استوقفتني صورة لأحد دكاكين البقالة القديمة ذات الباب الخشبي العتيق وتلك المساحة الضيقة التي يطل منها رأس “البقال” المُسن الهادئ الذي تتسم ملامحه بالطيبة وعلى يمينه فاترينة صغيرة (أو هي نملية عتيقة حاوية للأكل) بها بعض الحلوى للأطفال وطبق به قطعة “جبن أبيض” وآخر به “حلاوة طحينية” لبيع التجزئة من أجل ترضية كل الزبائن في جميع ظروفهم.
عرضت الصورة على صفحتي الفسبوكية مُناشدًا الأصحاب والأحباء التعليق بالإجابة على سؤال: “كان اسمه عم إيه في شارعكم؟”
ولفت نظري أنه بمجرد عرض صورة الدكان وخلال دقائق معدودة كان هناك تفاعل لأكثر من مائة صديق متذكرًا اسم عم فلان في منطقتهم.. من بين هؤلاء كُتَّاب وأصحاب رأي وأساتذة جامعات وفنانون وغيرهم بتخصصات متباينة.. جمعتهم سعادة أن يتذكروا تلك التفاصيل الحياتية مع عم فلان، وقام بعضهم بكل حماس بوصف عمهم فلان وشكل تعامله معهم..
إنه “الحنين إلى الماضي”.. إنه السر الغريب وراء سعادتنا عند زيارة البيت الأقدم والغرفة الأقدم وصور الأجداد على الحوائط القديمة وألبوم صور الطفولة وأحباب زمان.. ولا نتذكر، بل ونرفض أن نتذكر، أي هموم أو مآسي مرت بنا في الماضي المُستدعى بحنين جارف ..
لقد حدَّثنا منذ أكثر من ألف عام “عبد الله بن المقفع” حزينًا على الفضيلة التي باتت تنتحب، والشهامة والمروءة اللتين غادرتا زمانه، فقال: “إن أهل الزمان الذي مضى أخذوا معهم القيم الراقية والأخلاق الحميدة، وإن الأجيال الجديدة لا جدوى منها ولا فائدة، فهي لا تعترف بالالتزام الخلقي أو احترام الكبير، كما أنهم يرفضون النصيحة، ويتصرفون برعونة.” كان هذا مضمون كلام “ابن المقفع”، وقد مضت عليه قرون عديدة، وما زال كل جيل يكرر نفس المقولة ويتحدث عن ذات الأمر.. وفي أيامنا يردد البعض قول الشاعر: “رُبَّ يوم بكيتُ منه، فلما مضى بكيت عليه.”
يذكِّرنا المفكر الكبير د. مصطفى الفقي، بتداعيات تلك الحالة من الحنين لتفاصيل الماضي متعجبًا: “إن كل جيل يزعم لنفسه مزايا على حساب الجيل اللاحق، فيقف الأب أمام ابنه متباهيًا بتفوقه الدراسي والتزامه الأخلاقي، ويعلم الله أن الأب كان طالبًا فاشلًا، ولم يعرف الالتزام يومًا، ولكنه إدراك يتقمص البشر بغير حق، ويجعلهم يتحدثون عن أوهام لا وجود لها وأفكار هي محض خيال، وكل جيل يتصور نفسه أنه هو الجيل المعلم الذي يُرسِي القواعد ويصنع التقاليد ويربي الأجيال التالية وفقًا لأحلامه أو أوهامه إذا شئنا الدقة. وللإمام على، مقولة خالدة يدعو فيها إلى أن نربي أولادنا لغير زماننا، وهذه فلسفة ذلك الحكيم الذي ترك تراثًا ثريًا من الحكمة الخالدة والفكر العميق.
لقد ألقت دراسة جديدة بالضوء على فائدة الشعور بالحنين للماضي، وتوصلت إلى أن هذا الشعور لا يحبسنا في الماضي، بل هو في الواقع يرفع من معنوياتنا وشعورنا بالحيوية.
وقد نُشر أنه في العديد من التجارب التي أُجريت عبر الإنترنت وفي المعمل، عندما حث الباحثون المشاركين في التجربة على الاستغراق في التفكير في الماضي من خلال كلمات الأغاني العاطفية أو الذكريات، شعر المشاركون بإحساس أكبر بالاستمرارية الذاتية جرى قياسه وفقًا لمؤشر مُعتمد يطرح على المشاركين أسئلة تقيس مدى شعورهم بالارتباط بالماضي، والجوانب الجوهرية من شخصياتهم التي لم تتغير بمرور الزمن. وقد أوضح كونستانتين سيديكايدس –عالِم النفس في جامعة ساوثهامبتون في إنجلترا، والمؤلف الرئيس للدراسة التي نُشرت مؤخرًا في دورية “إيموشن “Emotion– هذا الأثر في دراسة أجراها في عام 2015. ولكن في هذه الدراسة، وجد الباحثون أن الشعور بالحنين للماضي يعزز من الإحساس بالاستمرارية الذاتية عن طريق زيادة الإحساس بالترابط الاجتماعي؛ إذ إن الذكريات العاطفية غالبًا ما تضم أحباءنا، وهو ما يمكن أن يذكِّرنا بشبكة اجتماعية تمتد لتشمل الكثير من الناس عبر العديد من الفترات الزمنية.
وقد وجد الباحثون هذا النمط لدى المشاركين الأمريكيين والبريطانيين والصينيين. كما توسع الباحثون ووجدوا – باستخدام استبانات ترصد المشاعر الأخرى المصاحبة – أن الإحساس بالاستمرارية الذاتية يضفي على صاحبه شعورًا بالحيوية والنشاط والمعنويات المرتفعة.
وقد لاحظ تيم وايلدشوت –أحد المشاركين في الدراسة من جامعة ساوثهامبتون مع سيديكايدس– أن هناك الكثير من الطرق التي يشعر الناس من خلالها بالحنين للماضي؛ ومنها النظر إلى الصور، أو طهي وجبات معينة، أو مشاركة قصص الذكريات، أو عزف الموسيقى. ويصف وايلدشوت هذا الشعور الذي نمر به بصورة طبيعية عدة مرات في الأسبوع بأنه “استجابة مناعية نفسية تحدث عندما تواجهك بعض عقبات الحياة.” لذا إذا شعرت بأنك مضطرب قليلًا في موسم الأعياد، فاصطحب نفسك في رحلة إلى الماضي مستعينًا بألبوم صور الذكريات..
يقول الخبراء إن الحنين إلى الماضي (النوستالجيا) هو آلية دفاع يستخدمها العقل لرفع المزاج وتحسين الحالة النفسية، ولذا فإنها تكثر في حالات الملل أو الشعور بالوحدة خاصةً عند كبار السن، أي عند شعور الإنسان بأن حياته فقدت قيمتها وأصبحت تتغير للأسوأ، فيقوم العقل باستدعاء ذكريات الماضي الطيبة بدفئها، فتعطيه تلك الذكريات الدفعة التي يحتاجها للتعامل مع التحديات الحالية، فكما يقولون فإن الماضي هو قوت الأموات، فالنوستالجيا هي مورد نفسي يستعين به الناس ليستعيدوا حياتهم ويشعروا بقيمتهم، وهي من السبل الناجحة في صد الاكتئاب وقتيًا، حيث تشعر بأن حياتك البائسة كانت ذات قيمة يومًا ما.