في البداية أتقدم بالتعازي والمشاركة القلبية الصادقة، باسمي ونيابة عن عائلتي وكنيسة الحصاد الأخير واتحاد الشباب المسيحي، وعن مجلس إدارة وتحرير جريدة الطريق والحق والعاملين بها، لأسرة المنتقل إلى بيته الأبدي الرجل العظيم، الوالد والراعي والأخ والمدبر والمقدام الدكتور القس سعيد إبراهيم. ولكنيسة الإيمان بفيكتوريا ومجمع كنائس الإيمان بمصر.
ويطيب لي في هذا المقام أن أسرد بعض الذكريات الشخصية معه والتي ربما لا تعرفها حتى أسرته نفسها لحدوثها، قبل أن يتزوج الأخت الفاضلة فوزية، الأم الحكيمة والمعينة الحقيقية لزوجها والتي تنطبق عليها تمامًا كل ما دون من أوصاف عن المرأة الفاضلة الواردة في سفر الأمثال والأصحاح ٣١.
بدأت معرفتي كطفل بالقس سعيد في عام ١٩٦٤وكنت يومها بالتاسعة من عمري، كان أبي أحد الشيوخ العاملين بكنيسة الإصلاح، الإيمان، بالسويس، كنت مواظبًا على حضور اجتماعات الكنيسة كلها حسب تعليمات أو قل أوامر والدي بوجوب حضور الكنيسة والجلوس بجانبه طيلة الاجتماع دون حركة أو كلام، حتى أثناء العظة التي كانت في الكثير من الأحيان صعبة الفهم عليَّ وفي أحيان أخرى كثيرة مملة بالنسبة لي كطفل لا يدرك الكثير مما كان يقوله الوعاظ على المنبر، لكنني كنت أحب الترنيم جدًا ولذلك لم يكن الذهاب إلى الكنيسة عبئًا بالنسبة لي، حيث أنني كنت أسير في موكب الأسرة أينما كانوا يذهبون.
كان الخدام والقسوس الذين يزورون كنيستنا كثيرين، وكان بيتنا هو المضيفة التي ينزلون بها أو على الأقل يزوره كل الخدام الضيوف على الكنيسة مع اختلاف أنواعهم وطوائفهم.
جاء خادم الرب سعيد إبراهيم ليخدم بكنيستنا بالسويس، وقام بزيارتنا في البيت، كان أبي معجبًا به ويحبه كثيرًا جدًا، في زيارته لنا كنت كصغير جالسًا معه ومع عدد من الإخوة والأخوات جاءوا إلى بيتنا لقضاء وقت مع ضيفنا الكريم، سمعته يتكلم عن واحد من اختباراته أثناء خدمته في الجيش المصري ومازلت أتذكر كلماته التي شدتني كصغير السن لأسمعها بكل إنصات، قال القسيس سعيد: “كنت راكعًا في خيمتي أصلي وأنا بالجيش، كان الشاويش المسؤول عن تدريبنا متعصبًا دينيًا، وكثيرًا ما كان يضايقني بكلامه وأوامره، جاء هذا الشاويش إلى الخيمة وأنا على الأرض راكع رافع يدي، أصلي للرب بصوت مسموع، ووقف على باب الخيمة وصرخ بأعلى صوته قائلاً: “سعيد إبراهيم انتباه، ثابت!”.
عندما وصل القس سعيد إلى هذا الجزء من روايته، ساد صمت بتحفز على كل الجالسين في الغرفة وكأن انفجارًا على وشك الحدوث، الجميع كانوا ينظرون إليه ليعرفوا ماذا كان جوابه على الشاويش، كنت أنا أيضًا كصغير أصغي إليه بكل حواسي لأعرف ماذا فعل بعد سماعه هذا الأمر من الشاويش.
أكمل القس سعيد ما حدث معه وقال: “رفضت الأمر العسكري والقيام من مكاني وإنهاء صلاتي، وقلت لنفسي أنا لن أقوم من أمام ملك الملوك ورب الأرباب تلبية لأمر هذا الشاويش أو غيره من البشر، حتى لو كان قائد المعسكر نفسه، فلم أتحرك من مكاني ولم أخفض يدي ولم أرفع رأسي او أفتح عيني واستمريت بالصلاة بصوت عال، كما كنت أفعل قبل أن يأتي إلى خيمتي هذا الشاويش. صرخ الشاويش مرة أخرى بصوته المرتفع، يا عسكري سعيد: انتباه ثابت وقم أقف، قال القسيس فاستمريت في الصلاة، قال الشاويش: عسكري سعيد أنت منتظر مكتب لتكسيرك الأوامر العسكرية. لم ألتفت إليه وكأن شيئًا لم يكن!
عند هذا الحد، بدأ الحضور بالكلام وسأله كثير من الحاضرين وهم متعجبون، فمن قائل، هل أخذك هذا الشاويش للقائد، ومن قائل: معقول هذا الكلام تكسر الأوامر العسكرية، لأنك كنت تصلي في الجيش، ومن قائل، لا، لا، المفروض كنت تجيب الشاويش وبعدها تصلي، والبعض كان يضحك ويبتسم. سأله والدي: وهل فعلاً دخلت مكتب وقابلت القائد؟ أجاب جنابه: “نعم” وأكمل: سألني القائد: لماذا لم تطع أمر الشاويش عندما ثبتك ولم تقف انتباه؟ قال أجبته: “يا سيادة القائد، أنا كنت أصلي وأتكلم مع الله، ملك الملوك ورب الأرباب، عندما جاء الشاويش وأعطاني الأمر بالثبات والانتباه، فكيف يمكنني أن أنهي كلامي وأتحرك من مكاني أمام الله الملك لتلبية أمر الشاويش؟!”.
أكمل جنابه وقال: نظر إليّ القائد طويلاً محتارًا ماذا يفعل معي، ثم قال لي انصراف يا عسكري، المرة الجاية إن لم تطع الأوامر، سأضعك في السجن. ضحك كل الحاضرين وأعطوا المجد للرب الذي دافع عن ابنه الذي قرر أن لا يترك محضره، حتى تحت تهديد السلطات الحربية الأرضية. ثم قال القسيس: نعم أنقذني الرب في تلك المرة من التكدير والعقاب، لكن الحقيقة إنه لم تكن هذه هي المرة الأولى أو الأخيرة التي أرفض فيها تنفيذ مثل هذه الأوامر الشيطانية، ففي أكثر من مرة كان تليفون مكتب القائد يرن، وعند إجابتي على الطالب كان يطلب مني الحديث إلى قائد المكتب، فاذهب إليه قائلاً: سيادة القائد، فلان الفلاني على التليفون ويريد الحديث معك، فيجيبني القائد قل له إنني لست متواجدًا في المكتب، عندها كنت أعتذر وأقول له متأسف، أنا لا أستطيع أن أقول إلا الحقيقة، وإن أجبرتني سيادتك على قول هذا الجواب، سأقول للطالب إنك أنت الذي أمرتني وقلت لي أن أبلغه أنك لست متواجدًا، وعندها كان القائد يرسل عسكريًا آخر غيري لعمل هذه المهمة.
كان الحاضرون ينفجرون في نوبة من الضحك والإعجاب بقسيسنا العزيز وبتمجيد الرب لأن له شهودًا أمناء حتى في صفوف القوات المسلحة المصرية، كان الحضور أيضًا يلتهمون كلامه ويفرحون باختباراته.
كان ما يميز راحلنا الكريم أنه يتكلم من قلبه ولا يحاول أن يجعل من نفسه بطلاً، مع أنه كان بطلاً كبيرًا في الرب، فأراد في نفس الجلسة أن يفهم الحاضرين أنه لم ينجُ في كل مرة من عقاب القائد على امتناعه عن تنفيذ أوامره، قال جنابه، كثيرًا ما رفضت أن أحضر علبة السجائر للقائد أو حتى ألمسها بيدي، للدرجة التي معها أنه في مرة من المرات حكم عليّ القائد بالسجن لمدة أسبوع بعد أن حلق لي رأسي تمامًا من الشعر، وأوصى الشاويش بتكديري زحفًا على يدي وركبتي، وجريًا في ذروة حر الصيف الشديد، حاملاً مهمات الجيش الخاصة بي لامتناعي عن إحضار علبة سجائر له من الكانتين، لكني في كل الأحيان، حتى في سجن المعسكر، كنت سعيدًا وفرحًا لأنني لم أطع أمر القائد وأغضب إلهي.
لقد ذكرتني هذه القصة، وأنا أكتبها الآن، برجل آخر من أبطال إيمان العهد القديم، يشبه إلى حد كبير جدًا راحلنا الكريم وله نفس الشجاعة والتدقيق في حياته السرية والعلنية، رجل عاش طيلة حياته متحديًا للأوامر الملكية غير الكتابية الإلهية، فتارة يرفض أن يأكل من أطايب الملك وخمر مشروبه، وتارة يرفض أن يكف عن الصلاة العلنية لله أمام جميع الناس، حتى بعد أن علم أن الوزراء والمرازبة في مملكة سبيه “كانوا يطلبون علة يجدونها عليه من جهة المملكة، فلم يقدروا أن يجدوا علة ولا ذنبًا لأنه كان أمينًا ولم يوجد فيه خطأ ولا ذنب…. إلا من جهة شريعة إلهه. حينئذ اجتمع هؤلاء الوزراء والمرازبة عند الملك وقالوا له هكذا “أيها الملك داريوس عش إلى الأبد. إن جميع وزراء المملكة والشحن والمرازبة والمشيرين والولاة قد تشاوروا على أن يضعوا أمرًا ملكيًا ويشددوا نهيًا بأن كل من يطلب طلبة حتى ثلاثين يومًا من إله أو إنسان إلا منك أيها الملك يطرح في جب الأسود. فثبت الآن النهي أيها الملك وامض الكتابة لكي لا تتغير كشريعة مادي وفارس التى لا تنسخ. لأجل ذلك أمضى الملك داريوس الكتابة والنهي، ولما علم هذا الرجل بإمضاء الكتابة، رفض بإصرار الأمر والنهي الملكي، ورفض أن لا يصلي علنًا أمام الجميع، فذهب إلى بيته وكواه مفتوحة في عليته نحو أورشليم، فجثا على ركبتيه ثلاث مرات في اليوم وصلى وحمد قدام إلهه كما كان يفعل قبل ذلك”. ذلك هو دانيال الرائي الذي كان من النبيين.
ليتنا نتعلم جميعًا كبارًا وصغارًا من قسيسنا الغالي سعيد إبراهيم، كيف نواجه القرارات الملكية والرئاسية الطائشة غير المسؤولة والتي يختفي وراءها عدو الخير، الشيطان بنفسه، فنحيا الوحي الإلهي كما ينبغي لنا أن نحياه، مصرين على المبدأ الكتابي أنه ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس، ولا صوت يعلو فوق صوت المكتوب والمرسوم الإلهي المدون في التوراة والإنجيل والكلمة النبوية التي هي أثبت، لا صوت ملك أو رئيس أو مرؤوس مهما كان قدره وسلطته، ومهما كانت قساوة بطشه بمقاوميه ومعارضيه والمخالفين لأوامره، حتى لو انتهى بنا الأمر بإلقائنا في جب الأسود كما حدث مع دانيال، أو أتون نار محمى سبعة أضعاف، كما حدث مع شدرخ وميشخ وعبد نغو، عالمين أن لنا إلهًا على استعداد أن يرسل ملاكه ليسد أفواه الأسود، ويأتي بنفسه متجسدًا بشكل أو آخر كالرابع الشبيه بابن الآلهة، ليجعل من لهيب النار بردًا وسلامًا وليتمشى معنا في الأتون، فلا تستطيع الأسود الجائعة أن تضرنا أو تثنينا عن عزمنا، ولا يستطيع لهيب النار المستعر أن يترك حتى رائحته على ثيابنا، بل سيستخدم القادر على كل شيء لهيب النار ليكون سببًا في فك قيودنا، وانبعاث رائحة الحياة المنتصرة الغالبة في المسيح يسوع، وستؤدي لانطلاقنا بقوة الله إلى رحب لا حصر فيه.
وحسب ما رأيته في راحلنا الكريم، فإنه لم يكن يعظ فقط عن دانيال والرجال الثلاثة، بل عاش حياتهم جميعًا، فأنجز ما لم يستطع غيره أن ينجزه، وكسر الرقم القياسي لأي من سابقيه في تأسيس الكنائس بأرض مصر، وخاصة في تلك الظروف القاسية غير العادلة التي كانت ولا زالت تحيط بنا كمسيحيين مصريين والتي نعرفها جميعًا دون الحاجة للدخول في تفاصيلها.
ولهذا الإنجاز الكبير، يتعجب كل الشعب المسيحي الإنجيلي والخدام في ربوع مصر وأنا منهم، كيف استطاع القس سعيد أن يؤسس أكثر من ٦٠ كنيسة لمجمع كنائس الإيمان، وكلنا يعلم وهذا ليس سرًا، ولا ينبغي أن يتضايق أحد من المسؤولين، كبارًا وصغارًا، عن شئون الكنائس في مصر فهذه هي الحقيقة المرة، أن الحصول على ترخيص بفتح مقهى يلهو بها الناس أو ملهى ليلي كان ولا يزال أسهل كثيرًا جدًا من الحصول على تصريح بفتح كنيسة جديدة أو قديمة تم إغلاقها لسبب أو لآخر، فمهما كانت الطريقة التي اتبعها الدكتور القس سعيد لغرس هذه الكنائس في جمهورية مصر العربية الإسلامية، فلابد أنها انطوت على إنفاق الكثير من الأموال والتضحيات والمباحثات والمناقشات والصراعات والمجهودات وفوق الكل الأصوام والصلوات والتضرعات لرب السماوات، وما من شك أن وجه راحلنا الكريم كان مثبتًا كوجه نبي الله دانيال لا إلى مدينة أورشليم الأرضية بل نحو أورشليم السماوية، متحدثًا للمسيح يسوع صاحب المعجزات والاستجابات، لأنه رب الأرض والسماوات، حتى يستطيع أن يحقق هذا العمل الجبار.
فيا ليت رؤساء المذاهب الإنجيلية المصرية الذين يتباكون على كنائسهم المغلقة، أو مازالت غير مرخصة أو مصرح لها بأن تعقد بها صلوات وتضرعات للقادر على كل شيء أن يكفوا عن البكاء والنحيب والشكوى وتقديم الطلبات والتنازلات والبحث عن المعارف والوسطاء وتقديم الرشاوي والإتاوات لمن لهم الأمر في الأرض، غير عالمين أن أمر إنشاء الكنائس الكتابية الحقيقية التي تنادي فعلاً بحق الإنجيل الكامل ليس لدى رئيس أو ملك أو سلطان أو إمبراطور مهما كان اسمه أو كانت وظيفته، بل مع رب السماوات والأرض وحده بصفته رأس الكنيسة ومخلص الجسد. وليتهم يدرسون حياة هذا الرجل الراحل العظيم وكيف كان يصلي ليحصل على كل هذه الاستجابات ليحقق كل هذه الإنجازات، وليسيروا على خطاه من تقوى وقداسة وصلاة ومحبة وقوة وشجاعة ووقوف في الثغر عن كنيسته وعن الكنيسة العامة في مصر في مواجهة الكثير من أعداء الله وصليب المسيح، وأعداء الصلاة له والعبادة لشخصه سبحانه، في مباني كنائسه.
وما من شك إن الله القدير الفاحص القلوب والمختبر الكلى قد أعطى راحلنا الكريم الغالي، الرؤية الثاقبة الصائبة والرأي الممكن، فمكنه من القيام بهذا العمل الجبار، وزرع وانتزاع هذه الكنائس من فم الأسد والدب، وحفظه سالمًا سالمًا لأنه على إلهه قد توكل، وفقًا لما نصه الكتاب المقدس، “ذو الرأي الممكن تحفظه سالمًا سالمًا لأنه عليك متوكل” ووفقًا للحقيقة الكتابية “إذا أرضت الرب طرق إنسان جعل أعداءه أيضًا يسالمونه”، وأمره تعالى الكتابي: “اوسعي مكان خيمتك ولتبسط شقق مساكنك. لا تمسكي. أطيلي أطنابك وشددي أوتادك. لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار ويرث نسلك أممًا ويعمر مدنًا خربة”. فما من شك إن كان له من الإيمان والشجاعة والتضحية وبعد النظر الذي معها استطاع بقوة القادر على كل شيء أن يؤسس كل هذه الكنائس.
صفة أخرى من صفات والدنا الراحل القس سعيد إبراهيم، كانت محبة واحترام الخدام جميعًا حتى أولئك المختلفين عنه في العقيدة والإيمان والآراء والأفكار، وعدم الحديث عن أي منهم بصورة سلبية مهما اقتضى الأمر ذلك. في نهاية سنة ١٩٦٧ هاجرنا كعائلة من السويس إلى القاهرة، وانتهى بنا المقام إلى السكن بجوار مدرسة رمسيس الإعدادية بشبرا بالقرب من شارع أحمد حلمي، كان أخي الذي يكبرني بثلاث سنوات ونصف قد تعرف على مجموعة شباب من كنيسة المسيح بشبرا برعاية القس سامي لبيب، يومئذ، وقبل أخي الرب هناك مخلصًا شخصيًا له في كنيسة المسيح وانتظم بها، وهكذا ذهبت كل العائلة لحضور الكنيسة معه. جاء القس سعيد لزيارتنا في البيت، وأخذ يتكلم مع والدي عن الأيام الجميلة التي زارنا بها في السويس، وعن قسيسنا الغالي، أطال الله عمره، القس فهيم إسكندر، الذي كان قد سافر إلى أستراليا، ثم سألنا عن أية كنيسة كنا نحضرها يومئذ، قلنا له كنيسة المسيح بقبة الهواء، أفاض الرجل في مدح القس سامي لبيب، وكنيسة المسيح، وقبل مغادرته قال لوالدي أنا مطمئن عليكم الآن مادمتم تحضروا عند القس سامي. لكن لا تنسوا أنكم من كنيسة الإيمان أيضًا، فتعالوا زورونا حسب ما تسمح أوقاتكم وظروفكم، ضحكنا كلنا معه. كنا بين الحين والآخر نقوم كأسرة بحضور كنيسة الإيمان بميدان فيكتوريا وخاصة في الاجتماعات الانتعاشية والنهضات التي كان يعظ بها هو أو بعض رجال الله الآخرين.
منذ أكثر من ثلاث سنوات سمعت أنه والفاضلة زوجته في زيارة لكاليفورنيا وأنهم يقيمون في بيت ابنتهم الفاضلة الدكتورة إيڤلين وزوجها خادم الرب الأخ ثروت فهمي، قمت بالاتصال به وطلبت منه شرف زيارتي في منزلي وكنيستي الحصاد الأخير بمدينة الكهون بمقاطعة سان دييجو، سألني كم هي المسافة بين الكنيسة والبيت الذي يقيم فيه، قلت له المسافة ليست بعيدة، ١٤٠ كيلو متر تقريبًا، أجابني وكيف ستدبر أمر مجيئنا ورجوعنا، قلت بسيطة جدًا سآتي في الصباح لآخذكم وأرجع بكم في المساء، حاول الاعتذار نظرًا لبعد المسافة بين بيتنا وبيت إقامتهم، قال المشوار سيكون صعبًا عليك أن تسوق ٦٠٠ كيلو متر في يوم واحد، لتأتي وتأخذنا من مكان إقامتنا ثم تأتي مرة أخرى لتوصيلنا وترجع إلى بيتك متأخرًا في المساء، يكفيني أنني اطمأنت عليك أنت وأسرتك والخدمة، لم تنجح محاولاته معي بأن لا آتي به إلى بيتنا وكنيستنا، وأخيرًا رضخ أمام إصراري وزوجتي على أن نلتقي به وبزوجته. قضينا معًا أكثر من ١٠ ساعات متواصلة رويت له قصة حياتي كلها منذ أن قابلت المسيح مخلصًا شخصيًا لحياتي إلى يوم زيارته لنا، وروى لي هو أيضًا اختباراته الشخصية والعائلية وإحسانات الرب له في شخصه وخدمته وزواجه وأولاده ومشروع جبل الصلاة والكنائس الكثيرة التي أكرمه الرب في تأسيسها، كان مشجعًا لي جدًا في كل اختبار وكلمة قالها أثناء زيارته لنا، قام أيضًا بالخدمة في اجتماع كنيستنا في ليلة يوم السبت الذي زارنا به. حاولت أن أباركه بشيء بسيط مما أنعم الله به علىّ في أمريكا، رفض وبإصرار وقال أنا لا أقبل أي عطايا شخصية من أي اجتماعات أعظ بها، وعند إصراري على رأيي قال لي لو الرب شاغلك بشيء ابعته لجبل الصلاة، ولم أنجح في إعطائه أية تقدمة شخصية له.
أما آخر مرة تقابلت فيها مع الراحل الكريم كانت في شهر أكتوبر الماضي ٢٠١٩ أثناء مؤتمر القادة والقسوس الذي عقدته في جبل الصلاة، عند وصولي ودخولي إلى المكان كان المؤتمرون يتناولون وجبة الغداء، قبل دخولي إلى قاعة المطعم التابع للبيت، قال لي أحد الإخوة الأعزاء المسؤولين عن المؤتمر، أنت ومن في صحبتك ستنتظر قليلاً حتى يفرغ المؤتمرون من تناول الغداء، ثم تأكلون أنت وضيوفك، لأن القسيس سعيد وزوجته هنا وهو يريد أن يتناول معك ومع ضيوفك الغداء، ثم أكمل، دعني أذهب وأعطه خبر أنك وصلت.
لم يستغرق الأمر دقائق قليلة ورأيته وزوجته قد جاءا، حيث كنت أنا وزوجتي والإخوة والأخوات المصاحبون لي، جاء بابتسامته العريضة وترحيبه النابع من القلب ثم قال لي، بالمناسبة يا دكتور ناجي أنا صحيح بآجي مرات كتيرة لجبل الصلاة علشان أقضي وقتًا في الصلاة والخلوة مع الرب لكنه لم يكن في ترتيبي أن أجئ هذا الأسبوع، لكن الإخوة قالوا لي إن مؤتمر هذا الاسبوع هو مؤتمر اتحاد الشباب المسيحي، وأنك ستكون المتكلم في هذا المؤتمر، لذلك أعطيت الخدمة للقسيس ستيڤن ابني وجئت لأحضر المؤتمر معكم. ثم قال لي، أنا طلبت من الإخوة المسؤولين عن المطعم أن يقدموا الغداء للمؤتمرين إلى حين مجيئك وبعدها نأكل نحن مع بعضنا.
كانت المائدة التي أعدها لنا الإخوة المسؤولون عن المطبخ بالمؤتمر، بطلب من القسيس سعيد، أفخر من أية مائدة أكلت بها من قبل.
وأقول الصدق في المسيح، لم يكن لا كمية الأكل ولا نوعيته هي التي كنت أقدرها بقدر ما قدرت اهتمام راحلنا الكريم بوجودي كخادم للرب من إخوته الصغار، فكم كان مجاملاً مضحيًا دون غرض أو أجندة خفية أو معلنة.
الحقيقة لم أكن أملك عندها الكلمات التي أعبر بها عن فرحتي لمجيئه إلى المؤتمر ليراني وزوجتي، قلت لنفسي، يا له من شخص مخلص، متواضع، مشجع، مملوء بالمحبة للآخرين!! هذا القس العزيز الغالي حتى يعبر عن مشاعره لي كأخ صغير له في المسيح، ويظهر لي هذه المحبة العملية، ويأتي إلى المؤتمر ليرى زوجتي وأنا، ويعد لي مائدة خاصة وينتظرني لنتناول الطعام معًا!
أجبته جناب القسيس، لا يمكنني أن أصف لك مدى سعادتي برؤيتك أنت والأخت فوزية، وأشكرك على مجيئك هذا الأسبوع لمقابلتي، لكن بالنسبة لحضورك المؤتمر، فالعفو، أنت أستاذي، وأنا المحتاج أن أجلس أمامك لأتعلم منك. فأنت على كل حال من علمتني الكثير منذ أن كنت أنا طفلاً في كنيسة الإيمان بالسويس، قال، ليس بيننا أستاذ ومتعلمون، لأننا جميعًا تلاميذ نتعلم من الروح القدس.
منذ بداية الاجتماع الأول للمؤتمر وجدته جالسًا أمامي بين القسوس مستمعًا بإصغاء لي، وليس مستمعًا فقط، بل ممسكًا بالقلم والأوراق وكان يكتب ورائي ما أقول، الأمر الذي لم يعمله نصف الخدام صغار السن الذين حضروا المؤتمر، وكلما انهيت الحديث في اجتماع من الاجتماعات جاء ليسلم عليّ سلام حار قائلاً: الله يباركك، هذا كلام مهم جدًا أن نسمعه نحن كخدام.
في النهاية، أهيب بالمسؤولين عن مجمع كنيسة الإيمان بمصر أن يكتبوا تاريخ هذا الرجل منذ مولده وحتى رقاده في الرب، ابذلوا الجهد والعرق والمال في هذا المشروع الكبير والهام جدًا، فالأجيال القادمة تحتاج أن تنظر إلى نهاية سيرة هؤلاء، رجال ونساء الله العظماء، وأن تتعلم منهم وتتمثل بهم. وبهذا فقط يتم المكتوب: “وإن مات يتكلم بعد”.
نعم لن نراك يا أخانا وقسيسنا وراعينا بالجسد فيما بعد، وسنفتقد ثمرك الذي وهبك إياه الروح القدس من محبة وفرح وسلام، وطول أناة ولطف وصلاح، وإيمان ووداعة وتعفف، لكن ثقتنا أننا سنلقاك عن قريب حول عرش المجيد الحبيب. لأنه عن قريب جدًا سيأتي الآتي ولا يبطئ. فشكرًا لك على تفانيك في عمل الرب، وشكرًا لك على تركك لنا من شخصك مثال وقدوة بها يحتذى، وشكرًا لك على كل نفس ربحتها للمسيح وعلمتها المكتوب وعلى كل كنيسة وعمل أسسته، وشكرًا لك على أسرة تركتها وراءك لتحمل المشعل من بعدك وشكرًا للرب أولاً وأخيرًا لأنه وهبنا إياك. وإلى لقاء قريب.