رجل الشارع

0

د. مراد وهبة

في عام 1983 صككتُ مصطلح “رجل الشارع” باللغة الإنجليزية mass man في سياق مؤتمر فلسفي دولي عقدته في القاهرة تحت عنوان: «الفلسفة ورجل الشارع». وفي 6/7/2024، أي بعد نحو أربعين عامًا، نشرت صحيفة «الأهرام» في إحدى صفحاتها على هيئة مانشيت: «رجل الشارع يرأس الحكومة». ثم فصّلت هذا المانشيت على النحو الآتي: «بعد أن حقق حزب العمال البريطاني فوزًا ساحقًا في الانتخابات العامة، يستعد المحامي والسياسي البريطاني كير ستارمر لأن يصبح رئيسًا لوزراء بريطانيا وهو أشبه برجل الشارع ودائمًا ما يردد أن جذوره متوغلة في طبقة العمال، فقد كان والده يمتهن الخراطة في أحد المصانع بينما عملت والدته ممرضة». وإذا كان قد قيل إن الفلاسفة هم حراس الديمقراطية فإن هذا القول لم يعد له أي معنى، وبالتالي يصبح مصطلح النخبة بلا معنى، ويتبع ذلك أن تكون الثنائية القائمة بين النخبة ورجل الشارع بلا معنى هي الأخرى. والطريف في هذه الثنائية أنه كان يتردد في مصر في الأربعينيات من القرن العشرين مصطلحان هما: «الأليط» بمعنى المتكبر و«أولاد الشوارع»، وكانت الأولى تقال للمديح، وأغلب الظن أنها من أصل إيطالي أو فرنسي، أما الثانية فهي منقولة عن اللغة العربية الدارجة. وفي هذا السياق، كانت تشيع في كل من المدينتين: الإسماعيلية وبورسعيد هذه الثنائية بين حي العرب وحي الفرنجة، وكانت تقال على سبيل تقرير واقع وليس على سبيل الذم أو المدح.

أما اليوم، فهذه الثنائيات قد زالت أو هي في الطريق إلى الزوال وحلت محلها ثنائية مغايرة وتكمن في التمييز بين البنية التحتية التي تتكون من الشوارع والكباري والكهرباء والمياه، وبين البنية الفوقية التي تكمن فيما يسميه الرئيس عبد الفتاح السيسي في عبارته القائلة: “بناء الإنسان المصري”، وهي عبارة خالية من أي ثنائية وتتمثل في مصر الجديدة التي عند مدخلها تمثال هيباتيا. والسؤال اللازم إثارته هنا هو على النحو الآتي: لماذا هيباتيا من دون غيرها؟ أو في صياغة أخرى: ماذا فعلت أو ماذا ارتكبت حتى يكون انتقاؤها مشروعًا؟ والدها تيون من علماء الرياضة اهتم بتربيتها في سياق التراث اليوناني، ومن هنا أصبحت رئيسة الفلسفة الأفلاطونية التي تأسست في الإسكندرية. وكانت تدرس أفلاطون وأرسطو.

ومن هنا يقال عنها إنها امرأة نادرة في تاريخ الفلسفة فيما قبل العصر الحديث. وهي لا تُذكر إلا في سياق بشاعة الموت، إذ كبلها نفر من الرهبان وأحرقوا جثمانها، وتم ذلك في عام 415 ق.م. وقال عنها الفيلسوف الإنجليزي من القرن العشرين برتراند رسل في كتابه المعنون “تاريخ الفلسفة الغربية”: “لم تعد الإسكندرية موضع رعب من الفلاسفة”، وبعدها دخلت في العصور الوسطى حيث امتنع الفكر الناقد لمدة ألف عام. ولم ينتبه أحد إلى هيباتيا إلا في القرن الثامن عشر المسمى بعصر التنوير.

ومن هنا يمكن القول إن تمثالها عند مدخل العاصمة الجديدة لمصر رمز لدخول مصر في عصر تنوير جديد يتسم ببناء الإنسان المصري، حيث لا تمييز بين المواطنين أيًا كانوا. وإذا حدث وتم ذلك فلن تكون بعد ذلك أي قسمة ثنائية. ومع ذلك، فإن ثمة تصميمًا على الإبقاء على هذه القسمة وذلك بصدور مجلة نسائية تحت عنوان ” هيباتيا”، وكانت في بداية صدورها محكومة برئيسة واحدة للتحرير، ولكنها ابتداء من أول يوليو من عام 1998 أصبحت محكومة بفريق من المحررات لتدعيم الفلسفة النسوية. وفي هذا السياق، أظن أن ثمة خطأ جسيمًا قد ارتُكب بأن تظل هذه المجلة معبِّرة عن الفلسفة النسوية في حين أن رسالة هيباتيا لا علاقة لها بأي دعوة نسوية. وعندما قُتلت لم تُقتل كامرأة إنما قُتلت بدعوى أنها أفسدت الديانة المسيحية بمزجها بالفلسفة الأفلاطونية. وكذلك كان سقراط، إذ إنه لم يُعدم لأنه رجل إنما أُعدم لأنه يفسد عقولًا، سواء كانت عقولًا تنتسب إلى رجال أو نساء.

ومع ذلك، يبقى سؤال: ماذا بعد رجل الشارع؟ أظن أنه لن يكون إلا إنسان كوكب الأرض ومن ثَمَّ تختفي الصراعات بين البشر، ولا يبقى إلا صراع واحد هو الصراع من أجل المحافظة على سلامة كوكب الأرض. وإذا تمت هذه المحافظة فإن هذا الإرهاب الذي يفرزه الآن كوكب الأرض والمتمثل فيما يُسمى بالاحتباس الحراري قد ينتهي ونعود من جديد إلى الاهتمام بما كان قد فعله كل من السفسطائيين ومعهم سقراط في إنزال الفلسفة إلى الأرض، ولكن مع الإفادة من المنجزات العلمية المعاصرة.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا