رجل الشارع في زمن السَّيبر

2

د. مراد وهبة

لفظ “السَّيبر” هنا وارد في عنوان المؤتمر العالمي الثالث عشر “البشرية الكوكبية في زمن السَّيبر” الذي أقيم في مكسيكو سيتي في نوفمبر 1996م، ودُعيت إليه القيادات الفكرية العالمية، وكانت الغاية منه هي مواجهة الثورة السَّيبرية التي كانت من إفراز تطور الاتصالات وتكنولوجيا الكمبيوتر، والتي كان من شأنها إفراز ثورات ثقافية واجتماعية واقتصادية ترتب عليها البحث عن استجابات إنسانية وعقلانية ونحن في الطريق إلى القرن الواحد والعشرين.

والسؤال إذن: ما معنى لفظ “السَّيبر” الوارد في عنوان كل من المقال والمؤتمر؟

لفظ “السَّيبر” اختصار للفظ الأصلي “السيبرنطيقا” الذي كان عنوانًا لكتاب من تأليف العالم الأمريكي “نوربرت فينر” في عام 1948م، وعرَّفه بأنه علم التحكم والاتصال في الحيوان والآلة، ثم أصدر موجزًا عنه في 1950م تحت عنوان “الاستخدام الإنساني للكائنات البشرية” وجاء فيه أنه هو الذي اخترع لفظ “سيبرنطقيا”، وأنه اشتقه من لفظ يوناني يعني بالعربية “ربان السفينة” أو “الحاكم”، ثم اكتشف أن العالم الرياضي والفيزيائي الفرنسي “أمبير” في القرن الثامن عشر كان قد صكه للدلالة على علم مختص في أساليب تنظيم المجتمع كان قد وضعه تحت علم أعم وهو “السياسة”. أما “فينر” فقد ارتأى أن الآلات قد تكون في عملها مماثلة لعمل الجهاز العصبي، وقد تسهم نظرية الاتصالات في دراسة دماغ الإنسان، وبذلك تدخل العلوم البيولوجية في العلوم الرياضية فتنشأ عن ذلك علوم بينية.

ويفضل السيبرنطيقا تمت صناعة الكمبيوتر، وفي عام 1982م ظهر على غلاف مجلة “تايم” الأمريكية عنوان مثير “إنسان عام 1982م”، إلا أنه لم يكن إنسانًا بل آلة تُسمى الكمبيوتر تنبئ بثورة هي ثورة الكمبيوتر تدور على صناعة “عقل صناعي” يدلل ويبرهن. وبفضل هذا العقل، أصبحنا نميّز بين المعلومات والمعرفة من حيث إن المعرفة كانت أصلًا معلومات ثم صيغت وأوِّلت وأحدثت تأثيرًا في الواقع، وبهذا المعنى تكون المعرفة قوة إنتاجية تُحدِث تأثيرًا في قوى الإنتاج فتصبح قوة رابعة تضاف إلى قوى الإنتاج الثلاث التقليدية وهي: الأرض ورأس المال والعمل. وفي تقديري أن العمل في ضوء “المعرفة قوة” هو العمل العقلي، ومن ثَمَّ يمكن أن يقال على عمال المستقبل: إنهم عمال عقليون أو معرفيون، ومن هنا يكون عالم الاجتماعي الأمريكي “دانيل بل” محقًا في عبارته القائلة: بأن “المعرفة تحكم” والتي وضعها عنوانًا فرعيًا على غلاف كتابه المعنون: “بزوغ مجتمع ما بعد الصناعي”.

