صلاح عيسى ودفتر الوطن

14

مدحت بشاي

رحم الله كاتبنا الكبير الذي شعرتُ وأنا أكتب بشكل أسبوعي لجريدته الغراء “القاهرة” كم كان الرجل مهمومًا بإخلاص بأحوال الوطن والمواطن، وكم كان مشغولاً بقضايا تحقيق الاندماج الوطني ومناهضة التمييز والعدالة الاجتماعية دون ممارسة “الزعيق” وحنجورية الأداء أو الدخول في مزايدات على حساب الوطن، فضلاً عن مراعاته الرائعة لكل آداب وأصول العمل الصحفي، فقد كان بالفعل جديرًا بلقب “حارس المهنة”.

واليوم، ونحن نحتفي بذكرى يوم رحيله عنا (25 ديسمبر 2017)، فإن التوقف عند بعض سطور الراحل المبدع للتذكير بها لهو أعظم ما يمكن التعزي به بعد فقدان وجوده معنا. ولعل كتابه الهام “حكايات من دفتر الوطن” هو ما يبرهن على مدى مصرية ووطنية ذلك الكاتب والمفكر والمؤرخ الرائع. ففي الشأن الديني -على سبيل المثال- يُخصص الكاتب والمؤرخ فصلاً بعنوان “البطريرك المنفي”. ومن بين ما كتبه جبرتي الصحافة عن ذلك البطريرك: “كيرلس الخامس كان على رأس الكنيسة المصرية في أثناء ثورتي 1882 و1919، وقد بلور دور الكنيسة المصرية والأقباط المصريين في أثناء حلقتين متتاليتين من حلقات الثورة الوطنية الديمقراطية، وهو دور واضح ومحدد، مضمونه الالتزام بالهدف القومي العام، والإسهام في الدفاع عن حرية الوطن، وتأييد الشعارات الوطنية الثورية. وأخطر ما صدر عن “البابا كيرلس” في هذه الفترة فتواه الشهيرة التي أعلن فيها أن الانجليز بعدوانهم ومحاولتهم احتلال مصر قد خرجوا عن تعاليم المسيحية الحقة التي تدعو إلى السلام وعدم الاعتداء، ومن ثَمَّ اعتبرهم كفرة خارجين على دينهم يجب حربهم، ليس هذا فقط بل إن رجال الدين المسيحي -كما يروي “برودلي”- قد هرعوا إلى الكنائس يصلون لله ويدعونه أن ينصر جيش الوطن…” انتهى الاقتباس من واحدة من حكايات الوطنية التي ذكرها صلاح عيسى بفخار المواطن المصري بتاريخ الأجداد.

وفي حدوتة من حواديت عيسى، التي رواها بخفة ظل، جاء ذكرها في إحدى مقالاته الأخيرة بعموده الشهير “مشاغبات” بجريدتنا الغراء “المصري اليوم”، كتب حول حواديت النفاق العربية والمصرية للحكام “أنه في أحد الاجتماعات التي التقى فيها الرئيس مبارك عددًا من المثقفين المصريين، انتقد أحدهم من المتحمسين لتأييد سياساته عدم اهتمام الرئيس بأن يحشد حوله تيارًا يؤيد هذه السياسات، عبر دراسته لخطبه وتصريحاته، مما أسفر -في تقديره- عن اقتصار الجدل السياسي في مصر، على جناحين أحدهما “ناصري” والآخر “ساداتي” من دون أن يكون هناك تيار “مباركي”، داعيًا إياه إلى تجميع خطبه وتصريحاته وأنصاره من المثقفين لكي يقوموا بدور الشراح والمفسرين لما في هذه الخطب والتصريحات من أفكار سياسية عميقة، كفيلة بأن تحشد جماهير الشعب من حولها، ولكن الرئيس “مبارك” لم يجد في الفكرة التي طرحها المذكور في حماس مفتعل ما يدعوه للاهتمام بها، فقاطع صاحب الاقتراح قائلاً: “بصراحة يا فلان أنا لا أجد أي أهمية لطبع هذه الخطب.. ولا أفهم ما الذي تريده بالضبط، فأرجو أن توضح لي الأمر بدلاً من اللف والدوران الذي حوَّل رأسي إلى حلة ملوخية!” وضحك الحاضرون.. وضحك الرئيس.. بل وضحك صاحب الاقتراح، ربما لأنه أراد أن ينافق الرئيس بأن يقدم له طبقًا من “الكوسة” وأن يضيف إلى صفاته صفة المفكر، فإذا بالرئيس يُغرقه في حلة من الملوخية حولته إلى مسخرة بين الجالسين.”

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا