم أن يصلوا إلى مآربهم وأن يضرموا البلاد من نار العداوة والحقد والقنابل والصواريخ، والعجيب أن هذه المجموعة هم أقل الناس تواجداً في وسط المتظاهرين، بل هم يحركون العامة من غرف نومهم، وفنادقهم، ومكاتبهم، وطاولات مموليهم، هم أولئك الذين يحملون الناس أحمالا عسرة ولا يدفعونها بإصبعهم، ويلهبون ظهور المغيبين من عامة الناس بالعبارات الرنانة والكلمات الحماسية والفتاوى الدينية والتهديد والوعيد.
وهذه الجماعة الأخيرة تحقق من المكاسب المادية والمعنوية الكثير في مثل هذه الحالات فهي تحاول إرهاب كل ما حولها ومن حولها من حكومات محلية وعالمية لابتزازها، وللأسف الشديد أقول أن كثير من الحكومات العالمية والغربية تنصاع لهم، وتخاف منهم، وتسارع بإرضائهم، وتتنازل عن كثير من خصوصياتها وحقوقها اتقاءً لشرهم وانتقامهم، الأمر الذي يشجعهم أكثر على التمادي في ردود أفعالهم ويدفع البلاد لإعطائهم تنازلات أكثر وهكذا يستمر الحال إلى ما لا نهاية، لكن العالم اليوم ينظر إلينا نحن سكان الشرق الأوسط مسلمين ومسيحيين، وكأننا وحوش نعيش في غابات لا أوطان، لا نعرف إلا المبدأ الحيواني “البقاء للأقوى”، وكأن لا عقل لنا ولا إرادة أو مشاعر، وكلمة مسلم بالنسبة لمعظم العالم الغربي تساوي بالتمام كلمة إرهابي، ولن يفلح مع هذه الدول أية وسيلة ورسالة تحاول إقناعهم بها إننا بشر مثلهم، لنا حضارة سبقت في وجودها العالم كله، وعندنا أدب وفن وعواطف وقلوب تنبض بالحب والجمال وآمال وتطلعات، فما يرونه منا أغلق عقولهم تماماً عن اعتبارنا جزء من خليقة الله سبحانه وتعالى، ولا يتعاملون معنا إلا مضطرين لتلبية مصالحهم ووفقاً لرغباتهم. وليحذر الإخوة المسلمون لأن ردود أفعال الدول تجاه احتجاجات المسلمين بدأت في التغيير عن ذي قبل، ففي استراليا يصرح رئيس وزراءها أن على المسلمين أن يلتزموا بالقوانين الإسترالية وإلا سيرحلون إلى بلادهم، وفي فرنسا، وبرغم الضجة الكبيرة الحالية حول الفيلم، وما حدث بسبب صدور الرسوم الدنماركية المسيئة، إلا أن الجرائد ما زالت تصدر رسومات مسيئة لنبي الإسلام، حتى الرئيس الأمريكي المسلم الأصل صرح بأن مصر لم تعد حليفة ولا عدوة لأمريكا، وهذا تراجع له دلالاته في علاقة أمريكا بمصر، وهكذا ستتوالى ردود أفعال الدول الغربية وكلها ليست في صالح المسلمين.
وبإنتاج هذا الفيلم المسيئ، وضعتنا بعض الدول الغربية كمسيحيين في نفس صف المسلمين، فنحن في نظرهم الذين بدأنا بالإساءة، وأصبح الأمر “خناقة” بين المسيحيين بالخارج والمسلمين بالداخل، ونحن كمسيحيين الذين أعطينا مجموعة المتربصين بنا الفرصة للانقضاض على أقباط المهجر. ومع أنني لا أعرف من هم منتجي الفيلم إلا أني أستطيع أن أقرأ أفكارهم، فهم يرون أن كأس اضطهادهم قد امتلأ، ولم يعد ينفع أن نظل صامتين كمسيحيين، ولا بد لنا أن نفضح التعاليم الإسلامية، ونجعلها مسموعة ومرئية على العالم أجمع، وليس للمسلمين الحق في الصراخ والشكاية والوقوف ضد هذه الأعمال، فهم الذين بدأوا بالإساءة للمسيح وللكتاب المقدس ولتلاميذ المسيح والقديسين والكنائس والأديرة والمسيحيين عموماً في مصر والشرق الأوسط، ونحن المضروبون ومن حقنا أن نصرخ ونعترض ونعبر عن رأينا بكل الوسائل، ولم ينتبهوا إلى أنه حتى لو كانت هذه حقيقة الموقف فالمثل يقول “ضربني وبكى وسبقني واشتكى” ولعل ما قدمه منتجي الفيلم هو العين بالعين، والسن بالسن والإساءة بالإساءة والبادي أظلم، فما الفيلم إلا رداً على إساءات الشيوخ والأئمة ومن يدعون العلم، وقد أسموا أنفسهم أو أسماهم الناس علماء الإسلام، وقد نسوا أنهم من ابتدأوا بالإساءة ثم أخذوا في الصراخ أن حاكموا أولئك الذين يهينونا ويهينوا رسولنا، نعم كما يقول المثل “ضربني وبكى وسبقني واشتكى”. لقد أساء منتجي الفيلم للقضية القبطية أيما إساءة، فلقد صرفت هذه الفعلة النكراء بإنتاجهم هذا الفيلم الأنظار عن النضال القائم لأجل القضية القبطية وحقوق الأقباط في مصر والعالم كله، واختلط على الناس من هو الضارب ومن هو المضروب، وأصبح بقدرة قادر أقباط المهجر هم المحرضون على الإساءة للإسلام ونبيه، ولا شك أن منتجي الفيلم قد حققوا بعض المكاسب من وجهة نظرهم، فمثل هذه الإصدارات تعمل على التنفيس عن الضغط الواقع على الأقباط الذي كاد أن يفجر صدورهم، وقد نجحوا في إظهار حقيقة كيفية تعبير المسلمين في العالم كله عن مشاعرهم وآرائهم، ونجحوا في كسب تأييد كثير من بلدان العالم الحر والتفاتهم للأقباط المصريين، والمساهمة في تلوين الفكر العالمي عن الإسلام والمسلمين باللون الأحمر الناتج عن العنف والدموية، لكن ما خسروه كان أكثر من مكاسبهم، وما كسبوه، من وجهة نظرهم، إن كانوا قد كسبوا شيئا حقيقيا، لم يكسبوه بطريقة مسيحية وفقاً لتعاليم المسيح، بل بالعكس مخالفاً لها، لذا فهي غير مقبولة منهم، حتى ولو حققت مكاسب حقيقية، ومهما كانت أسبابها، وفي النهاية أحذر من الزج باسم أقباط المهجر في مثل هذه الأحداث، فهذا لن يضر بهم كثيراً ولن يفيد مصر في شئ، بل سيزيد الطينة بلة، ولنتوقف الآن عن تطبيق المثل “ضربني وبكى وسبقني واشتكى”.