حكاية حب أغرب من الخيال..!!

1

بقلم الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر
نائب رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر

   مكتوب في سفر (هوشع 3: 1): “قال الرب لي أذهب أحبب امرأة.” وقعت أحداث هذه القصة في القرن الثامن قبل الميلاد مع هوشع بن بئيري، وجومر بنت دبلايم. وقد رسمت قصة حب وزواج هوشع الخطوط العريضة لنبواته، وأضفت على سفره لونًا خاصًا وطابعًا مميزًا. ونجد في هذه القصة مأساة أليمة ومعجزة عظيمة، فخيانة الزوجة جومر لعهود الزواج كارثة ومأساة لا تطاق رغم إمكانية حدوثها، لكن العجيب أن الزوج، هوشع، يغفر لزوجته سقطتها بل ويبحث عنها ويبتاعها من سيدها، ويعيدها مرة أخرى إلى بيته وإلى قلبه وحبه وثقته.

  هذه معجزة أكبر من أن يتخيلها العقل البشري، مهما وصل الحب والتسامح والوفاء في حياة أي إنسان. لقد أذهلت هذه القصة عددًا غفيرًا من المفسرين، حتى أن البعض ظن أن قصة حب وزواج هوشع مجرد حلم أو رؤيا، وأن الحلم لم يحدث والرؤيا لم تتحقق. وتخيل البعض الآخر أن هذه القصة مجرد مثل له مغزى وهدف، أو أسطورة من نسج الخيال لم يحدث. ورأى فريق آخر أن النبي هوشع تزوج مرتين، فزوجة الإصحاح الثالث ليست جومر زوجة الإصحاح الأول، لكن من الثابت أن النبي هوشع تزوج مرة واحدة من امرأة واحدة، فالزوجة في الإصحاحين واحدة هي جومر، إلا أن قصة الإصحاح الأول ترويها صيغة الغائب، أما قصة الإصحاح الثالث فيرويها صيغة المتكلم. وفي هذه القصة، نجد الكثير من المبادئ الروحية والقيم الإيمانية والدروس الكتابية التي أذكر منها الآتي:

أولًا: تنازل الحب

  في صدر سفر (هوشع 1: 2): “أول ما كلم الرب هوشع قال الرب لهوشع اذهب وخذ لنفسك امرأة زنى.” أغلب الظن أن هوشع عاش مع جومر في مستهل حياته الزوجية أيامًا سعيدة هانئة دون أن يعلم شيئًا عن الشيطان الكامن في قلبها، ولقد لقّبها الله “بامرأة زنى” لعلمه السابق بما سيحدث لها.

ويبدو أن بوادر الأزمة ظهرت في حياة الزوجة في سلوكها وتصرفاتها، وأدرك هوشع كل شيء، وأنجب في تلك الفترة ثلاثة أطفال أطلق عليهم أسماء رمزية تحمل معنى الوعيد والإنذار للزوجة بصورة خاصة، وللشعب بصورة عامة.

1.    يزرعيل، ومعناه الله يزرع.

2.    لورحامة، بمعنى لا رحمة لكم.

3.    لوعمي، معناه لستم شعبي.

ولستُ أظن أن النبي هوشع قد نجا من ذم ولوم الناس، بل أعتقد أنهم هزأوا به وسخروا منه، فكيف يربط حياته ومصيره بحياة ومصير امرأة مثل جومر. ولعلهم كانوا يتساءلون: كيف يسمح الله لنبي عظيم بهذا الأمر؟

في يقيني أن الرب أراد أن يعطي للشعب درسًا حيًا نابضًا، ليروا عواطف الإله المحب من نحو الإنسانية الخاطئة، والأمة العاصية المتمردة، كيف يرتبط بهم ويهتم بأمورهم.

أجل! فلئن كان هوشع قد تنازل في ارتباطه أو غفرانه لزوجته، فما هذا إلا صورة مصغره لما فعله الله مع الإنسان الخاطئ، فالخيانة لله هي الزنا الروحي (هو 2: 2-7). أو ليس هذا ما فعله الرب يسوع حيث أخلى نفسه آخذًا صورة عبد، ووضع نفسه حتى الموت موت الصليب؟ “لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا” (2 كو 5: 21). كل هذا من أجل الإنسان.

نعم! ففي ملء الزمان تنازل الحب، والحب صار جسدًا.

ثانيًا: ثمن الحب

  في ليلة ليلاء، عاد النبي هوشع إلى بيته ليجد أولاده ينتحبون، فقد هجرتهم الأم طوعًا لنداء الجسد، وإشباعًا لدافع أثيم.

نعم! لقد كان النبي يتمزق داخليًا لكنه لم يستسلم لليأس، ولم يبحث عن امرأة غيرها، ولم يتطرق حب الانتقام إلى قلبه، فالحب كان يملأ كيانه، فقال: “هأنذا أسيج بالشوك طريقها فلا تجد مسالكها فتقول اذهب وأرجع إلى رجلي الأول لأنه حينئذ كان خير لي من الآن” (هو 2: 6، 7). على أن أخبار جومر انقطعت عن زوجها، ويبدو أنها انحدرت إلى قاع الشر. وذات يوم كان هوشع يسير في السوق فإذا به يشاهدها بين يديّ إنسان قاسٍ، وهو يعرضها للبيع كسلعة رخيصة. وا أسفاه! هل تصل الخطية بالإنسان إلى هذا المستوى من الانحدار والمذلة والمهانة؟

نعم! “فمن يفعل الخطية” هو “عبد للخطية”، وأعتقد أن عيني جومر التقت بعيني هوشع، ولابد أنها أجهشت بالبكاء، وانسابت الدموع على وجنتيها. كنا نتوقع أن ينظر هوشع إليها بامتعاض واحتقار، أو يحاول الانتقام، لكن هوشع مكتوب عنه: “فاشتريتها لنفسي بخمسة عشر شاقل فضة وبحُومر ولثك شعير” (هو 3: 2). وهكذا نرى الحب يسامح ويغفر ويدفع الثمن.

لعل هذا يذكرنا بفادينا الذي اشترانا لا بفضة ولا بذهب بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح (1 بط 1: 19).

ثالثًا: انتصار الحب

  المحبة لا تسقط أبدًا (1 كو 13: 8)، بل إن المحبة تستر كل الذنوب (أم 10: 12). وفي قصة حب هوشع، نرى صورة مشرقة حية من صور الحب الظافر المنتصر، فنرى المارقة وقد عادت إلى بيتها، والشاردة وقد رجعت إلى أولادها وزوجها، وأضحى “وادي عخور” (وادي الإزعاج) بابًا للرجاء، وهي تغني هناك كأيام صباها (هو 2: 15). وفي الصليب، نرى أعظم انتصار للحب في التاريخ بأكمله، حيث حارب الرب يسوع الموت في عرينه فأبطل قوته ونزع شوكته، واليوم مَنْ يطهر الأثيم؟ ومَنْ يشفع في المخطئ؟! ومَنْ يكسر الفخ ويطلق الأسير من أسره؟ ومَنْ يرفع ويقيم الساقط من سقطته؟ ومَنْ يقيم المائت بسبب خطيته؟ ليس سوى البار الذي حمل خطايانا وجُرح لأجل معاصينا وسُحق لأجل آثامنا، والذي قام لأجل تبريرنا، وفي كل يوم يؤكد لنا الله أنه كلما تفاقم الإثم وازداد الشر تفاضلت نعمة القدير جدًا. “ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته” (2 كو 2: 14).

  يحكي لنا تاريخ الكنيسة عن القديس أغسطينوس، وكيف كانت حياته قبل أن يأتي للرب. لقد ضرب الرقم القياسي في الشر، وكتب في مذكراته قائلًا: “لقد علمتُ الشيطان خطايا”، لكن محبة المسيح التي تبرهنت في عمله الفدائي على الصليب، ومحبة أمه القديسة مونيكا التي ظلت لسنوات طويلة تصلي بلجاجة وبدموع للرب لكي يرجع أغسطينوس من طريق الشر. واستجاب الرب لصلاتها، وانتصرت المحبة، وأضحى القديس أغسطينوس قيمة وقامة روحية عالية، وعلمًا وعلامة، وقائدًا وقدوة، وسجل تاريخ الكنيسة اسمه بحروف بارزة مضيئة، تضيء درب الإنسانية عبر الزمان.

رابعًا: صدى الحب

إن قصة حب هوشع لزوجته هي صورة مصغرة أو باهته لمحبة الله لشعبه على مر الأزمان وفي كل مكان. ويختتم الوحي المقدس قصة وسفر هوشع بنداء الاستماع إلى كلمة الله، والتعليم منها والاستفادة بها فيقول في (هو 14: 9): “مَنْ هو حكيم حتى يفهم هذه الأُمور، وفهيم حتى يعرفها! فإن طرق الرب مُستقيمة، والأبرار يسلكون فيها، وأما المنافقون فيعثرون فيها”، وكل إنسان أمام هذا النداء إما أن يتجاوب معه ويطيع، أو يظل في عناده وإصراره على المسير بعيدًا عن الرب.

  فإذا كان الله قد أحبنا إلى المنتهى، وأحبنا حتى الموت موت الصليب. كما يقول الرسول بولس: “ولكن اللهَ بيّن محبَته لنا، لأنّه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا” (رو 5: 8).

والحقيقة أنه “ليس لأحَدٍ حُبٌّ أعظَمُ مِنْ هذا: أنْ يضع أحد نفسه لأجل أحبائه” (يو 15: 13).

ويبقى السؤال: ما هو صدى هذه المحبة؟ هل نبادله المحبة ويكون شعارنا ما قاله الرسول يوحنا في (1 يو 4: 19): “نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولًا”؟ والمحبة لا يجب أن تكون بالكلام واللسان بل بالعمل والحق (1 يو 3: 18).

فيكون برهان وصدى حبنا أن نحفظ وصاياه فمكتوب. “إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي… الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني” (يو 14: 15، 21).

  فإن كنت تحب الرب فبرهن على ذلك بطاعة كلمته وتنفيذ وصاياه، والكلمة المكتوبة تقدم لنا حياة المسيح، والمسيح الكلمة المتجسد أوضح وأدق تفسير للكلمة المكتوبة. لقد قال الرب يسوع عن كلمة الله: “فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية. هي التي تشهد لي” (يو 5: 39).

 ونعبِّر عن حبنا للرب بكراهيتنا للشر كما يقول المرنم في (مز97: 10): “يا محبي الرب، ابغضوا الشر”، فعمل الشر هو إهانة للرب، وكسر لوصاياه كما قال يوسف: “فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟”

كما يجب أن نحب الرب بأن نخدمه ونعمل على امتداد ملكوته، وهذا ما نتعلمه من قصة ظهور الرب يسوع لبطرس على بحيرة طبرية عندما سأله ثلاث مرات: أتحبني؟! “ارع غنمي”، بمعنى: أتحبني؟! اخدمني (يو 21).

ويبقى السؤال في كلمات الترنيمة الجميلة التي تقول كلماتها:

دمي الثمين قـد    أرقتُ من أجلك

فدى لكي تنجـو    من صولة المهلك

وأنت ماذا يا تُرى    فعلت من أجلـي؟!

عبرة في عبارة

– أقوال المحبة يسمعها بقوة الأصم،

– وأعمال المحبة يراها بوضوح الضرير،

– وترانيم المحبة يشدو بها الأبكم.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا