كتبتُ منذ فترة مقالًا أتحدث فيه عن المسيحي كمواطن صالح وقلتُ إن المسيحيين انقسموا تاريخيًا على ضرورة الاندماج في الحياة العامة، إلا أن الأغلبية الساحقة تجد أن حياة المسيحي هي جزء من حياة المجتمع، ومن الضروري، لا بل الواجب، أن ينخرط المسيحي في كل نواحي الحياة وأن يكون شريكًا في مسيرة البناء والإعمار. وهناك مجموعة صغيرة تجد مفهوم إيمانها في الانعزال عن الحياة العامة وعدم الاشتراك فيها أو المساهمة فيها بكل النواحي لأنها تلوث حياة الإيمان والنمو الروحي.
وذكرتُ أن القديس أوغسطينوس قال إن المسيحي هو مواطن في مملكتين: مملكة الأرض ومملكة السماء، فلكل منهما حق علينا، وعلينا أن نسعى لأن نكون حقًا مواطنين صالحين في كلتا المملكتين، فلا يجوز أن تكون واحدة على حساب الأخرى، ولا يجب أن نبالغ في الواحدة على الأخرى، بل يجب أن نسعى لأن نكون مواطنين في المملكتين. وهناك مَنْ يظن أنه يعيش في السماء متناسيًا أنه يعيش في هذا العالم، وأن له حقوقًا وعليه التزامات وواجبات يجب أن يقوم بها، وهناك مَنْ يعيش في هذا العالم بطوله وعرضه متناسيًا أن يكون أيضًا مواطنًا في مملكة السماء.
لسنا مدعوين أن ننسحب من العالم ونتركه على ما هو عليه، وهذا لا يتعارض مع التفكير في الحياة الباقية، ولأن المسيحيين كفوا إلى حد بعيد عن التفكير في العالم الآخر فقد صاروا عديمي الفعالية للغاية في هذا العالم. قال أحدهم: “صوِّب سهامك نحو السماء تُصب الأرض أيضًا وصوِّبها نحو الأرض فلا تصيب كلتيهما”، فإن الذين أفادوا العالم الحالي هم الذين كان معظمهم تفكيرهم في العالم الآتي، التلاميذ الذين قادوا العالم للإيمان كانوا ينظرون للنهاية، والذين أبطلوا تجارة العبيد كانوا مشغولين بالسماء.
إن الاهتمام بالحياة الروحية والعمل الروحي لا يجب أن يشغلنا عن المشاركة المجتمعية والاهتمام بحياتنا الأرضية. قال تشارلز فيني Finney Charles إن أعظم عمل للكنيسة هو إصلاح العالم. وفي عام 1830، قاد فيني نهضة عظيمة في مدينة “روشستر”، قال عنها النائب العام للإقليم بعد عدة سنوات إنه بينما كان يُراجع سجلات الحوادث الإجرامية في السنوات الماضية فوجد أن المدينة، التي ازداد عدد سكانها ثلاث مرات منذ النهضة، صار عدد المحكوم عليهم فيها أقل من ثلث عددهم قبل النهضة. هذا هو الأثر العجيب الذي أوجدته النهضة في الحياة الاجتماعية لهذه البلدة. كان المتجددون الذين ينتقلون من الجزء الشمالي الشرقي من الولايات المتحدة إلى جهات أخرى ويحملون معهم نيران النهضة إلى أماكن أخرى، وكانت أحياء ومناطق بجملتها تتأثر مع أن “فيني” لم يزرها بنفسه، ولكن بواسطة مَنْ استفادوا من خدمته.
والنهضة التي هزت أمريكا وأوروبا في القرن الثامن عشر لم تقتصر على الكرازة بل أدت إلى انتشار أعمال البر والإحسان. وقد كان سبب نجاة بريطانيا من الثورات الدموية كما حدث في فرنسا هو تأثير جون ويسلي في المجتمع.
وأختم بهذه الكلمات عن الكنيسة:
– الكنيسة والدولة مؤسستان خلقهما وعينهما وأقامهما الله (رومية 13: 1-4).
– الكنيسة والدولة مسئولتان أمام الله وتخضعان لسلطانه.
– كل مؤسسة لها مهام خاصة بها وليست إحداهما بديلة للأخرى.
– مهمة الكنيسة: نمو الحياة الروحية لأعضائها والكرازة بالإنجيل وهي ليست من مهام الدولة، بينما مهمة الدولة: تنظيم المجتمع وحمايته وتطبيق القانون وهي بالطبع ليست مهمة الكنيسة.
– ليس على الكنيسة أن توصي بانتهاج سياسات معينة ومفصلة.
– الكنيسة ملزمة ومؤهلة لإدانة المجتمع الذي يتصف بالشرور.
– على الكنيسة أن تضع المبادئ وعلى المواطن المسيحي أن يطبقها.
– ليس على الكنيسة أن تناصر اتجاهًا معينًا أو برامج معينة لأنها لا تمتلك الخبرة .