ضاقت الأفواه على التفوه كما تأففت الألسنة عن التلاسن، إذ كيف للكلمات أن تسبح بانسياب تردداتها في فراغ الأثير، وقد ضاق الكون في اتساع على ذرات هوائه!!!
هل هو شموخ للجفاف أم انتكاس للتندي فلقد اتسعت وتداركت الهوة بين تعايش الكائنات لحياتها وبين حياة الموجودات في تعايشها، هي على أرض قد ترفعت عن مياهها احتواءً وعن رطوبتها تأطرًا، إلى انقلاب الطبيعة وانفلاتها عن طبيعتها نحن ذاهبون، أم سوف نتخلى نحن عن أنفاسنا؟! فلم تبصر وتبتصر الأعين لقطرات التبلل سوى لأبداننا وقتما صدحت وتعالت جزيئات تعرقها حين الشموخ وحين التشامخ كون صيرورته – العَرَقْ – وحيدًا في ذي الوجود تواجدًا. فلقد خمد الكل ذاته بنفسه وألقت النفوس حتفها بذاتها وها هو الكل وقد صار بدائرة العدم سائرين! أين نسمات النسيم باتت؟ وأين هواء التنفس صار؟ فلقد خفتت ومضات مقومات العيش أرضًا وأمست حرارة الشمس في أوج سعيرها هي العالية المستعلية الكائنة أعلى الكل والمتفوقة فوق الجميع!!!
عجبي على كائنات عاقلة وعواقل كائنة، استراحت بهم الإرادة سَكنًا وراحةً ومرتعًا، فجنحوا بها في مهب ريح السوء، وأخذوا يعبثون بمحيطهم حتى تأفف الأفق وبات كل ما هو تحت مرأى البصر وخارجه أيضًا ينفث تهددًا بل نارًا انتشبت ألسنتها مخترقة الأجساد بل كل ذرات الأرض بمختلف المواد وشتى ما يشغل حيزًا من الفراغ، احتبست الأنفاس خلف قضبان لا مرئية حين احتبست ولدان الشمس وبناتها من حر وحرارة واحتراق، قاسمين ألا يبرحوا الأرض بعد حسن ومحاسن استقبالهم من غازات قد صنعها الإنسان بيديه، فدمرت تلك الأيادي وكل ما هو ملتصق بها من أعضاء حتى أصبح البشر وشركاء تعايشهم أرضًا قابعين قرب الخط الفاصل بين الحياة واللاحياة! فهل من منقذ؟ وهل من وسيلة للخلاص مما يعاينه أحياء الأرض بأم أعينهم وهم يعانون منه أشد المعاناة؟! ياليت المخلص يأتينا سواء من آفاق السماء وجودًا كان أو حتى من قاع الجحيم تواجدًا، فهل يأتي إلينا أم غير ذلك هو ما سوف يكون؟
لكن ربما كان لمرأى ورأى العلي رسائل قلما فهم الكثيرون مغزاها، وربما كانت لبصيرة الخالق والباري – الله – حكمة ما أقل العقول التي فهمتها أدراكًا وادركتها تفهمـًا، فما أكثر الأرواح الكامنة بداخل أجسادها المعبرة عنها تعلقًـا بالحاضر، وما أبخس وأرخص الأثمان التي شخصت إليها الأعين المتكلمة عن النفوس الملتاعة لما هو مصيره الفناء وعدم البقاء، وحين تنوعت سبل الوصول إلى المآرب والأهداف، متخذة في ضرب عرض الحائط طريقا للتحقيق ودربـًا للبلوغ، إذ تكاثر الشر وتكاثرت الذنوب؛ كانت إحدى لمحات النار الأبدية – جهنم – هي ردعًا لبواطن البشر وأفعالهم المعبرة عنها، كما درسًا لمن أراد التخلي عن انسانيته في حنوها والارتماء بين أحضان و ساحات الوحشية في نهج توحشها ومنهاج استوحاشها. وهكذا كان ل الله أن يستخدم ما اقترفه الانسان من دمار لتقويمه وتوبيخه وتصحيح سلوكه ومساره.
فهل لنا الرجوع إلى أنفسنا قبل رجوعنا إلى الله؟! أم أن رجوعنا إلى الله هو الرجوع إلينا ولأرواحنا؟ أيًا كان صواب المعتقد وصحيح الأسبقية من الطرق والقرارات؛ فليس لنا سوى الرجوع إلى أنفسنا والله معًا، حتى العودة إلى طرائق الاستقامة فيما نعمله ونصنعه، فيستقيم معنا نتائج ونتاج ما نضع به وفيه وعليه أيادينا، ونعي الحياة كلمة ومعنى بل اختبارا وتعايشا، وهكذا نشعر بتواجدنا وبمن حولنا، ويشعر بنا حولنا كما أنفسهم سواء بسواء. فهل للحلم عن دون تحقق وتحقيق شيء في ذلك، أم أن للواقعية النصيب والقسمة الأكبر على الكل؟ نستجدي الإفاقة من واقع هو فظ وقاس، والصحو على واقع آخر ومغاير لذلك.