وتأسيسًا على ذلك يمكن القول بأن العلوم البينية وثورة الكمبيوتر وقوة المعرفة تكشف عن منطق جديد هو منطق الإبداع، وقد يبدو أن ثمة تناقضًا بين المنطق من حيث هو جملة قواعد التفكير السليم وبين الإبداع من حيث هو خروج على هذه القواعد، إلا أن هذا التناقض يزول إذا كنا على وعي بأن الحضارة الزراعية كانت إبداعًا بشريًا من حيث إنها قد نقلت البشرية من عصر الصيد حيث الأسطورة تتحكم إلى عصر الزراعة حيث العقل في الطريق إلى التحكم لإقصاء بقايا الأساطير التي تناضل من أجل منع العقل من ممارسة الإقصاء. وقد كان من ضحايا النضال ضد الأساطير “بروتاغوراس” و”سقراط ” و”هيباتيا” و”ابن رشد” و”كوبرنيكوس” و”جليليو” و”برونو”. والجدير بالتنويه أن هؤلاء وضعوا أساس العلمانية التي هي بحسب تعريفي: “التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق” في مواجهة الأصولية التي هي: “التفكير في النسبي بما هو مطلق وليس بما هو نسبي”. وفي مسار هذا التناقض، أحدثت العلمانية تفكيكًا في الأصوليات، إلا أن هناك عنصرًا جوهريًا أدخلته الأصولية في نضالها ضد العلمانية وهو رجل الشارع.

السؤال إذن: مَنْ هو رجل الشارع في العصر السَّيبري؟

كان هذا السؤال هو الدافع وراء عقد المؤتمر الدولي الفلسفي الخامس في نوفمبر من عام 1983م وكان عنوانه: “الفلسفة ورجل الشارع”، إلا أن لفظ “رجل الشارع” ترجمة غير دقيقة للفظ الإنجليزي MASS-MAN وترجمته “إنسان جماهيري”، وهي ترجمة مواكبة لألفاظ أخرى أفرزتها الثورة العلمية والتكنولوجية مثل ثقافة جماهيرية وإنتاج جماهيري ووسائل إعلام جماهيرية.

والسؤال بعد ذلك: هل في الإمكان دفع رجل الشارع إلى تمثل العصر السَّيبري حتى يمكن تحريره من التيار الأصولي؟

أو في صياغة معكوسة: هل في إمكان العصر السَّيبري ذاته دفع رجل الشارع إلى تمثله؟

الجواب عندي أن العصر السَّيبري هو عصر النسبية بسبب ظاهرة الإنترنت، أي أن الكل المترابط حيث لا فواصل بين الشعوب والدول، ولا بين أديان ومعتقدات، ومن ثَمَّ لا تكون المطلقات قادرة على إبقاء هذه الفواصل، ومع ذلك فالجدير بالتنويه أن المطلقات لم تتوارَ والنسبيات تبزغ على استحياء، والعقبة رجل الشارع والقنوات التليفزيونية الفضائية.

والسؤال إذن: ما العلاقة بين رجل الشارع وهذه القنوات؟

قديمًا كانت الأسواق ملتقى “سقراط” مع رجل الشارع، وكان هذا الملتقى رمزًا للخطر، والخطر كان كامنًا في الاتصال المباشر بين الفيلسوف ورجل الشارع. وبسبب هذا الخطر وإصرار “سقراط” على عدم الابتعاد عنه، حُكم عليه بالإعدام، وبعد ذلك ارتعب الفلاسفة فتفلسفوا في داخل بناء أكاديمي ومن ثَمَّ اعتزلوا رجل الشارع  والذي أصبح عقبة أمام التقدم. وإذا أردنا إزالة هذه العقبة، فعلى الفلاسفة الذهاب إلى الأسواق الجديدة التي أفرزتها الثورة العلمية والتكنولوجية وهي القنوات القضائية حيث الملايين من رجال الشارع في انتظار علمنتهم حتى يتمثلوا تلك الثورة من أجل التحرر من السجن الأصولي الذي دخلوه بلا وعي من قِبل السجان الحارس للحقيقة المطلقة، ومن ثَمَّ تبزغ البشرية العلمانية الكوكبية.

على الفلاسفة الذهاب إلى الأسواق الجديدة التي أفرزتها الثورة العلمية والتكنولوجية وهي القنوات القضائية حيث الملايين من رجال الشارع في انتظار علمنتهم حتى يتمثلوا تلك الثورة من أجل التحرر من السجن الأصولي الذي دخلوه بلا وعي من قِبل السجان الحارس للحقيقة المطلقة، ومن ثَمَّ تبزغ البشرية العلمانية الكوكبية.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا