لا شك أنه كثر الكلام في الولايات المتحدة الأمريكية هذه الأيام عن المحكمة الدستورية العليا فيها، وعما يمكن أن تعمله وتحكم به وتتخذه هذه المحكمة من قرارات وأحكام نهائية وملزمة للكبير والصغير في البلاد، بدايةً من المرشحين لرئاسة الجمهورية أو رئيس الجمهورية نفسه الجالس على كرسي الرياسة، إلى رجل الشارع العادي. وأيضًا لها السلطان أن تحكم في قضايا الخصومات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي وما يرتكبه أي مرشح أو رئيس أمريكي من مخالفات للقانون والدستور إلى القضايا الصحية كالتحول الجنسي للشباب والأطفال الصغار، أو تحكم في مدى إمكانية إجهاض المرأة الحامل من عدمه، وفي أي من شهور الحمل يمكن للمرأة أن تسقط جنينها، إلى آخره من القضايا المجتمعية أو الأمنية والسياسية وغيرها.
وكعادتي حيث إنني دائم التفكير في الكنيسة، جسد المسيح الحي، وخاصةً الإنجيلية منها في مصر وفروعها في كل بلاد الدنيا، وما تتعرض له الكنيسة اليوم من مشاكل وخلافات وانقسامات من داخلها وخارجها، سواء من المسئولين عنها أو المنتسبين إليها ومن قسوسها وأعضائها والروابط المختلفة التابعة لها ومن الفضائيات المسيحية الإنجيلية الناطقة بالعربية والتي تبث اغلبها إن لم تكن كلها من خارج أرض مصر، والتي يؤسسها ويتحكم في مسارها ويحرك الكثير منها شخصيات إنجيلية غير معروفة الهوية والانتماء، وغير معروف مصادر حصولهم، هم والعديد من القسوس والخدام الإنجيليين، سواء داخل مصر أو خارجها، على شهادات الدكتوراه التي يحملونها ويدعون الحصول عليها بالدراسة والجد والتعب، مع أن معظمهم، كما هو معروف ومؤكد ويمكن توثيقه، قد حصل عليها من تجار وسماسرة شهادات كليات الدراسات اللاهوتية والذين بعضهم أسماء معروفة للشعب المسيحي وللخدام الإنجيليين في مصر وخارجها، وحتى معروفة للمسئولين عن رئاسة الطائفة الإنجيلية في مصر. ولا يعلم أحد كيفية حصول بعض مؤسسي أو سارقي الفضائيات أو مديريها على هذه الشهادات. ولا يعلم أحد كيفية ومصادر تمويل مثل هذه الفضائيات والكنائس، وما هي إيمانياتهم وأهدافهم من امتلاك مثل هذه الفضائيات، وبالطبع لا يعرف أحد أية معلومات عن مرتبات ودخول المسئولين عنها وما مقدار ما ينفقون من أموال المتبرعين على احتياجاتهم الشخصية أو ملذاتهم العالمية أو على أحسن وأخلص تقدير ما ينفقونه من أموال المتبرعين لمجاملة قادة ورئاسات بعض الطوائف المسيحية غير الإنجيلية في مصر. فأوضح مثال على ما أقول هو أن المؤسس الأول لإحدى القنوات الفضائية الإنجيلية هو قس إنجيلي الطائفة، أمريكي الجنسية، رسولي المذهب، مصري المولد في ملجأ لليان تراشر، والمسئولون الذين تعاقبوا على إدارتها أيضًا كانوا إنجيليين بل وأكثر من ذلك فمنهم مَنْ هو خمسيني التعاليم والمعتقد لدرجة التطرف، ومع ذلك فمن يتابع قناته الفضائية يثق أنها قناة أرثوذكسية حتى النخاع، فهو يسمح بإذاعة برامج ومدائح أقل ما يقال عنها إنها تحمل تجديفًا واضحًا على المسيح والروح القدس، فمثل هؤلاء يساومون على إيمانهم وعلى الحق الكتابي لمصالحهم الشخصية، ويتنازلون عن التمسك بمعتقداتهم وإيمانياتهم الشخصية في سبيل إرضاء هؤلاء القادة الدينيين. ولا يعلم أحد في أية مجالات يبدد مسئولو هذه الفضائيات أموال المتبرعين، وهم يرفضون الخضوع لمراقبين من القادة الروحيين، المخلصين والمحايدين المنصفين الأمناء، لتقويمهم وتصحيح أعمالهم وطرق صرفهم لأموال المتبرعين، وإعادتهم إلى الطرق الإلهية الكتابية السليمة إن هم خرجوا يومًا عن الخط الكتابي المسيحي، حيث إننا جميعًا في الموازين إلى فوق. وليس أدل على ذلك من أن هناك فضائية مسيحية واحدة، وهي “شبكة قنوات الكرمة الفضائية” هي الوحيدة التي ألزمت نفسها بالخضوع لهيئة أمريكية معروفة ومحترمة وتُدعى ECFA وهي الحروف التي تكتب لاختصار اسم الهيئة والتي هي: Evangelical Council for Financial Accountability وترجمتها “المجلس الإنجيلي للمحاسبة المالية” وهي هيئة خاصة للمحاسبة والمراجعة وللتفتيش المادي على الخدمات والهيئات المختلفة وحساباتها وعلى دخلها من التبرعات وعلى المجالات والأموال التي تقوم بصرفها من التبرعات وعلى الدخل السنوي فيها. والكرمة تدفع الكثير من أعوازها لتلك الهيئة الأمريكية لتقوم بهذا الدور عنها وتستلم من هذه الهيئة شهادة سنوية تؤكد مراجعتها واعتمادها وموافقتها على كل ما قامت القناة بالصرف عليه خلال العام.
أمام كل ما تقدم وغيره الكثير الذي لا يسمح المجال بنشره رأيتني اسأل نفسي: لماذا لا تكون هناك محكمة دستورية عليا للكنيسة الإنجيلية في مصر؟ ولماذا لا تقسم السلطات في الكنيسة الإنجيلية إلى ما يشابه تقسيم السلطات في أمريكا أو في أي بلد ديمقراطي، كأن تكون هناك السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية؟ حيث إننا في الكنيسة، وخاصةً الإنجيلية المصرية، بقسوسها وشيوخها وشمامستها وخدامها والمكون منهم ما يسمونه مجلس الكنيسة، ثم المجلس الملي الإنجيلي العام، نخلط بين هذه السلطات الثلاث كالتعبير الشائع، سمك لبن تمر هندي، فتجد في معظم الكنائس القسيس أو رئيس المذهب أو رئيس الطائفة هو الذي يتخذ القرارات كسلطة الكنيسة التشريعية، ثم يشرف ويراقب ويكون هو المسئول عن تنفيذ ما شرعه هو شخصيًا من قرارات وأوامر إما بنفسه أو بمن حوله. وفي حالة الدخول في خصومة مع المعترضين على تشريعاته، يتحول هو نفسه إلى وكيل النيابة وربما القاضي والحاكم على الآخرين ومنفذ الحكم أيضًا وكأنه رئيس السلطة القضائية، وبذلك يكون القسيس أو المسئول أو رئيس الطائفة هو الشخص الحامل لمصباح علاء الدين، الفاهم في كل مجال وأمر، ومقترح الحلول لكل مشاكل الطائفة، وفي النهاية هو القاضي والحاكم في كل خصومة حتى لو كان طرفًا فيها، وهكذا. لذا فلتحديد المسئوليات ومجالات العمل والقيادة في الكنيسة الإنجيلية المصرية لا بد من وجود السلطات الثلاثة المعمول بها ومن خلالها في العديد من البلاد والكيانات والمؤسسات المختلفة. وهذه السلطات الثلاث كما ذكرت سابقًا هي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية والتي من المحتم أن تكون منفصلة في ممارسة مهامها تمامًا عن بعضها البعض.
فعمل السلطة التشريعية في الكنيسة هو أن تكون شريكًا أساسيًا في صنع السياسات العامة في الكنيسة والتي تجعل مهمة الرقابة على هذه السياسات أكثر أهمية من مهمتها الأساسية وهي التشريع، فالرقابة على تنفيذ ما تم تشريعه هي الوظيفة التي تستطيع برلمانات أو مجالس الكنائس من خلالها ضمان فاعلية التشريع والتزام “الحكومة الكنسية” أو مجلس الكنيسة برئاسة القسيس أو المجلس الملي برئاسة رئيس الطائفة بأجندة السياسة العامة التي نالت موافقة ممثلي الشعب أو أعضاء الكنيسة أو الطائفة. فمن بين أهم أعمال السلطة التشريعية في رئاسة الطائفة:
أ- إقرار السياسة العامة للكنيسة فلا تُترك السياسة العامة للكنيسة أو الطائفة لشخص واحد ليفتي في كل الأمور التي يعلمها ويعرفها أو التي لا يعلمها ويعرفها أو حتى سمع شيء عن وجودها في الشارع الكنسي.
ب- تختص السلطة التشريعية بإقرار الموازنة العامة للكنيسة فلا ينفق الرئيس أو القسيس من أموال غير معلومة المصدر، وبالطبع فغير معلوم المصدر لابد أن يُصرف الجزء الأكبر منه على غير معلوم المشروع أو الاحتياج، ومتخذ القرار لصرف هذه المبالغ المادية غير معلوم الأهداف والنتائج المراد الوصول إليها من صرف هذه المبالغ، وغير معلوم مَنْ هو مراجع الحسابات في حالة وجود مراجع للحسابات في الكنيسة أو الطائفة.
ج- إعداد الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والروحية للطائفة.
د- الرقابة على السلطة التنفيذية، للتأكد من تنفيذ ما تم تشريعه بالطريقة والوقت والأهداف التي تم التشريع من أجلها.
هـ – لعل أهم ما يمكن أن يختص بالسلطة التشريعية في البلاد أو في الكنيسة هو سحب الثقة عن الحكومة أو المجلس الملي ككل مع رئيسه، وفي حال كان سحب الثقة جرت الموافقة عليه بأغلبية النواب أو ممثلي الكنائس وجب على “الحكومة” الكنسية تقديم استقالتها فورًا وانتخاب غيرها تكون كفء للقيام بمهام رئاسة الكنيسة أو الطائفة.
الرئاسة ينبغي أن تتكون من أعضاء ممثلين لكل مذاهبها يكونون قادرين على فهم الأمور سواء داخل الكنيسة أو خارجها، وتحديد علاقتها مع رجل الشارع العادي غير المسيحي، والدارسين المتخصصون في رسم وتشريع القوانين والسياسات التي لا بد للكنيسة أن تسير عليها.
ثم السلطة التنفيذية هي السلطة التي تقوم بتنفيذ كل ما تشرعه السلطة التشريعية وفقًا لدستور واضح معلن، وهذه السلطة تتمثل في رئيس الطائفة ومساعديه وأعضاء المجلس الملي الإنجيلي العام.
أما السلطة الثالثة فهي السلطة القضائية، بمختلف أنواع وأشكال محاكمها والتي تتدرج من المحكمة الإبتدائية وتنتهي بالمحكمة الدستورية العليا المختصة بالحكم في النزاعات وتقرير ما هو موافق للتعاليم الكتابية وفقًا لما دونه الكتاب المقدس من أحكام، والحكم على مدى مطابقة أية قضية يمكن أن تظهر على السطح الكنسي، على أن تكون قرارات هذه السلطة ملزمة للجميع بما فيهم رئيس الكنيسة الرئيس الأرضي للكنيسة المصرية نفسه.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا الاحتياج إلى محكمة دستورية عليا للكنيسة الإنجيلية المصرية، والإجابة تتلخص على سبيل المثال لا الحصر فيما يلي:
أ- لأن أعداد المذاهب الإنجيلية تزايدت في السنين القليلة الماضية، لأن بعضها تم الاعتراف به كعضو ومذهب بالمجلس الملي الإنجيلي العام برئاسة الطائفة الإنجيلية مجاملة لرؤسائها أو لكثرة ما لديهم من أموال الأمريكان التي اشتروا بها كنائس مختلفة وكثيرة حتى يتم استيفاء شروط تأسيس مذهب جديد في المجلس الملي المصري حسب دستور المجلس الملي الإنجيلي العام. وكمثال على ذلك فقد كان لدينا في مصر لعشرات السنين مذهب معمداني واحد أسسه القسيس صديق وسيلي، وأما اليوم لدينا أربعة مذاهب معمدانية ما زال بعض مؤسسيها أو أقاربهم أو ورثتهم يتصارعون حول امتلاك كنائسها. وهكذا، وعلى النقيض من هذا، فإن تحاول بعض المذاهب غير الإنجيلية الأصل تحاول الانفصال عن المجلس الملي الإنجيلي العام فلا يمكنها أن تحصل على قرار انفصالها وتلجأ رئاسة الطائفة والمذاهب المختلفة للمحاكم الحكومية المغرضة في أحكامها، والمنحازة دون وجه حق لطرف من الأطراف المتصارعة حسب توجيه الأمن المصري لقضاة هذه المحاكم.
ب – نحتاج إلى محكمة دستورية عليا للكنيسة الإنجيلية المصرية لأن أعداد الأعضاء في كل مذهب وكنيسة من الكنائس الإنجيلية زاد وكثر كثيرًا جدًا وبالتالي كثرة المشاكل والقضايا والاختلافات حول كل شيء تقريبًا في الكنائس المحلية وفي الكنيسة الإنجيلية عامة، الأمر الذي لا تعرف المحاكم الشرعية الأخرى خباياه ولا تستطيع بالتالي الحكم فيها.
ج- ولعل أحد أهم الأسباب التي تحتاج معها الطائفة الإنجيلية في مصر إلى محكمة دستورية عليا هو ظهور عدة شطحات وهرطقات في الشارع الكنسي في الآونة الأخيرة، كهرطقة الصوفية ولاهوت المحبة الحر، وظهور القديسات والقديسين الراقدين فوق الكنائس الإنجيلية، أو الترجمات الإسلامية للكتاب المقدس، الأمور التي كان يمكن أن تُتخذ ضدها قرارات حاسمة كتابية ملزمة للمنادين بها لو كانت لدينا محكمة دستورية عليا للكنيسة الإنجيلية المصرية، مع علمي أن أصحاب مثل هذه الهرطقات والترجمات ما كانوا ليخضعوا لقرارات هذه المحكمة إن وجدت لكن على أقل تقدير نكون ككنيسة إنجيلية مصرية قد أصدرنا قرارًا وحكمًا يبرئ ساحتنا أمام الناس والله يوم الحساب.
د- سبب رابع لضرورة تكوين مثل هذه المحكمة الدستورية العليا للطائفة الإنجيلية المصرية هو تزايد عدد الإرساليات الأجنبية التي دخلت إلى مصر بأجنداتها الخاصة وأطماعها المعلنة والخفية وتعاليمها السليمة الكتابية أو الغريبة الشيطانية والتي يختلف الكثير منها مع المبادئ والقيم المسيحية الكتابية والبيئة الشرقية لأصحاب البلاد.
هـ- سبب آخر هو تزايد عدد الفضائيات المسيحية المغرضة والمخلصة وصعوبة السيطرة على ما يقدم فيها والتي ينسب جُل ما يقدم بها إلى تعاليم الكنيسة الإنجيلية المصرية، في الوقت الذي تغط فيه الكنيسة الإنجيلية وقادتها في نوم عميق لا يعلم إلا الله متى ستفيق منه إن كانت ستفيق يومًا من الأيام.
و- بسبب عدم منطقية أن تُحكم الطائفة الإنجيلية بشخص واحد، بغض النظر عمن هو هذا الشخص، والكلام هنا ليس عن شخص بعينه، وكيف وصل إلى سدة الحكم، وحوله لفيف من أصدقائه والمقربين منه والمنتفعين من وجوده.
ز- نحتاج أيضًا إلى محكمة دستورية عليا للكنيسة الإنجيلية المصرية بسبب عدم وجود نظام قضائي مسيحي إنجيلي داخلي يضمن تطبيق العدالة المسيحية غير الطائفية أو المذهبية على كل مَنْ يلجأ له، فكيف لمجلس ثلثي أعضائه من مذهب إنجيلي واحد أن يحكم بما أنزل الله في كتابه الكريم التوراة والإنجيل؟ وبالرغم من عدم تفعيل ما يسمى بدستور الكنيسة الإنجيلية في مصر إلا أن المادة الوحيدة المفعلة في الدستور الحالي والتي يتمسك بها أصحاب هذا الدستور ومَنْ ورثوه لخلفهم الصالح من بعدهم هو أن ثلثي أعضاء المجلس لا بد أن يكونوا من مذهب واحد، علمًا بأن هذا الدستور المراد تغييره قد تغيرت عناصره وأسباب نزوله من عند غير الله، فلم تعد الكنيسة المشيخية هي أكبر الكنائس عددًا، ولم تعد أكثر الكنائس علمًا وتعليمًا، ولم تعد كلية اللاهوت الإنجيلية هي أكبر كليات اللاهوت في مصر ومع ذلك فهي الكلية الوحيدة المعترف ببكالوريوسها ودبلومها الليبرالي من قِبل السلطات التعليمية المصرية. إذًا فالخطوة الأولى لتأسيس محكمة دستورية عليا للكنيسة الإنجيلية المصرية هي أن تضع وتستند الكنيسة الإنجيلية في مصر إلى دستور، واضح، عادل، يحترم وينفذ قانونًا عادلًا يمثل جميع فئات الشعب المسيحي الإنجيلي المصري ويتضمن كل ما هو جليل وطاهر وكتابي وعلمي ومجتمعي سليم. ولا بد للكنائس الإنجيلية أن يكون لها كيان موحد يحكم نفسه بنفسه، ولا بد للكيان الإنجيلي المصري أن يرى نفسه كدولة داخل دولة، وهذا لن يتعارض مع دستور الدولة المصرية ولا حتى مع النص القرآني: “وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.” بقي سؤال واحد أخير وهو من شقين، وهذا السؤال هو: هل أوصى المسيح يسوع تبارك اسمه أو تكلم لتلاميذه عن تأسيس وعمل محكمة دستورية عليا للكنيسة على الأرض بعد صعوده إلى السماء؟ وهل كان هناك بالفعل مثل هذه المحكمة بعد صعوده تبارك اسمه؟ والإجابة على هذين الشقين للسؤال هي: نعم، أوصى المسيح تبارك اسمه بعمل محكمة دستورية، أي كتابية إنجيلية، وتمم الرسل بالفعل وصيته بعملها على الأرض، فبالرغم من عدم استخدام المسيح للعنوان “المحكمة الدستورية العليا” بين التلاميذ لكنه قال لهم: “كل ما حللتموه على الأرض يكون محلولًا في السماء وكل ما ربطتموه على الأرض يكون مربوطًا في السماء”، فما أوضح هذا الأمر، إذ أكد المسيح لتلاميذه أنهم أعضاء المحكمة الدستورية السماوية العليا للحل والربط وأكد لهم أن السماء نفسها ستكون ملزمة بربط ما يربطونه وبحل ما يحلونه. أما الأمر الثاني فهو أنه كانت هناك جماعة من قادة الرسل وتلاميذ المسيح تتكون من بطرس ويعقوب ويوحنا وغيرهم من هؤلاء المعتبرين أعمدة كما وصفهم كتاب الكتب الكتاب المقدس وكانوا يمثلون القول الفصل والحكم النهائي فيما تخضع له الكنيسة الأولى في ذاك الزمان الأول، فلقد فصلت هذه المحكمة في عدة قضايا واجهت المؤمنين يومها، كقرار اختيار الرجال الذين أوكلوا إليهم خدمة الموائد في الكنيسة، واختيار الرسول الثاني عشر بدل من يهوذا الإسخريوطي الذي باع سيده ثم مضى وشنق نفسه، وحكمت هذه المحكمة الثلاثية أيضًا بأمر وجوب أن يمتنع المؤمنون عن الزنا وأكل الميت والمخنوق وبألا يتقيدوا بحفظ الناموس أولًا قبل الإيمان وإتباع المسيح، وغيرها من الأحكام والقول الفصل والحكم النهائي في أمور روحية وزمنية كثيرة، ولعل أوضح ما جاء في أمر إقامة المحاكم الدستورية الروحية العليا للكنيسة الإنجيلية الأولى هو ما كتبه بولس الرسول إلى كنيسة الكورنثوسيين الإنجيليين (أي الكنيسة التي تتبع وتحكم بإنجيل المسيح) ما نصه: “أَيَتَجَاسَرُ مِنْكُمْ أَحَدٌ لَهُ دَعْوَى عَلَى آخَرَ أَنْ يُحَاكَمَ عِنْدَ الظَّالِمِينَ وَلَيْسَ عِنْدَ الْقِدِّيسِينَ؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْقِدِّيسِينَ سَيَدِينُونَ الْعَالَمَ؟ فَإِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُدَانُ بِكُمْ أَفَأَنْتُمْ غَيْرُ مُسْتَأْهِلِينَ لِلْمَحَاكِمِ الصُّغْرَى؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّنَا سَنَدِينُ مَلاَئِكَةً؟ فَبِالأَوْلَى أُمُورَ هَذِهِ الْحَيَاةِ! فَإِنْ كَانَ لَكُمْ مَحَاكِمُ فِي أُمُورِ هَذِهِ الْحَيَاةِ فَأَجْلِسُوا الْمُحْتَقَرِينَ فِي الْكَنِيسَةِ قُضَاةً! لِتَخْجِيلِكُمْ أَقُولُ. أَهَكَذَا لَيْسَ بَيْنَكُمْ حَكِيمٌ وَلاَ وَاحِدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ إِخْوَتِهِ؟ لَكِنَّ الأَخَ يُحَاكِمُ الأَخَ وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَالآنَ فِيكُمْ عَيْبٌ مُطْلَقًا لأَنَّ عِنْدَكُمْ مُحَاكَمَاتٍ بَعْضِكُمْ مَعَ بَعْضٍ. لِمَاذَا لاَ تُظْلَمُونَ بِالْحَرِيِّ؟ لِمَاذَا لاَ تُسْلَبُونَ بِالْحَرِيِّ؟”
أعلم أن الأمر الذي اكتب عنه هنا في هذا المقال شائك وجديد على الكنيسة لذا سأحاول أن أعاود الكتابة فيه بتفصيل وتوضيح أكثر، لعل المسئولين عن الكنيسة الإنجيلية يأخذون الأمر على محمل الجد ويبدأون في التفكير فيه ومحاولة تنفيذه إن أرادوا أن يحكموا بالعدل وبما أنزل الله في كتابه الوحيد التوراة والإنجيل وأرادوا أن يقسطوا بين المذاهب المختلفة والله المستعان. اللهم إني قد أبلغتُ، اللهم فاشهد.